في خريف عام 2023، قام رئيس جهاز المخابرات الخارجية الفرنسية (DGSE)، “برنار إيمييه”، السفير الفرنسي السابق في لبنان، الذي سبق أن التقى حسن نصرالله في الماضي، بزيارة سرية له ليقول له إنه بعد 7 أكتوبر “الوضع تغيّر كلياً”. وفي الفترة اللاحقة، واظبت فرنسا، التي استمرت بحوار سياسي مع حزب الله، على تكرار التحذير نفسه.
في 2 كانون الثاني/يناير 2024، بينما كان حزب الله يحافظ على مستوى محدود من الضربات ضد إسرائيل، أسقطت طائرة مسيّرة في بيروت القيادي البارز في حركة حماس، صالح العاروري، المسؤول عن التنسيق مع حزب الله والحرس الثوري الإيراني. ازدادت النقمة. يقول “وفيق”: “شيعة الجنوب، الذين شعروا بالإذلال، قالوا لحزب الله: كفى، يجب الرد على إسرائيل! لكن الإيرانيين ونصرالله قالوا لا”.
ويؤكد الصحفي والكاتب “نيكولاس بلانفورد”، الذي ألّف كتاباً عن حزب الله،: “في فبراير ومارس 2024، بدأ الكثيرون يشعرون بالتوتر. كانوا يقولون: هذه حرب عبثية، الإسرائيليون يفجرون منازلنا، يقتلون قادتنا، نعلم أن هناك عملاء لإسرائيل في صفوفنا، وماذا نفعل نحن؟ نطلق بضع صواريخ كاتيوشا؟ دعونا نحارب كما يجب!”. وصلت الشكاوى إلى القيادة، التي صعّدت من هجماتها على إسرائيل. وهكذا بدأ الفخ يُغلق. يقول غسان سلامة، وزير الثقافة اللبناني: “ارتكب حسن نصرالله خطأً كبيراً عندما ظن أن الإسرائيليين سيقبلون بمستوى العنف الذي قرره هو. ولكن ردّ إسرائيل كان سحق حزب الله”.
يضيف “وفيق”: “ما لم يدركه نصرالله هو مدى اختراق إسرائيل لنظام اتصالاته. كان يتم فحص الاتصالات كل أسبوعين، لكن العمل لم يكن متقناً. وربما أيضاً، بعد عشرين عاماً قضاها في المخبأ، فقد نصرالله إحساسه بالواقع”.
أكبر عملية مكافحة تجسّس في العالم الحديث
لكن أحد التقنيين المقربين من حزب الله يصحِّح قائلاً: “لم يكن نصرالله ضحية للتجسس التكنولوجي فقط، بل تمّ تضليله أيضاً. لم يفقد بالضرورة إحساسه بالواقع، لكن المعايير التي كان يعتمد عليها لاتخاذ قراراته كانت مخترقة من الإسرائيليين، الذين نفذوا أكبر عملية مضادة للتجسس في العالم الحديث. لم يفعلوا مثل السوفيات الذين كانوا يعذبون العملاء لتحويلهم إلى عملاء مزدوجين، بل تركوهم يعملون داخل حزب الله أو على هامشه”.
كان نصرالله، المعزول والمختبئ تحت الأرض، بحاجة إلى عدة دوائر من الإتصالات والمخبرين. “بعض أفراد شبكاته كانوا مخترقين من قبل عملاء يعملون لصالح إسرائيل، الذين كانوا يغذونهم بمعلومات صحيحة لبناء الثقة، لكن أيضاً بمعلومات مضللة”، يضيف التقني. “وهذا ما يفسر أنه حتى اللحظة الأخيرة، بعد أن وافق على وقف إطلاق النار قبل يومين من مقتله، كان مقتنعاً بأن إسرائيل لن تستهدفه أبداً، رغم أنها كانت قد بدأت فعلاً بتدمير قدراته من خلال حادثة أجهزة النداء (البيبرز)”. والمفارقة هي إسرائيل قامت بتصفية العديد من أفراد شبكات معلوماته .
