(“الإخوان” السعوديون أو “إخوان من أطاع الله” في مطلع الدولة السعودية الحديثة)
وصلنا إلى أن الوهابية كانت المرشح الطبيعي للرد على مخاطر التحديث السريع، و”لاهوت التحرير”، أي جعل قضايا العدالة الاجتماعية، والكفاح ضد الكولونيالية في صميم الإيمان، والعقيدة الدينية. كانت مرشحاً طبيعياً لأنها في واد والعدالة الاجتماعية،و”لاهوت التحرير” في واد آخر، فكلاهما يستدعي حضوره غياب الآخر.
ثمة الكثير من اللغط والالتباس في كل ما يتصل بالوهابية وتاريخها. ومن الشائع في أغلب المعالجات ذات الصلة (الغربية التي يعيد عرب إنتاجها نتيجة الرشوة، أو البلادة الفكرية، والكسل العقلي) أن يبدأ الكاتب بسرد سيرة ومسيرة مؤسس الأيديولوجيا المذكورة، وعلاقتها العضوية بالدولة السعودية. ولا بأس من التذكير، أحياناً، يقول النسّاخ من عرب وعجم: إن الوهابية هي ما أطلق خصوم تلك الأيديولوجيا الدينية عليها، وعلى اتباعها، بينما لمعتنقيها تسميات مختلفة من نوع “أهل السنة والجماعة”، وما يتفرّع عن مفردات كهذه، إضافة إلى التوحيد طبعاً، من أطياف.
والواقع أن هذا كله قليل الأهمية إلا بقدر ما يتعلّق الأمر بالتوثيق. لذا، أود التركيز اليوم على أخطاء شائعة غالباً ما ترد في كتابات غربية، يرددها عرب من الحواضر، بلا تفكير ولا تدبير.
وهذه الأخطاء تندرج تحت عناوين عريضة من نوع نعتها بالإصلاحية، وإقحامها على فكر عصر النهضة العربي، والإيحاء بكونها ردة فعل على التوسّع الغربي.
وكل ما تقدّم نجم عن أخطاء فادحة في القلب منها الخلط بينها وبين “حركة الإصلاح الديني” الأوروبية في القرن السادس عشر. تمرّد المصلحون في أوروبا، بما فيهم “لوثر” ومن سبقوه وجاءوا بعده، على الثراء الفاحش للكنيسة، وطقوسها، وصكوك غفرانها. ولعل مقارنة العمارة، والطقوس، والرسوم والأيقونات بين الكنائس الكاثوليكية والبروتستانتية (وما تفرّع عنها) تغني عن الشرح والتفسير.
والمهم أن الإصلاحيين، في معرض الوقوف في وجه تغوّل سلطة الكهنة والقساوسة الدينية والدنيوية، قللوا من مكانة هؤلاء، مطالبين بالعودة إلى بساطة المسيحية الأولى، وإلى الكتاب المقدّس كمصدر وحيد للعقيدة. وهذا، كله، في سياق مرافعات وسجالات لاهوتية، وفلسفية، عميقة ومعقدة، لم تتوقف حتى الآن. ولا تبدو من قبيل المصادفة، في هذا الشأن، الصلة التي أنشأها فسّرها “ماكس فيبر” بين نشوء الرأسمالية وأخلاق العمل البروتستانتية. فأين هذا مِن، وفي، سيرة الوهابية؟
وفي المقابل، تجاهل المستشرقون الأوائل (الذين يُعاملون بقدر غير مبرر من العداء) الفرق بين أوروبا الحضرية والحضارية في أواسط القرن السادس عشر، و”نَجد” القبلية، قليلة الموارد والسكّان، في القرن الثامن عشر. أين هي الصلة بين ثراء الكنيسة، وفخامة مبانيها، وسلطة ممثليها، وفقر وتقشف وبؤس أضرحة ومزارات قبلية تمثل جزءً من الدين الشعبي في وسط الجزيرة العربية؟
وثمة مسألة يصعب تجاهلها: المكانة الاستثنائية، التي اكتسبها “الحديث” وعلومه في الوهابية خلافاً لمركزية القرآن. هذا ما نبّه إليه، وبرهن عليه، اللامع جورج طرابيشي في: “من إسلام القرآن إلى إسلام الحديث” (2010) وما ركّز عليه البريطاني ـ الأميركي حامد الجار، أستاذ الدراسات الفارسية والإسلامية، في كتاب صغير بعنوان “الوهابية” نشره بالإنكليزية قبل عقدين.
