هكذا علّق مؤخرا أحد الأصدقاء عن الاضطرابات الكنسيّة التي جرت وتجري في وسط الكنائس الأرثوذكسية بسبب الخلاف الجوهري القائم بين البطريركيّة المسكونية في القسطنطينية (روما الجديدة) وبطريركية موسكو المعاصرة التي يعود إعادة إنشائها إلى سنة 1943 بفضل قرار من ستالين.
محطّات تاريخيّة
اعتنقت الشعوب السلافية الروسيّة الدين المسيحي سنة 988 عندما تعمّد الأمير فلاديمير مع جميع شعبه في نهر الدنييبر Dniepr في مدينة “كييف” Kiev. وقد اختار فلاديمير هذا أن يدخل كنيسة القسطنطينية لجمال طقسها البيزنطي كما يقول المؤرخون. منذ ذلك التاريخ أصبحت “كييف” المركز الكنسي الرئيسي تحت سلطة البطريرك المسكوني الذي كان يعيّن أسقفاً لإدارة شؤون الأراضي الروسيّة التي وقع معظمها في قبضة احتلال المغول التّتر من سنة 1262 حتى 1480.
أيقونة ترمز إلى عمادة فلاديمير وشعبه في سنة988 في “كييف”
سقوط القسطنطينية سنة 1453 سهّل ولادة سلطة كنسية مستقلة في موسكو ضد إرادة البطريركية المسكونية التي قبلت بالأمر الواقع لما حوّل الحاكم بوريس غودونوف Boris Godounov هذا الكيان الكنسي إلى “بطريركيّة ذي سيادة كاملة” سنة 1589 انفصل عنها الروس الأرثوذكسيون في غرب أوكرانيا كي لا يخضعوا لموسكو لأنهم كانوا تحت الحكم البولوني الكاثوليكي. فأصبحوا “روم كاثوليك” سنة 1596 بفعل قرار التوحّد مع روما الذي اتخذه مجمع أساقفة في مدينة Brest-Litovsk الحالية في “بيلاروسيا” Belarus والمعروفة اليوم بمدينة Minsk حيث التأم مجمع بطريركية موسكو مؤخّراً وقرّر قطع الشركة الكنسية مع القسطنطينية بسبب أوكرانيا. وقد ألغى القيصر بطرس الأكبر مؤسسة “بطريركية موسكو” وأصبحت شؤون الكنيسة بعهدة مجمع الأساقفة تحت رقابة منسّق علماني من قبل القيصر. وظلّت الحالة هكذا حتى الثورة البولشيفيّة وقيام بطريركية مسكوبيّة من جديد في زمن ستالين.
ولادة بطريركيّة موسكو سنة 1589 سرّعت في تفكّك البطريركيّة المسكونيّة في القسطنطينيّة. وانتشرت منذ ذلك الحين في الأوساط الروسيّة نظريّة تقول أنّ موسكو أصبحت من الناحية الكنسيّة “روما الثالثة” بعد سقوط روما القديمة البابويّة في الهرطقة اللاهوتيّة وروما الجديدة البيزنطيّة تحت الحكم العثماني. وقد استعادت هذه النظرية أهمية كبرى عند المقرّبين من السلطات الروسيّة وخاصة فلاديمير بوتين بعد سقوط الاتحاد السوفياتي، مثل المفكّر المتطرّف ألكسندر دوغين Alexandre Douguine.
الله، القيصر والكنيسة
دون التطرّق إلى الخلافات العديدة حول شرعيّة السلطة المسكوبيّة الكنسيّة على جميع الأراضي الروسيّة وشعوبها، نريد إلقاء الضوء على بعض نقاط مهمّة خاصة في مجال العلاقة بين السلطة السياسيّة والسلطة الكنسيّة.
نستذكر ما صرّح به غبطة البطريرك المسكوبي كيريلّوس في 6 أيار 2016 متكلّماً عن التدخل العسكري الروسي في سوريا:
“الحملة الروسية في سوريا ليست للغزو أو للاحتلال أو لنشر إيديولوجيا أو لمساندة حكومة ما. هي فقط لمحاربة الإرهاب. هذه “حرب وطنيّة مقدّسة” والجيش الروسي هو حقا محب للمسيح”. عبارة “حرب وطنيّة” استعملت أيام ستالين وهي تدل إلى المقاومة الجاهدة التي بذلها الإتحاد السوفياتي والشعب الروسي ضدّ الغزو النازي في الحرب العالمية الثانية.