هنالك قادة آخررون، مثل وفيق صفا، الذي كان حلقة الوصل مع الأحزاب اللبنانية، أصبحوا مهمّشين اليوم.
وآخرون، بسبب الإهمال، خانهم محيطهم. فؤاد شُكر، القيادي العسكري البارز البالغ من العمر 62 عاماً، والذي كانت له علاقة مع امرأة كانت إسرائيل تراقبها، لم يكن يتخفى كثيراً. قُتل قبل نصرالله بشهرين في غارة جوية إسرائيلية. ومنذ ذلك الحين، يسميه البعض داخل حزب الله “شهيد الزُب” (“شهيد الجنس”). يقول نيكولاس بلانفورد: “القدماء مثله، الذين أسسوا الجهاز الأمني لحزب الله في الثمانينيات، أصابهم الغرور والركود، وتركوا مسؤولياتهم لأشخاص أقل خبرة”.
ويقول أحد وجهاء الجنوب اللبناني: “بعد السابع من أكتوبر، قال لي أحد عناصر حزب الله إنهم سيذهبون لوضع اليد على الفيلات في الجليل، شمال إسرائيل. قال لي مازحاً: هل تريد واحدة؟ نحن جاهزون، وخطط قوة الرضوان جاهزة”.
في مقهى هادئ على شاطئ بيروت، وصل النائب في حزب الله علي فياض مرتدياً سترة وقميصاً أبيض ويحمل كيس هدية ماركة Hermès. قال لموفد صحيفة الفيغارو: “محمد رعد لا يمكنه مقابلتكم هذه المرة”. إن محمد رعد، الذي يشغل عملياً موقع الرجل الثاني في الحزب، نادراً ما يغادر منزله خوفاً على حياته، ولا يرى سوى رئيس الجمهورية جوزيف عون أو جان إيف لودريان، مبعوث الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، .
يؤكد فياض: “لقد دفع حزب الله ثمناً باهظاً، لكنه لم يُدمّر”، كاشفاً عن بعض التحولات بعد الحرب: “لدينا هيكل عسكري جديد، وهو سري، لأننا نواجه ظروفاً جديدة. الجانب الإيجابي هو أن قيادتنا العسكرية الجديدة شابة، أكثر حيوية، وقادرة على مواكبة التقدم التكنولوجي”.
يضيف “وفيق”: “لم نعد نراهم في الشوارع أو المقاهي كما في السابق. تحت إشراف الإيرانيين، صعدَ جيلٌ جديد من الصفين الثاني والثالث في الهرمية التنظيمية، وأخذ مكان طبقة قديمة كانت فاسدة أحياناً وتشعر بالحماية لأنها من جيل نصرالله نفسه”. ويأسف علي فياض قائلاً: “كان يجب أن تتم عملية انتقال السلطة هذه بطريقة طبيعية، لا في زمن الحرب”.
كما في بدايات حزب الله في أوائل الثمانينيات، أصبح العمل السري هو القاعدة بين مقاتليه. أُعيد توزيع المسؤوليات العسكرية، ولم يعد أحد يعرف من يفعل ماذا. يقول كادر الحزب نفسه: “بعد حرب 2006 ضد إسرائيل، وتدخل الحزب في سوريا منذ 2013، تضخمت قوات المقاومة، وأصبحت تشكيلات هجينة، منها ما هو شبه جيش نظامي، ما جعل الأمور أسهل لإسرائيل”.
اليوم، أصبح العسكريون في الغالب منفصلين عن السياسيين، وأكثر استقلالية. في القرى، لم يعد القادة الميدانيون بحاجة للرجوع إلى القيادة المركزية في بيروت. يوضح أحد الخبراء: “دوائر اتخاذ القرار أصبحت قصيرة، والأوامر تُعطى وجهاً لوجه، لم يعد التواصل يتم عبر الشبكات”.
أما الأمين العام الجديد، نعيم قاسم، الذي يُنظر إليه على أنه ضعيف، فإنه لا يتصرف تماماً مثما كان سلفه يفعل.
