سيزداد وقع خطاب القطيعة والعنصرية والإسلاموفوبيا، لكنه أيضا خطاب من دون أفق ويندرج ضمن منطق صراع الحضارات والعودة إلى حروب الصليب والهلال، ويمثل أفضل هدية لدواعش وفواحش العدمية والتوحش.
أكد الثلاثاء الأسود (22 مارس 2016) في بروكسل، و“ليلة ترويع باريس” (13 نوفمبر 2015) على الانكشاف الاستراتيجي للقارة القديمة. وبدل أن تكون أوروبا قاعدة الاستقرار الدولي، إذ بها تصبح كعب أخيل النظام العالمي في مرحلة الاضطراب الانتقالية، بسبب عدم وجود سياسة خارجية موحدة، أو بسبب مقاربات خاطئة للأزمات، وكذلك بسبب عدم نجاعة أساليب مكافحة الإرهاب الجديد وتبريراته الأيديولوجية.
بالطبع، يمكن الكلام عن آثار جحيم الشرق الأوسط وعن إرهاب من دون حدود كظاهرة عالمية تشمل إندونيسيا كما ساحل العاج، وبروكسل كما تونس، لكن هناك بعد أوروبيا خاصا يتمثل في عدم القدرة على تحصين دول الاتحاد من تداعيات الإرهاب المتنامي، إما بسبب فشل في الاستراتيجيات المتبعة، أو بسبب غياب الوزن السياسي على الساحة الدولية، وخاصة في معالجة الأزمات التي تنعكس أمنيا واستراتيجيا على أوروبا، وفي طليعتها الأزمة السورية.
في العام الماضي بدت باريس تحت ضغط الإرهاب بمثابة الحلقة الأضعف غربيا أو الأكثر تعرضا لتداعيات ما يحصل على الضفة الأخرى من المتوسط، واليوم تبدو بروكسل القريبة تاريخيا وجغرافيا منها، بمثابة الخاصرة الرخوة لأمن أوروبا بالرغم من كونها العاصمة السياسية للاتحاد الأوروبي، ولا يعود ذلك إلى رمزيتها بالنسبة إلى النموذج الأوروبي أو لميزتها الكوزموبوليتية التي لا تروق بالطبع لحملة أفكار القطيعة ومن يعتمدون تفسيرا منحرفا للإسلام، بل يتصل الأمر بطبيعة النظام البلجيكي المنقسم بين الفرنكوفون والفلامون وفيدراليته الهشة، وكذلك بسبب قصور التنسيق الأوروبي الأمني عن مواجهة الإرهاب الداعشي.
تعرضت أوروبا للإرهاب المتفرع عن تنظيم القاعدة للمرة الأولى في مدريد في العام 2004 وتبعتها اعتداءات لندن في سنة 2005، وبعد عقد من الزمن بدأ دور جديد انطلاقا من فرنسا وبلجيكا، مع عمليات يتبناها ما يسمى بتنظيم الدولة الإسلامية الذي استقطب في صفوفه، بحسب الإحصاءات، ما بين خمسة آلاف وستة آلاف أوروبي مروا أو بقوا في العراق وسوريا، وأخيرا أخذ بعضهم يتجه نحو ليبيا أو يحاول البعض منهم التسلل عبر قوافل النازحين أو بوسائل أخرى إلى داخل أوروبا.
للوهلة الأولى، يمكن أن نقفز إلى الاستنتاج بوجود ترابط محكم بين مسارح أزمات الشرق الأوسط واستهداف أوروبا، لكن ذلك لا يعفي من التأكيد على أن غالبية (بل ربما جميع) من خطط ونفذ اعتداءات باريس وبروكسل هم من مواليد أوروبا وحملة جنسياتها، ولهذا هناك إشكالية مزدوجة في المقاربة. تبرز أزمة المواطنة والانكماش نحو الهوية الخاصة الدينية أو العرقية بالنسبة إلى فئات من الأوروبيين من أصول عربية وأفريقية وآسيوية، ويظهر الفشل الاجتماعي في المدن الأوروبية وضواحيها بالنسبة إلى شريحة من الشباب المسلم المهمّش وغير المندمج والذي يأخذ بعضه التدين كوسيلة لطمس الماضي الإجرامي أو العبثي، وهكذا يحصل المرور أحيانا من شبكات الجريمة والمخدرات إلى شبكات الإرهاب. ومن هذه الأوساط غالبا، ذهب ويذهب، بعض الشباب الأوروبي المسلم إلى ما يعتبره أراضي الجهاد من أفغانستان إلى البوسنة والجزائر، ثم إلى العراق وسوريا، وشكل إعلان تنظيم داعش للخلافة في 2014 وسيطرته على أراض واسعة ليس بعيدا عن أوروبا مدعاة لجذب شباب يفتش عن مغامرة أو مؤمن بطرح أيديولوجي عبثي يذهب بعيدا في عدميته وتفسيراته.
على صعيد آخر، لم تتأقلم المؤسسات الأوروبية مع تطور الوقائع الأمنية، إذ بقيت الحدود الخارجية والداخلية من دون آليات رقابة فعالة، ولا يقتصر سبب التراخي على تطبيقات تأشيرة شينغن، بل بسبب تخيّل بقاء أوروبا واحة استقرار وأمن في جوار مضطرب. ومن الواضح أن استخلاص الدروس حول الثغرات الأمنية والعمل الوقائي لم يكن كافيا، إلى حد تمكن شبكات الإرهاب من المرور عبر الشباك، لأن تبادل المعلومات واستغلالها لا يؤدي إلى أسباب بيروقراطية أو أنانية وطنية (انتقل موضوع الإرهاب ليصبح في صلب الحملة الانتخابية الأميركية والمرشحة هيلاري كلينتون أدانت خلط منافسيها بين الإرهاب والإسلام، لكنها غمزت من قناة ضعف التنسيق الأوروبي) ولذا من دون أساليب أخرى لن تتحسن الأدوار وأبرز الاقتراحات إنشاء إدارة مخصصة لاستخبارات مكافحة الإرهاب داخل الاتحاد الأوروبي.
