تبدو السويد، للوهلة الأولى، مثل بطاقة بريدية مُلوّنة. وهناك، بالفعل، ما لا يحصى من صورها الطبيعية الخلاّبة، التي يعلقها، على الجدران، فقراء في بلدان مختلفة، في قرى عطشى تشويها الشمس، تعبيراً عن حنين غامض إلى خضرة داكنة، وبياض الثلج، ونعمة الماء، في جنّة بعيدة محتملة.
وليس في الواقع نفسه ما يكفي لتبديد غواية البطاقة البريدية. فالبلد، التي عاشت زمناً إمبراطورياً في قرون سبقت، لم تتوّرط في حرب منذ مائتي عام، وهي ملكية دستورية، فيها نظام للرفاه الاجتماعي، والرعاية الصحيّة، من الأفضل في العالم، ناهيك عن الديمقراطية ورغد العيش، والحرية، والحقوق المكفولة، حتى هوليوود تغمز، أحياناً، إلى التحرر الجنسي، هناك، بطريقة نعثر فيها على حسد، وعجب، وأحياناً قلق الطهرانية الأميركية.
ومع ذلك، إذا استعرنا عبارة شكسبير، وكما في كل مكان آخر، ثمة، دائما، رائحة نتنة في “مملكة الدنمارك” التي تصلح مجازاً لكل ما على ظهر البسيطة من دول وأنظمة سياسية واجتماعية. فتحت ألوان البطاقات البريدية الملوّنة، توجد حياة، ويوجد بشر من لحم ودم، وأحلام وأوهام وآلام وآثام. أما إيثاكا فلم، ولن، يصلها أحد، وحتى إذا وصل، بعد سنوات ينبغي أن تكون طويلة، كما في قصيدة كفافي ذائعة الصيت، سيجد وقد أصبح حكيما، وطاعناً في السن، لماذا كان ينبغي لكل تلك الإيثاكات أن تكون في حياة الإنسان: لأنها لا تعد بالبيت، بل تُفسّر معنى وجدوى الطريق.
على أي حال، وعلى الرغم من لحظة إمبراطورية ما بين القرنين السابع عشر والثامن عشر، إلا أن الحياد السياسي، والعيش بلا حروب على مدار قرنين لاحقين، هناك في الشمال الأوروبي البارد، لا يمكّن أساطير قومية، وسرديات كبرى، من مقاومة النعاس التاريخي، مع التذكير بحقيقة أن مجتمع الرفاه لا يكفي لإنشاء أو حماية هذا النوع من الأساطير والسرديات. ولعل من حسن حظ السويديين، بالتأكيد، أنهم لم يجدوا في لحظة إمبراطورية، عابرة، ما يُبرر الكلام عن أمة واحدة ذات رسالة خالدة.
والأهم، أن وَهَن الأساطير القومية، والسَرديّات الكبرى، يجعل من الصعب إعادة إنتاج عبء الرجل الأبيض، واستبدال ما تَلِفَ من “قصته” بقطع غيار جديدة، على الطريقة الأميركية، مثلاً، كما أسلفنا في معالجة تناولنا فيها طريقة ديفيد بالداتشي، ودانيال سيلفا، في إعادة إنتاج فكرة أميركا (قيم الفردية) لدى الأوّل، وفكرة إسرائيل (الجلاّد المُقدّس) لدى الثاني.
وعلى الرغم من حقيقة أن ستيغ لارسن، الماركسي، والناشط السياسي، استعان في إنشاء صورة وهوية فاعليه الروائيين (ميكيل بلومكفست، وليزبيث سلاندر) بقطعة غيار تقليدية من نوع البطل ـ الضد، إلا أنه جعل منهما كينونة هجينة، أي وحدة عضوية تتكوّن من عنصرين: ذكري وأنثوي، بمعنى أن حضور أحدهما غير قابل للتحقيق دون الآخر. وبما أن اللحظة الفيكتورية، ومختلف تجلياتها اللاحقة كانت، دائماً، ذكورية بامتياز، يصعب العثور في هذا النوع من الهجنة على ما يمثل إعادة إنتاج لنماذج سابقة أنجبتها سرديات كبرى، وأساطير شائعة.