في موازاة ذلك، حدّ حزب الله من اتصالاته الخارجية، وقام بإحكامها. في الماضي،كان لـوليد جنبلاط، زعيم الطائفة الدرزية، مُحاور وحيد.
«كان هو وفيق صفا الذي أعطاني رقمه، وعندما كانت المسائل أكثر حساسية، كان حسن نصرالله يرسل لي كذلك الحاج حسين الخليل. الآن، لم يعد لديّ اتصال بأحد. وفيـق صفا اختفى، لأنه في خطر» بعد أن نجا من الموت العام الماضي. أما حسين خليل فهو مختفٍي.
بعد أن أوقف عدداً كبيراً من “العملاء” – وهذه عملية لا تزال جارية – نقلَ حزب الله مقاتلين، لا سيّما من لم يخوضوا الحرب، إلى، معقله الآخر، وهو البقاع، شرق لبنان. الرجال المتزوجون تلقّوا راتب شهرين، والعزاب شهر واحد. ويُقال إن حزب الله شرع أيضاً في مرحلة تجنيد، لكن التدريب في بعض معسكراته في البقاع لم يبدأ بعد، بحسب أحد الشهود. «وفق معلوماتنا، لم ينتهِ حزب الله من إعادة هيكلة فرعه العسكري»، يقول ضابط كبير في الجيش اللبناني يتابع عن كثب تطور الميليشيا.
بعد أن بات أُضعِف عسكرياً، يُظهر حزب الله حالة دفاعية جديدة، ربما بتوجيه من راعيه الإيراني، الذي وضعَ يدَهُ على الميليشيا اللبنانية. «الإيرانيون ما زالوا يدعموننا، لكن الوضع تغيَّر بشكل كبير»، يقول علي فياض. «المقاومة انتقلت إلى وضع دفاعي لبناني. هذا يعني أنه إذا غداً تعرَّضت إيران لهجوم، فلن يتدخل حزب الله لدعمها. في الجنوب، ما زالت إسرائيل تحتل مزارع شبعا وست مواقع داخل لبنان، ولا تتدخل المقاومة. حصل تطور مهم جداً، بعد اتفاق وقف إطلاق النار في ٢٧ نوفمبر ٢٠٢٤: حفّزنا الدولة اللبنانية على المضي قدماً لتتولى هي إدارة الوضع السياسي والعسكري على الأرض. قلنا للدولة وللجيش: نحن في موقع دعم لعملكم».
بموجب على إتفاق وقف إطلاق النار، يجب أن ينتشر الجيش اللبناني جنوب نهر الليطاني. إنه يفعل ذلك تدريجياً وببطء، كما لاحظنا خلال يومين، قرب الحدود الإسرائيلية. ليس هنالك أكثر من 2000 جندي، بدلاً من عشرة آلاف مقرَّرين. «حالياً، الجيش يتجنب الظهور في الجنوب، ليس من الضروري أن نُهَيِّج حزب الله، لأن المستقبل ليس واضحاً»، يقول الضابط اللبناني الكبير.
استخبارات الجيش مخترقة من “الحزب”
إذا لم نرَ أي مقاتل، «فإن أنشطة حزب الله السياسية لا تزال موجودة»، يؤكّد الباحث سمير زهير، «إنه قوة سياسية كبرى. من كان يظن أنها ستختفي؟». «حزب الله هو مجتمع له سبعة وعشرون نائباً في البرلمان»، قال لنا توم باراك، مبعوث دونالد ترامب إلى لبنان وسوريا، الذي التقيناه في قمة السلام في شرم الشيخ. وكان بإمكانه توم باراك أن يُضيف: لحزب الله أيضاً امتدادات في جهاز الاستخبارات (الشعبة الثانية) في الجيش نفسه الذي يُفترض أن ينزع سلاح حزب الله. في المدن الكبرى في الجنوب، لا يزال الضابط في استخباراتالجي، المُقرب تقليدياً من حزب الله، في منصبه في “اللجنة الثلاثية” التي تدير الأمن إلى جانب ممثل من حزب الله وممثل من حركة أمل.