الفرق بين الجار وغيره من الباحثين الغربيين أن المذكور يعرف العربية جيداً، وكذلك تاريخ الشرق الأوسط. ولنقارن بينه وبين نوح فيلدمان، أستاذ القانون الأميركي (أسهم في وضع الدستور العراقي بعد الاحتلال)، الذي أفتى بثقة تثير الذعر (وتذكرنا بسخرية إدوارد سعيد من “الخبراء” الغربيين) أن ثمة أوجهاً للشبه بين الوهابية والبروتستانتية. وهم يترجمون ما كتب إلى العربية، طبعاً.
سبق وتكلمنا عن النسّاخ العرب. ومن سوء الحظ أن أدونيس، الشاعر العلماني التنويري، ارتكب الخطأ نفسه في مطلع الثمانينيات من القرن الماضي، عندما نشر بالتعاون مع زوجته خالدة سعيد مقتطفات من “كتابات” بن عبد الوهاب. لا نعرف ظروف ودوافع نشر الكتاب، ولكن نعرف أن أدونيس أعاد صياغة تقديمه للمختارات، ونشر التقديم كفصل في “الثابت والمتحوّل”. ونعرف، أيضاً، أنه أسقط اسم “المختارات” من قائمة أعماله.
أدونيس نسخ كلاماً لمستشرقين غربيين، لم يدقق فيه، عن إمكانية الحاق الوهابية بالفكر النهضوي العربي. والمشكلة مع أدونيس وأمثاله هي الكتابة بطريقة مجازية مقطوعة الصلة بالحقيقة التاريخية، وحتى بفكرة النهضة نفسها، التي تحتل فيها المسألة الاجتماعية مكانة مركزية. لذا، لا نجد في التقديم سوى جملة ألعاب بلاغية، أو كلام فاضي.
لا حضور لكل ما هو خارج الاقتصاد السياسي لمجتمع ما قبل الدولة في المخيال الرمزي للوهابية. لذا، يبدو الكلام عن مقاومة التوسّع الغربي مصادرة على المطلوب، فالوهابية تمرّدت على الأتراك العثمانيين (وهم ليسوا أجانب إلا في قاموس القومية، أما في الحقل الرمزي الديني فحكمهم شرعي ومشروع)، وفي الوقت نفسه تعاونت مع، ونالت دعم، البريطانيين، أي طلائع التوسّع الكولونيالي. وعلاوة عليه، بينما تحتل العلاقة بالغرب مكانة مركزية في أدبيات النهضويين العرب، لا نعثر عليها، ولا حتى على فكرة “السياسة” نفسها، في نصوصها المؤسِسة.
سبق وقلنا إن الوهابية في واد وتأويلاتها في واد آخر. ولا إمكانية، في الواقع، لفهم الظاهرة المعنية إلا بوصفها من تجليات المقدّس، أو ما ينبغي أن يكون عليه، في الاقتصاد السياسي لمجتمع الكفاف، “حرب الكل ضد الكل” (بلغة “هوبز”) في عصر ما قبل الدولة، حيث الغزوات القبلية والغنائم مكوّن أوّل ورئيس في التحريض والتجنيد، ونشوء ومراكمة الثروة، ونشوء السوق، والتبادل، وإنشاء حقول رمزية ودلالية، بدائية، لضبط هذا كله في تقاليد وقوانين تحفظ التراتبية، وتحول دون الفناء الجماعي.
الخلاصة: ثمة تعريفات أُقحمت بلا شواهد وبراهين، وتكاد لكثرة تكرارها تتاخم حد البداهة، وهي أبعد ما تكون.
نفصّل المزيد في معالجة لاحقة
khaderhas1@hotmail.com