ومع ذلك، ثمة ما يبرر المزيد من التوقف أمام صورة وهوية ليزابث سلاندر، التي لا تشكل الطرف الثاني في هجنة البطل ـ الضد، وحسب، بل وتجتمع فيها، أيضاً، هجنة مضاعفة: فهي وليدة علاقة بين ضابط سابق في المخابرات الحربية الروسية، لجأ إلى السويد، في زمن الحرب الباردة، وامرأة سويدية عانت من ميوله السادية، وماتت في مقتبل العمر نتيجة سوء المعاملة والتعذيب. وقد حاولت البنت الثأر لأمها بإلقاء زجاجة مولوتوف على أبيها، فكانت النتيجة وضعها في إصلاحية للجانحين، وفرض الوصاية عليها، وإخضاعها للعلاج النفسي على مدار سنوات، وإصابة الأب بعاهة مستديمة.
وبقدر ما يتعلّق الأمر بالبنت، كما الأب، نسترق النظر، على خلفية هجنة مزدوجة ومضاعفة، إلى ما وراء مجتمع البطاقة البريدية الملوّنة، من فساد وقسوة. ففي الإصلاحية، كما في نظام الوصاية، يتجلى مصير أشخاص، بلا حول ولا قوة (خاصة النساء) يجدون أنفسهم تحت رحمة بيروقراطية بلا قلب، وشطحات شخصيات مريضة، لا تُشفق على أحد. تُعذّب البنت بدعوى العلاج النفسي، وتُغتصب من جانب المحامي الموكل برعايتها، ومع هذا، وقبله، وبعده، لا تعترف مؤسسة الدولة بقدرتها على اتخاذ القرارات الخاصة بحياتها الشخصية.
هذه التجارب، وغيرها، تجعل منها شخصية هامشية، ومُتمرّدة، تفتقر لأدنى مهارات التواصل الاجتماعي، لا تثق بأحد، وتحاول تصفية الحساب مع أبيها، ومع الآخرين الذين انتهكوا جسدها، وروحها، وحريتها في مراحل مختلفة. وفي هذا السياق، بالذات، يتجلى إحساسها الاستثنائي والحاد بالحقيقة والعدالة، لا نتيجة الإيمان بقيم كبرى، بل ترجمة لإحساس شخصي بالظلم، ومحاولة لنزع القناع عن وجوه “المحترمين” من رجال المال والسياسة والإعلام، الذين يطلون من شاشة التلفزيون، وصفحات الجرائد، على الناس بربطات عنق أنيقة، وقسمات ملائكية، وهم في الواقع لصوص، ومجرد مضاربين في سوق الثروة والسياسة والقيم والأخلاق.
أما الأب، السادي والكحولي، الذي يعيش باسم مُستعار، فيحظى برعاية قسم خاص في أجهزة الأمن السويدية، مقابل ما قدمه من خدمات في زمن الحرب الباردة، ويمارس أعمال التهريب والقتل والابتزاز. والمهم أنه ينجح في الإفلات من العقاب، نتيجة الحماية، وغض الطرف من الأجهزة المعنية، التي تخشى أن يؤدي القبص عليه إلى كشف ما يدخل في باب أسرار الدولة من ناحية، وفساد المؤسسة، من ناحية ثانية.
ولعل في هذه الهجنة المضاعفة، على خلفية خصوصيات مجتمع البطاقة البريدية، ما يفسر نجاح ستيغ لارسن، الذي باعت رواياته الثلاث، وترجماتها، بعد وفاته، ثمانين مليون نسخة خلال عشرة أعوام. على أية حال، لم ننته من حكاية البنت بعد.
khaderhas1@hotmail.com