متروبوليت بيروت الياس عودة: “كنيستنا الأرثوذكسية لا تقول عن أي حرب أنها مقدسة”
أستذكر هنا الالتباس الذي حصل في خريف 2015 عندما صرّح المتكلّم للبطريركيّة المسكوبيّة الأب فسيفولود شابلين Vsevolod Chaplin واصفاً التدخل الروسي في سوريا بأنه حرب مقدسة. ففي عظته في كاتدرائية القديس جاورجيوس قال سيادة متروبوليت بيروت إلياس عودة في 18 تشرين الأوّل 2015: …”فليكن واضحاً إنّ كنيستنا الأرثوذكسيّة التي نحن أعضاء فيها، لا تبارك ولا تقدّس الحروب ولا تقول عن أي حربٍ أنّها مقدّسة”.
من الواضح أنّ هناك تبايناً، إن لم نقل تناقضاً بين كلام بطريرك موسكو وكلام متروبوليت بيروت. هذا التناقض ناتج عن طبيعة الخطابين وعن تصوّر مختلف لهوية “الجماعة الكنسيّة” Ecclésiologie. كلام البطريرك المُسكوبي هو خطاب كنيسة وطنية إن لم نقل قوميّة أو عرقيّة. أما كلام متروبوليت بيروت فهو خطاب كنسي – لاهوتي دون أي اعتبار لهوية جماعيّة ما أو فئوية. وهذه إشكالية تختلف عليها الكنائس الأرثوذكسية بين بعضها وخاصة بين موسكو، ومعها كنائس سلافية أخرى، والبطريركية المسكونيّة في القسطنطينية (روما الجديدة) وحولها الكنائس الأرثوذكسية الحافظة للتقليد الاغريقي – اللاتيني للبحر المتوسّط والذي يرتكز على مفهوم جغرافية مركز الكنيسة المحلّية (المدينة) وليس على الهويّة العرقيّة أو الثقافية او الوطنيّة للجماعة المؤمنة.
تعوّدنا أن نقول أنّ تاريخ الجماعات المسيحية يقوم على فصل الدين عن الدولة حسب قول السيد المسيح: “أعطوا لقيصر ما لقيصر وما لله لله”. ولكن ننسى أنّ الدول المسيحيّة لم تعمل دائماً حسب هكذا نظريّة سيّاسيّة سليمة، ولكن الحداثة هي التي طبّقت قول المسيح هذا وحرّرت الله والكنيسة (في الغرب على الأقلّ) من زنزانة قيصر أي السلطة السياسية أيّاً كانت هويّتها الدينيّة.
الهويّة الدينيّة ورابط المواطنة
من حيث المبدأ الدين ليس أساساً للوحدة السيّاسيّة. روما الوثنية هي التي عملت حسب مبدأ “دين ودولة”. الرابط المدني في الإمبراطوريّة الرومانيّة ذو طبيعة دينية. أنت مواطن كامل وصالح بقدر ما تؤدي الفرائض والطقوس لآلهة المدينة المتملّكة وخاصة للقيصر المؤلّه. لذلك لاحقت محاكم القيصر الوثني المسيحيين لرفضهم التقيّد بقوانين الدولة وتأدية الفرائض الطقسيّة. والتناغم بين الدين والدولة عملت به من بعدها البابوية في روما القديمة وقياصرة روما الجديدة (القسطنطينيّة). عملت البابويّة الرومانيّة بنظريّة “السَيفين” واعتبرت أن سيف السلطة الروحية وسيف السيادة السياسية هما في يدي حبر كنيسة روما. لذلك خاضت البابوية حروباً في القرون الوسطى واجهت بها السلطات السياسية في أوروبا. أمّا الأمبراطورية الروميّة (البيزنطيّة) فقد تبنّت نظرية “تناغم السلطتين” حيث سلطة قيصر هي التي تحمي كنيسة المسيح. الأسقف هو المتقدّم في روما القديمة. أما في روما الجديدة (القسطنطينيّة) فالأولويّة هي لقيصر ولسلطانه. وهذا ما يسمح لنا أن نفهم جزءاً من الخلاف الكنسي القائم بين الشرق البيزنطي (الأرثوذكسي) والغرب اللاتيني (الكاثوليكي).
