لبنان لا يريد الحرب
Le Liban ne veut pas la guerre
Lebanon does not want war

“في كيفية تسييل الغضب القادم في الاتجاه الصحيح”

1

احيانا يجد المرء نفسه منجذبا الى الكتابة بموضوع ما، بعد ان يكون قد قال فيه مرارا ما يمكن ان يقال، خصوصا اذا كان الكاتب غير اختصاصي. عندها يلجأ المرء إلى بناء اطار جديد يعيد داخله صياغة افكاره بطريقة تتناسب مع الظروف السياسية والاجتماعية و حتى النفسية التي تفرض ايقاعها علينا جميعا.

 

واذ تتكثف التحولات والتغييرات والمواجهات الدولية والاقليمية، رامية احمالها وتداعياتها في كل مكان، فان مقاربة اي موضوع سياسي او اقتصادي او اجتماعي يصبح مسؤولية كبيرة. خصوصا اذا كانت الكتابة تتناول بلدا جميلا وهشا كلبنان. فلبنان ينوء اصلا تحت اثقال التاريخ والجغرافيا والاجتماع، حتى انه مصاب بلعنة الموقع نتيجة خصوصية تكوينه الاجتماعي والجيوسياسي. هذه الخصوصية شكلت وللمفارقة مصدر رزقه وتميزه وتطوره في المراحل الاولى من تأسيسه، حين تحول الى جسر معلق، سلكته الثقافات والافكار والاحلام والبضائع والاشخاص والمجموعات بين الغرب البارد و لكن الجاذب والمتقدم، و بين الشرق الساحر ولكن المتناحر والمتأخر، قبل ان ينقلب السحر على السحرة والمسحورين ويدخل البلد في ممر الفوالق الجيوسياسية الخطرة. ولا نبالغ اذا قلنا بان بلد الارز وصل الى الفالق الأخطر، بعد ان نجح في اجتياز الكثير من الفوالق المتحركة على شكل زلازل وهزات سياسية واقتصادية واجتماعية وامنية، بما فيها زلازل الاجتياحات والاحتلالات الاسرائيلية، والحروب الاهلية والغير اهلية والتي اوقف لهيبها اتفاق الطائف. وبما فيها فالق الوصاية والهيمنة السورية (لم تكن اقل من احتلال) والتي انهتها ارتدادات زلزال اغتيال الشهيد الحريري وانتفاضة ١٤ آذار التاريخية. علما ان هذه الانتفاضة شكلت ايضا بحجمها الغير مسبوق وبرمزيتها الفائقة الدلالات، بعض سمات الربيع العربي القادم. واذ تعثرت انتفاضة ١٤ آذار رغم تضحيات اهلها وانجازها الذي قارب المعجزة، وانقض عليها حزب الله، وقوى الممانعة عموما، بفائض القوة المرعية ايرانيا والمدججة فئويا وايديولوحيا، كما انقضوا لاحقا على شقيقتها التشرينية، فقد تعثرت ايضا وان بدرجات متفاوتة ثورات الربيع العربي، خصوصا في سوريا حيث انقض بوحشية النظام الفئوي وداعميه الايرانيين والروس وفيض من الميليشيات المذهبية المستوردة وفي مقدمها حزب الله على المنتفضين السوريين السلميين. ولم تقصر قوى أخرى غربية وتركية وعربية في اذكاء اللهيب السوري وعسكرة المنتفضين السوريين ودعم قوى التطرف الاسلامي على حساب المنتفضين السلميين والمجموعات الليبرالية والديمقراطية. ولنا ان نتخيل تداعيات هذا الجحيم السوري على لبنان من لجوء و نزوح ومضاعفة الازمات والانهيارات على انواعها، فضلا عن التهريب والحدود المفتوحة، خصوصا في ظل تحكم شبه كامل لحزب الله في عهد الجحيم العوني.
ولنتذكر ايضا ان حزب الله ورعاته الايرانيين كانوا قد نجحوا بالتعاون مع النظام السوري المهيمن انذاك على لبنان، في تحويل مناسبة تحرير الجنوب سنة ٢٠٠٠ الى محطة لبدء اعداد مشروع السيطرة على مقدرات البلد عن طريق تفكيك واحتواء قواعد الدولة العميقة، بعد ان ترمم بعضها في التسعينيات في اعقاب الطائف الذي اوقف الحرب الاهلية، تمهيدا لتحويل لبنان الى جرم يدور في فلك الامبراطورية الايرانية المنشودة
فعوض ان يشكل تحرير البلد من بقايا الاحتلال الاسرائيلي(المقاومة الوطنية كانت قد نجحت في دحر الاحتلال عن بيروت والجبل وبعض الجنوب فبل ان تجبر على الانكفاء تحت ضغط حزب الله وداعميه) محطة وطنية لتعزيز عملية الاعمار والنهوض والتشبيك المجتمعي، فقد اصبح اداة للاستقواء والتسلط. وهذا ما عاد وتكرر حين استثمرت نتائج حرب ٢٠٠٦ لضرب ثورة الاستقلال واستبدال الهيمنة السورية البائدة بالهيمنة الايرانية بواسطة فائض القوة الحزب اللاهية.