تقريباً في جميع لقاءاتنا مع رؤساء البلديات في القرى التي زرناها، كان رجل من حزب الله يرافقهم. فور الخروج من صيدا، آخر مدينة سنّية كبيرة جنوب بيروت، الطريق السريع نحو “حزب الله لاند” مزدحمة بأعلام صفراء وخضراء، علِّقتها قبل ثلاثة أسابيع بمناسبة الذكرى الأولى لاستشهاد حسن نصرالله. في القرى أو على الطرق الصغيرة المنحدِرة على جوانب تلال من الغابات حيث كان حزب الله يخفي أسلحته في أنفاق أو مقابر، تبرز صور “الشهداء”. في كل مكان، تسبّب القصف الإسرائيلي، غير العشوائي غالباً، بانهيار العديد من المنازل. وبعض القرى على الحدود مع إسرائيل دُمّرت تقريباً بالكامل.
هذا حال بلدة الناقورة، حيث مقر قوة الأمم المتحدة المؤقتة في لبنان (اليونيفيل)، على بعد كيلومتر واحد فقط من الحدود مع الدولة العبرية. «الناس بدأوا يعودون، الحياة غالية جداً في بيروت»، يتنهّد “علي”، أحد سكان الناقورة. «نعيش في مؤخرة بيوتنا، بلا كهرباء، والشتاء قادم، كيف سنصمد؟» قبل شهر، عُثر مجدداً على أسلحة لحزب الله، بالإضافة إلى نفق مخرجه مقابل مقر “اليونيفيل”.
صعوداً عبر طريق متعرّجة نحو القرية المجاورة المسيحية “علما الشعب”، تتوالى بقايا المنازل المهدّمة وسط حفّارات نادرة تزيل الأنقاض. خلال الحرب، كان مقاتلو حزب الله يتحرّكون بين القريتين بواسطة نفق يفتح وسط الغابة. تشتكي امرأة من الميليشيا التي احتلت بيتها أثناء غيابها، قبل أن يُقصف من الجيش الإسرائيلي. “عَلما الشعب” وغيرها من القرى في الجنوب كانت قد خلت من سكّانها. «الإسرائيليّون الذين احتلّوا كلّ البيوت على طول الطريق الرئيسي كتبوا على الجدران بالإنكليزية: أنتم لن تنسونا»، يقول شادي صياح، رئيس بلدية “علما الشعب”، حيث دُمّر 90 مسكناً وتضرّر 200. «لماذا أسقطوا برج الجرس في الكنيسة؟ ماذا يريدون أن يفعلوا؟ ربما منطقة عازلة؟»
لأنّها تقع في موقع استراتيجي على بُعد كيلومتر واحد من إسرائيل، فإن “علما الشعب” هي القرية المسيحية الوحيدة في جنوب لبنان التي تعرّضت لهذه الدمار. «إسرائيل لا تحتاج لإعادة احتلال المنطقة، كلمة واحدة من الناطقة باسم الجيش كافية لجعل السكّان يتركون منازلهم»، يؤكد داني غفاري، الذي لم يَعُد بعد إلى علما الشعب.
كحال كثيرين غيره، يأمل أن يُعاد بناء منزله بأسرع وقت. لكنّه قد ينتظر طويلاً، إذ تربطُ الدول الغنية في الخليج – وعلى رأسها المملكة العربية السعودية – تمويل إعادة الإعمار بنزع سلاح حزب الله بالكامل من قبل السلطات اللبنانية. لكن، وإن كان نزع سلاح الحزب قد تحقق بنسبة نحو 80 ٪، بحسب تقديرات الجيش، فلا شيء مقرّر للمناطق شمال الليطاني ولا سيما شرق البلاد، حيث تخزّن الميليشيا صواريخها. «حزب الله أعطى نحو 12000 دولار لمالك كل منزلٍ دُمّر»، يشرح رئيس البلدية، «لكن يبدو أن لديه مالا أقل. انظر، لديّ شيكاً بقيمة 18000 دولار صادر عن “القرض الحسَن”، شركته المالية، لكنني لا أستطيع صرفه»!. التعزية الضئيلة: نشرت الحكومة منذ أسابيع 50 جندياً في مدرسة علما الشعب.
