ليست الحملة التي تشنها الجهات الرسمية العراقية على الكاردينال لويس روفائيل ساكو، بطريرك الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية في العراق وحول العالم، مجرد حدث عابر. تدلّ تلك الحملة، التي توّجت بمرسوم جمهوري صدر في الثالث من تموز (يوليو) الماضي واستهدف الكاردينال ساكو، على أن الهدف هو السيطرة على الوجود المسيحي في هذا البلد وإنهاؤه. حصل ذلك في سوريا ويحصل حالياً في لبنان.
بكلام أوضح ومباشر، يرمز الكاردينال ساكو إلى الوجود المسيحي القديم في العراق. لعب الكاردينال دوراً مهماً في تنظيم زيارة البابا فرنسيس للعراق في آذار (مارس) 2021، مبرزاً أهمّية الوجود المسيحي في هذا البلد عبر التاريخ. هل باشرت السلطات الرسمية تصفية حساباتها مع رأس الكنيسة الكلدانية الكاثوليكيّة مستخدمة رئيس الجمهوريّة؟
بموجب المرسوم الجمهوري الذي يحمل الرقم 147 الصادر في الثالث من تموز 2023، والذي وقعه الرئيس عبد اللطيف رشيد (كردي)، سُحب الاعتراف العراقي الرسمي بالكاردينال. لم تعد من سيطرة لرأس الكنيسة الكلدانية الكاثوليكية على أملاك الكنيسة. صارت السيطرة على الأملاك لفصيل مسلّح كلداني يعمل في إطار “الحشد الشعبي” الذي ليس سوى جيش مواز للجيش العراقي في إمرة “الحرس الثوري” الإيراني. يبدو مطلوباً أن تكون تركيبة السلطة في العراق نسخة طبق الأصل عن تركيبة السلطة في “الجمهوريّة الإسلاميّة” في إيران. مطلوب، بكل بساطة، أن يكون “الحشد الشعبي” من يحكم العراق، مثلما “الحرس الثوري” يحكم إيران.
من هذا المنطلق، لا يمكن سوى الربط بين سلوك الرئاسة العراقية، ومن خلفها حكومة محمّد شياع السوداني، التي يفترض أن تكون على مسافة واحدة من كلّ عراقي من جهة… وما تشهده مدينة كركوك من حوادث تستهدف تقييد الوجود الكردي فيها من جهة أخرى. تاريخياً، تعتبر كركوك من بين أكثر المدن العراقيّة تنوعاً. في المدينة عرب وتركمان وأكراد ومواطنون من كلّ المذاهب والأديان تقريباً. ليس مفهوماً أو مبرّراً تحرّك “الحشد” في كركوك لمنع أي نشاط لحزب كردي يمتلك تاريخاً عريقاً، هو الحزب الديموقراطي الكردستاني الذي يتزعمه مسعود بارزاني. سقط قتلى في كركوك بعدما أطلقت قوات الأمن النار على تظاهرة كرديّة. خرجت تلك التظاهرة احتجاجاً على قطع موالين لـ”الحشد الشعبي” الطريق العام بين كركوك وأربيل وتنفيذ هؤلاء اعتصاماً مفتوحاً اعتراضاً على عودة تنظيمات الحزب الديموقراطي إلى ممارسة نشاطاتها في محافظة كركوك.
من الشجاعة تسمية الأمور بأسمائها. من الشجاعة الاعتراف بأن الدفاع عن الكاردينال ساكو ليس دفاعاً عن الوجود المسيحي فحسب، بل هو دفاع عن حرّية كل مواطن عراقي. عن الشيعي والسنّي وعن الكردي والتركماني. يفرض ذلك التضامن مع كلّ من دعم وثيقة وقعها مثقفون وسياسيون وإعلاميون في شأن الحملة على رأس الكنيسة الكلدانيّة الكاثوليكيّة. دانت الوثيقة “حملة التشويه المستمرة منذ شهور طويلة فى وسائل إعلام عراقية حكومية بهدف اغتيال البطريرك معنوياً”. كذلك دانت تواطؤ الدولة العراقية مع حملة زعيم ميليشيا، متهم دولياً بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، في مواجهة البطريرك ساكو.
من الحملة على المسيحيين بهدف تهجيرهم وسلب ممتلكات الكنيسة الكلدانيّة… إلى حوادث كركوك، يتحوّل العراق يومياً إلى “ساحة” تسرح فيها إيران وتمرح. لا شيء يحدث بالصدفة في العراق، الذي لم يعان في الماضي من الانقلابات العسكريّة وحزب البعث ومن نظام صدّام حسين وحروبه العبثيّة ومغامرته الكويتية فحسب، بل إن العراق يعاني حالياً من نتائج الحرب الأميركيّة التي سلّمت العراق على صحن من فضّة إلى إيران وأقامت نظاماً يقوم على التفرقة بين العراقيين والتمييز بينهم.
قضية المسيحيين العراقيين وقضيّة كركوك قضيّة واحدة. إنّها قضيّة تستهدف نقل التجربة الإيرانية، تجربة حكم “الحرس الثوري” إلى العراق، فيما محمّد شيّاع السوداني وحكومته شاهدا زور لا أكثر.