إلى اليسار بطريرك موسكو، “كيريل”، وإلى اليمين بطريرك القسطنطينية “بارثلماوس”
على سبيل المثال، أودّ ذكر نصّ طروبارية (= ترتيل) صلاة الغروب لعيد الميلاد التي نظّمتها الراهبة المرنّمة القديسة كاسياني (Kassiani 865 / 805) في القرن التاسع الميلادي والتي ترتّلها الكنيسة الأرثوذكسيّة التابعة للطقس البيزنطي: “إن أوغسطس (قيصر) لما انفرد بالرئاسة على الأرض كفّت كثرة رئاسات البشر. وأنت لما تأنّست من النقيّة بطلت عبادة الآلهة الوثنيّة. فالمدن صارت تحت سلطة واحدة عالميّة والأمم آمنوا بسيادة واحدة إلهية. الشعوب اكتتبوا بأمر قيصر. وأما نحن المؤمنين فكتبنا باسم لاهوتك “.
الإشكالية في نظرية روما الثالثة
هل يوجد عامل ديني على شكل “نزعة خلاصية مسيحانيّة” (Messianisme) تُتَرجم بمشروع سياسي؟ هل هذه النزعة هي حلم تجديد بيزنطيا من قبل روسيا كما عبّر عنه الفيلسوف قسطنطين ليونتييف Konstantin Leontiev وأنشده الشاعر فيودور تيوتشببف Fiodor Ivanovitch Tiouttchev قائلا: “وستستضيف مجدّدا أقبية آيا صوفيا القديمة في القسطنطينية المنبعثة مذبح المسيح. فأركع وأجثو أمامها أيها القيصر الروسي ومن ثمّ أنهض قيصرا على سائر الشعوب السلافية”.
هل موسكو اليوم هي روما – بيزنطيا المنبعثة؟ وهل تطمح موسكو هذه إلى تحقيق مشروع مسيحانية – خلاصية Messianisme يندرج في إرث روما القديمة وروما الجديدة معا؟. هكذا مشروع عليه أن يتبنّى نظريّة سيّاسيّة تمزج بين الرؤية البابوية (الكاثوليكية) القديمة للسيفين في يد حبر كنيسة روما ورؤية تناغم السلطتين القديمة أيضاً للدولة الروميّة ( البيزنطية) التي تؤمّنها السلطة السياسية (قيصر) حامية كنيسة المسيح والتي تضمن وحدة الشعب.
هل يحلم فلاديمير بوتين ومعه بطريركيّة موسكو بإقامة أرثوذوكسيتهم وإعادة المسيرة من حيث فشل ستالين أي على أساس تجديد هاتين النظريتين الرومانيّتين السياسية؟
إذا صحّ هذا الطرح تصبح عندئذ موسكو جزءا من وجهة نظر الأخرويّة Eschatologie لتبيان الوحي الإلهي والمخطط الخلاصي. هذا المفهوم يبدو في روسيا (روما الثالثة المتجدّدة) في زمن فلاديمير بوتين والبطريرك كيريلّوس وكأنه استعاد شيئاً من دوره لقيادة شعب الله حتى المجيء الثاني للسيد المسيح. أحداث التاريخ، مثل سبعين عاما من الحقبة السوفياتية، لعبت دورها من الناحية البشريّة فقط، وهذه هي أحداث عابرة كالأزمات المتعددة التي هزّت الإمبراطورية الروميّة (البيزنطية). أمّا مخطّط الله فهو في مكان آخر. هو في الخلود وفي الزمن الذي سيشاهد الصليب “المنتصر والمحيي”. وهكذا أصبحت الأرثوذكسية، منذ البداية على هذه الأراضي جمعاء، في هذا البلد دون الحدود الطبيعية، هذه السهول الشاسعة من الأراضي الروسية Zemlia Russkaya، عامل الحفاظ على وحدة جسد “الأرض الروسية – الأم” Rossia – Matouchka.
لذلك يتم الكلام عن “روسيا المقدّسة” في المخيّلة الجماعيّة للأجيال المتتالية. مهما كان مصيرها: مجزأة من قبل أعداء أو محتلّة من قبل غزاة من المشارق والمغارب فقدسيّة هذه الأرض – الأم لا تتجزّأ ووحدتها لا تزول بفضل هويّتها الأرثوذكسيّة Pravoslavnaya.