لا يوجد جنود لبنانيون غيرهم من على الطريق نحو «قلعة تبنين» الصليبية، التي يُنصح بالمرور بها لتجنّب الاقتراب من المواقع العسكرية التي أقامتها إسرائيل بعد وقف إطلاق النار. «الجيش الإسرائيلي يظهر مزيدا من العدوانية»، يقول مصدر عسكري غربي. قبل شهر، سقطت طائرة مراقبة بدون طيار داخل مقر “اليونيفيل” في الناقورة للمرة الأولى. الأسبوع الماضي، أُصيب أحد «القبّعات الزرق» يقذيفة إسرائيلية قرب موقعه في كفركلا – وهذا ثالث حادث في شهر. وقد استهدفت ثُمانيّ ضربات الخميس 16 أكتوبر «بُنى تحتية مرتبطة بحزب الله» بين المزرعة وسيناي، قرب النبطية، وفقاً لإسرائيل. بينما تقول الدولة اللبنانية أن اسرائيل قامت بانتهاك وقف إطلاق النار أكثر من 1500 مرة خلال أحد عشر شهراً، وقتلت نحو 300 شخصاً، دون أي ردّ من الحزب.
في الجنوب، «لا أحد يصدّق أن الإسرائيليين سيغادرون مواقعهم التي يعزّزونها، وأحياناً يوسّعونها»، يُضيف المصدر العسكري. أحد مواقع اليونيفيل الـ 29 محاصَر بين حصن إسرائيلي داخل لبنان وآخر على الجانب الآخر من الحدود في الدولة العبرية. بفضل طائراته بدون طيار، فإن جيش إسرائيل «مخيف». «نسمعها تقريباً ليلَ نهار»، يشكو حسن جعفر، رئيس بلدية قرية ياطر قرب تبنين. «حتى واحدة نزلت إلى عشرين متراً أمام البلدية». في مواجهة هذا الاحتلال، «ي أسلحة حزب الله التي تحمينا، لا فرنسا ولا الأنظمة العربية تستطيع أن تعطينا ضمانات».
صوت طائراتهم يستهدف أيضاً منع اللبنانيين من العودة إلى منازلهم ومن بدء إعادة الإعمار. تذكر قوات اليونيفيل الفرنسية أنه في الصيف الماضي اقتربت طائرة بدون طيار من مركبة مدرّعة إلى مسافة 25 متراً، ما أثار بعض الذعر. «إنهم يعيدون شحن قواعد بياناتهم أو يسجّلون وجوهاً»، يقول الضابط اللبناني الكبير. «استخباراتهم فعّالة»، يرى نبيل فواز، رئيس بلدية تبنين، الذي يشير إلى مقرّ إقامة صيفي لرئيس البرلمان نبيه برّي، مدمَّر تماماً. وقد وُجدت سبع جثثٍ لمقاتلي حزب الله تحت رُكام منزل استُخدِم كمخبأ.
قبل أيام من مرورنا، قتلت طائرة إسرائيلية بدون طيار شخصاً قرب مستشفى تبنين. كان عضوًا في حزب الله وكان يحاول شراء بيتٍ سِرًّا ليحوّله إلى مركز صحي. قبل ثلاثة أسابيع، ولنفس الغرض، أُصيب آخر وهو يفرّ بسيارته، التي تُركت محترِقة على جانب الطريق.لماذا نفتح مركزاً صحّياً قرب مستشفى؟»، يتساءل الجيران.