لسنا بحاجة للبحث في المؤشرات والارقام التي تضع البلد في الفالق الاخطر  منذ تأسيس الكيان، ذلك انها تتدحرج امام اعيننا على شكل انهيارات متلاحقة في معظم القطاعات التي شكلت ميزات تفاضلية للبلد الصغير، حصوصا القطاع المصرفي والقطاع التعليمي والقطاع الاستشفائي، فضلا عن قطاعات الخدمات والاستجمام والترفيه. كما يظهر بشكل دراماتيكي التراجع الذي يلامس الانهيار في الخدمات الاساسية و البنى التحتية حتى ولكأن البلد يعيش في عصر أخر.
فالاكثرية المتألمة من اللبنانيين تعيش تقريبا بلا كهرباء وبلا مياه نظيفة وبلا اتصالات جيدة وبلا طرقات سليمة، وبلا غذاء كاف، وبلا منفذ الى مدخراتها المسلوبة. وطبعا بلا دواء وبقلق صحي قاتل، اذ تحول الاستشفاء الى سلعة للاقلية الميسورة ولمجتمع اقتصاد ٢٠٪؜ الذي يضفي بنمط حياته على البلد مظهرا خادعا من الوفرة والتكيف.
لا مشكلة في ان تمارس هذه الفئة حياتها بالشكل الذي تريد، وتساهم في انعاش اقتصاد المطاعم  والترفيه عموما، خصوصا انها تتضمن شريحة واسعة ومتنوعة الاختصاصات، امتهنت التكنولوجيا الناعمة وانخرطت في مجال العمل عن بعد مع شركات عالمية، مما وفر فرص عمل لكثير من خريجي الجامعات.
فكثر باتوا يرون انه من الافضل  صرف اموالهم على تحسين مستوى معيشتهم بدل ان تحبس في البنوك من جديد، اذ ان الثقة معدومة والقرش الابيض قد يتحول الى اسود حتى لو كان “طازجا” في بلد يفتقر للقانون والعدالة.
طبعا عندنا مشكلة مع شبيحة المال ومبيضي اموال التهريب والمخدرات والاقتصاد الاسود الملوث باموال الدعم الكاذب، بما فيها لعبة صيرفة. وهؤلاء يتمتعون بحمايات الميليشيا المسيطرة والسلطة المافيوزية الفاسدة والفاقدة للحس السيادي والانساني ايضا.
ما نريد ان نحذر منه في الواقع هو ان الغضب بات يتصاعد عند بقية اللبنانيين نتيجة التدهور المريع في مستوى معيشتهم وتحول شرائح واسعة منهم الى متلقي مساعدات. كما ان الاكثرية المتألمة باتت تشعر بأنها متروكة لمصيرها من السلطة و من المعارضات  المختلفة في آن. فالبنوك تنهش ما استطاعت من ودائع الناس دون رادع. والمودعون يعصرون ويتمايلون بين سمفونية الودائع المقدسة و ترنيمة الودائع المتبخرة. مع استضعاف مضاعف لفئة المدخرين التي حولت للدولار بعد الانتفاضة وبطريقة قانونية وحرمت من الاستفادة من ١٥٨. والمؤسف ان كثر من النواب المعارضين يؤيدون معاقبة هذه الفئة الضعيفة على ذنب لم ترتكبه، مرددين ببغائيا سردية الودائع المؤهلة المخالفة للعقود الموقعة وللدستور. علما ان السواد الاعظم من اهل هذه الفئة قد ادخروا قرشهم الابيض ليومهم الاسود، وامنوا بالعملة الوطنية حتى آخر نفس.
والسلطة الجائرة تتابع نهجها في تحميل المواطنين وزر ازماتها وفسادها وفشلها عن طريق الرسوم الجمركية والضرائب غير المباشرة. وقصة فواتير الكهرباء المنفوخة بصيرفة+ وبرسوم العداد والتأهيل المفبركة تكاد تكون سوريالية، حيث يعمد كثر لالغاء اشتراك الكهرباء. فالبعض يلجأ للطاقة الشمسية بطريقة فردية وبتقنية مزرية غالبا. اما الاكثرية المتألمة فرزقها على الله. علما ان ما نسمعه عن ما يهيأ لفواتير المياه والاتصالات وخلافه سيدفع كثير من المتألمين الى الغاء اشتراكهم بالوطن والبحث عن الحل في ارجاء المعمورة.