هذا التركيز الأمني لا يعني إهمال الجانب الفكري من المعركة ضد الإرهاب والتعامل مع المسلمين والإسلام ليس من المنظور الأمني فقط، بل عبر الدفع لمزيد من الاندماج والتعامل مع النخب المسلمة السياسية والدينية وفق شراكة في المواطنة وتقاسم المسؤوليات. إن التركيز على الراديكالية أو التهميش لا يحيط جيدا بتوصيف هذا الإرهاب، لكن اعتبار السلفية هي العدو لا يفي أيضا بالغرض ويوصل إلى افتراض يقول بأن كل سلفي هو بمثابة مشروع إرهابي، والمسألة ليست بهذا التبسيط لأنه دوما يتوجب تحاشي الخضوع لدعاية داعش، كما لبعض التصورات حول الإسلام. الدين الإسلامي فيه تنوع كبير وفيه انحرافات لا يمكن معالجتها بالاختزال أو العزل، بل عبر جهد منظم وتعاون مع المسلمين الأوروبيين والدول والمرجعيات الإسلامية حول العالم. من دون شك سيزداد وقع خطاب القطيعة والاقتلاع والعنصرية والإسلاموفوبيا، لكنه أيضا خطاب من دون أفق ويندرج ضمن منطق صراع الحضارات والعودة إلى حروب الصليب والهلال، ويمثل أفضل هدية لدواعش وفواحش العدمية والتوحش.
على صعيد أشمل بما يتصل بخلفية الفشل السياسي المرتسم وراء حرب الإرهاب ضد أوروبا، يتبيّن أن أوروبا تحصد ما تزرع، وهي تدفع ثمن تهميش موقعها الدولي وانعدام سياستها الخارجية الفعالة في السياق التاريخي المعاصر لمرحلة ما بعد الحرب الباردة، فشل الاتحاد الأوروبي في مواجهة حروب البلقان في أواخر القرن الماضي، واحتاج إلى المشاركة الأميركية الفعالة، وفي الأزمة الأوكرانية بدا جليا عدم قدرته على احتواء ردة فعل موسكو. وفي قضايا الشرق الأوسط سجل الاتحاد حضوره كشريك ثانوي في المفاوضات حول الملف النووي الإيراني، لكنه لا يزال غائبا، بشكل صارخ، عن دائرة الفعل في ملف النزاع الفلسطيني – الإسرائيلي.
وفي الإجمال لم يملك الاتحاد الأوروبي أي استراتيجية أو خطة لمواجهة التحولات في جنوب المتوسط والنزاعات الملتهبة من ليبيا إلى سوريا، وما يرتبط بها من الحرب ضد الإرهاب، إلى معضلة اللجوء التي كشفت خللا في العمل المؤسساتي الأوروبي ووضعت شعارات منظومة القيم الأوروبية على المحك.
من بروكسل إلى ستراسبورغ تكثر الخطابات وصياغة التقارير والتوصيات إزاء هذه الأزمة أو تلك، لكن في ميزان الحركة الدبلوماسية والعسكرية ومعطيات النفوذ، يمكن الاكتفاء بمراقبة وتقييم أدوار فرنسا وبريطانيا وألمانيا لتكوين نظرة عن الانكشاف أو العجز الأوروبي إزاء النزاع السوري في ديناميكياته وتداعياته. في مواجهة الجوار الملتهب للقارة القديمة، لا يكفي توصيف الواقع الخطر، لأن هناك من يدفع الأثمان نتيجة بطء أوروبا في فهم عواقب الكوارث التي يشهدها الشرق الأوسط أو أفريقيا.
لقد فجّرت الحرب السورية كل الحدود، لدرجة أن أوروبا لن تستطيع عزل نفسها وحمايتها من النتائج المترتبة عن ملفات اللجوء والإرهاب واحتمال تغيير الخرائط والكيانات. من نافلة القول أن الاكتفاء بمعزوفة أولوية الحرب ضد الإرهاب لا يمثل وصفة سحرية، بل المطلوب العمل من أجل حلول في سوريا والعراق تتيح للعرب السنة استعادة مواقعهم الطبيعية في هاتين الدولتين، وهذا يسهّل عزل داعش على المدى المتوسط، وكل وهم حول إعادة تأهيل منظومة بشار الأسد في سوريا لن يسفر عنه إلا تمديد المأساة. ويتطلب ذلك حيادا أوروبيا في النزاع السني الشيعي، مع ربط تطوير التطبيع مع طهران بشرط وقف تمددها الإقليمي وحل مشاكلها مع الجوار العربي بالحوار.
سترتسم انطلاقا من المشرق ملامح توازنات عالمية جديدة، وبقاء أوروبا خارج دائرة الفعل في المسألتين السورية والليبية، تحديدا، ستكون له ارتدادات سلبية آنية ومستقبلية.
khattarwahid@yahoo.fr
أستاذ العلوم السياسية، المركز الدولي للجيوبوليتيك – باريس