فيلات مليونيرية الحزب ظلت سليمة
على بُعد بضعة كيلومترات، تُرى صورة مفاجِئة: ديكور على طريقة “بيفرلي هيلز” بين الخراب. على تلال قرية “حاريص”، معظم قصور رجال أعمال حزب الله، من الشيعة المغتربين في غرب إفريقيا تبدو سليمة في مواقعها المطلة على مدينة صور والبحر المتوسط أسفلها لأن حزب الله لم يُرسِل رجاله للإختباء فيها!
مالية الحزب
هل لا يزال لدى حزب الله الكثير من المال؟ تقول تقديرات توم باراك إنه يملك 60 مليون دولار شهرياً. أما تقديرات أخرى فتراها أقل. الرحلات الجوية بين طهران بيروت أُوقِفت، والمراقبة في المطار صارمة. لكن «قبضنا على رجال يأتون من تركيا بأموال في حقائبهم»، يقول وزير لبناني، مضيفاً أن هناك دائماً بعض التهريب من سوريا وتهريب في مرفأ بيروت، حيث سيتم تركيب “سكانر” قريباً.
«مؤسساتنا الاجتماعية والتعليمية والمستشفيات تعمل»، يؤكّد النائب علي فياض. غير أنّه ليس من المؤكَّد أن يتمكّن الحزب من تلبية طلبات موظفيه البالغ عددهم 60 إلى 70 00ألفاً كما كان يفعل قبل عشرة أعوام، في زمن الازدهار. نوّابه كثيراً ما يتعرضون للسخرية في البرلمان وفي المُناقشات التلفزيونية. «لقد فقدوا بريقهم، وأصبح النواب الآخرون لا يخافون من إهانتهم»، يُخبرنا أحد النواب، طالباً عدم ذكر اسمه، خوفاً من قدرة حزب الله المستمرّة على الإيذاء.
ومع ذلك، حتى وإن كان أُضعِف عسكرياً وفقد حلفاءه السنّة والمسيحيين، فإن حزب الله أصبح أكثر عدوانية سياسياً، مدفوعاً من إيران، التي بعثت ثلاث مرّات في الأشهر الأخيرة إلى بيروت علي لاريجاني، الرجل القوي الجديد في أجهزة الأمن في طهران.
في ديسمبر 2024، فإن سقوط سوريا الأسد، التي كان الحزب يُمرّر عبرها أسلحته من إيران، شكّل ضربة أخرى. لكن منذ حينها، فإن الهجمات على الأقليات العلوية والدرزية التي ينفّذها النظام الجديد أعادت ترسيخ القاعدة الشيعية لحزب الله. «نرى ما يحصل في سوريا»، يلخّص مفيد جابر،وهو شاب في الثلاثين من عمره، يطمح لدور سياسي خارج ثنائي حزب الله — حركة أمل. «أنا مثل معظم الشيعة، أعتقد أن الحكومة اللبنانية ليست قادرة على حمايتنا. لذا بينِ شرّين، نختار الأقلّ شراً: حزب الله. نراه حامياً لا يجب نزع سلاحه».
ويُلخّص دبلوماسي يراقب الوضع عن كثب «منطق» الحزب الجديد كما يلي: «لقد وافقوا على نزع السلاح في الجنوب، لكنهم يطلبون ألا يُمس شمال الليطاني. بالمقابل، فإن أقوى ضربات إسرائيل الآن تتم خارج الجنوب. فقد أنجزب إسرائيل معظم العملل المطلوب في الجنوب. ولم يعد حزب الله يشكّل تهديداً لها، لكن هل ما يزال يملك قدرات كافية للتأثير على المشهد الداخلي اللبناني؟»،
في قمّة الدولة، الآراء متباينة.
مدفوعاً من السعودية والولايات المتحدة، يدعو رئيس الحكومة نواف سلام إلى نزع سلاح حزب الله بسرعة في كل لبنان. أما رئيس الجمهورية، الجنرال جوزيف عون، والجيش، فكلاهما لا يريد مواجهة الحزب، خوفاً من تمزّق الجيش، بل وتمزّق البلد. وهما يخشيان وحشاً جريحاً ما زال بعيداً عن لفط أنفاسه الأخيرة.