تحذيرنا ليس موجها للسلطة المتواطئة مع فائض القوة الفئوية والمتسبب الرئيسي للازمات لرهنها البلد للقوة الاقليمية الايرانية. فاركان هذه السلطة، على تشظيهم وانقساماتهم المذهبية يدفنون رؤوسهم في الرمال متجاهلين انتهاكات السيادة المتكررة. وما حصل في سكوتهم المهين في موضوع اطلاق الصواريخ عاد وتكرر مع استعراض ميليشيا الحزب المسلح والذي اعقب زيارة الوزير لهيان الى الحدود في مشهدية بدت وكانها حدود ايران مع الكيان الاسرائيلي، وكرت سبحة الانتهاكات مع استعراض الحزب القومي السوري والانفجار في قوسايا وما ادراك ما دور قوسايا وانفاقها التي دفنت فيها وفي انفاق الناعمة مقررات حوار عين التينة في ٢٠٠٦، كما دفن لاحقا اعلان بعبدا تحت الانقاض في سوريا. وربما يتكشف لاحقا خلفيات خطف المواطن السعودي في هذا الظرف السياسي. وطبعا لا حاجة بنا للذكاء الطبيعي او الاصطناعي لمعرفة الوجهة الاساسية لرسائل الاستعراضات العسكرية، خصوصا بعد ترسيم الحدود البحرية مع “حكومة اسرائيل” كما جاء في نص وثائق الترسيم.
إن تسييل الغضب في الاتجاه الصحيح، واستدراك تحوله لفوضي اجتماعية و ربما امنية، (خصوصا اذا استمرت مقاربة قضية النازحين واللاجئين السوريين بالخفة السياسية  المطعمة بخليط من العنصرية والشعبوية والطائفية)، يتطلب تغييرا جذريا في مقاربة جميع المعارضات دون استثناء للقضايا والازمات المتفجرة في بعديها الوطني والاجتماعي. ولطالما رددنا بان الاستحقاقات الدستورية لا تقارب بحسن اختيار الاشخاص وتعداد الاصوات فقط على اهمية ذلك، بل بتوضيح طبيعة المواجهة السياسية اولا واساسا، وقد حددنا هذه المواجهة مرارا بانها مواجهة وجودية مع الممسكين بخناق البلد والذي لا يقل عن احتلال بالواسطة. ولا ينفع مع هذه المواجهة معزوفة الاستراتيجية الدفاعية المملة او تسوية رئاسية تحددها موازين القوى المختلة بفعل السلاح وليس قوة التوازن الوطني القائم على الدستور  والوحدة الوطنية. وباختصار فإن هذه المواجهة المصيرية ترتبط بدور وطبيعة ووحدة وعروبة البلد في مفرق عربي واقليمي ودولي سريع التحول.
ان مطالبتنا بتوحيد الموقف السياسي للمعارضة على ضوء هذه القراءة السياسية لا تعني الغاء الفروقات والاختلافات والهواجس والخصوصيات عند كل طرف وكل مجموعة. علما ان المواجهة الوطنية، السلمية والديمقراطية، لا تستقيم الا اذا ترافقت مع المواجهة الاجتماعية والتصدي الجدي واليومي والمتوثب لمطالب وحاجات واوجاع الاكثرية المتألمة وعدم تركها فريسة لشتى انواع predators. ثم إن لجوء البعض الى شد العصب الطائفي والمناطقي والفئوي تحت عناوين ومسميات مختلفة سيساهم في تحويل حالة الغضب الكامن الى فوضى، ربما تسهل الاختراقات الامنية في الخواصر الرخوة، وما اكثرها.
قد يستنتج البعض من قراءتنا بأننا نضمر دعوة للافراج عن مشاعر الغضب الكامن والكف عن التكيف وانتظار الفرج.، وجوابنا بأن الغضب القادم لن يحتاج الى دعوتنا، اذا ما استمر الواقع الحياتي والاجتماعي والنفسي في التدهور نحو القعر. واذا ما استمرت سياسة الاستعلاء والاستقواء والتسلط والافلات من العقاب، فمسكن الاوجاع لا يشفي من مرض واصرار اهل ضحايا تفجير المرفأ المروع على استكمال تحركهم رغم التهديدات هو احد مؤشرات الغضب القادم . المهم ان لا يتسيل هذا الغضب في الاتجاه الخاطئ، بل ان يعمل على تحويله بالجهد والحوار بين المكونات المعارضة الى فعل شعبي ديمقراطي ومتنوع، يحمل عناوين وطنية واجتماعية تعيد الامل للمواطنين وللشباب بشكل خاص بوطن طبيعي حر ومتحرر  تسير فيه العدالة بمكيال واحد ويساوي بين جميع ابنائه.
Subscribe
Notify of
guest

1 Comment
Newest
Oldest Most Voted
Inline Feedbacks
View all comments
د. رويدا الرافعي
د. رويدا الرافعي
9 months ago

حقا قراءة وتحليل سياسي موضوعي ومعبر جدا في تناوله للأحداث السياسة الأخيرة وتعبيره عن الواقع بأسلوب لافت ومميز

Share.