لولا صناعة الرقائق الإلكترونية التي تتميز بها وتتفوق فيها على الدول الأخرى، لما استطاعت تايوان الصغيرة المعزولة والمحاربة من قبل ثاني أقوى اقتصاد في العالم (الصين) أن تصمد.
فهذه الصناعة وحدها هي التي تدر على تايوان مليارات الدولارات سنوياً، ما جعلها تقاوم عزلتها المريرة وكل الحروب الموجهة ضدها وتتخطى كل الأزمات التي يواجهها العالم بنجاح وتعزز اقتصادها حتى بلغ اجمالي ناتجها المحلي في عام 2020 نحو 600 مليار دولار، في حين كان الرقم لا يتجاوز 14 مليار دولار في عام 1973.
وغني عن القول أن الرقائق الإلكترونية أو ما يعرف أيضا بأشباه الموصلات تستخدم في كل شيء تقريبا، من المركبات الفضائية إلى الألواح الشمسية مرورا بالحواسيب والسيارات والأجهزة المنزلية والمعدات الطبية وغيرها. وتقول الإحصائيات أن 29 شركة من بين أكبر 30 شركة عالمية تعتمد في أعمالها على ما تنتجه تايوان من هذه السلعة الحيوية، وخصوصا ما تنتجه شركتها الرائدة المعروفة باسم TSMC التي تأسست عام 1987 وصارت اليوم مسؤولة عن انتاج 92% من انتاج الرقائق في العالم، بينما تقوم شركة سامسونغ الكورية الجنوبية بتوفير نسبة الـ 8%.
لكن كوريا الجنوبية، التي بدأت في هذه الصناعة من الصفر وتمكنت من منافسة اليابان، تحاول اليوم مزاحمة تايوان على هذا الصعيد وتعد العدة لذلك من منطلق أن ما تتميز به في مجال صناعة الإلكترونيات والسيارات وبناء السفن، لم يعد مربحا أو ذا أهمية جيوسياسية مثل صناعة أشباه الموصلات. خصوصا بعد البروز الصناعي الكبير للصين واكتساح منتجاتها أسواق العالم. وبمعنى آخر، يعتقد قادة سيئول أنه لكي يستمر اقتصادهم في النمو والازدهار في مواجهة تقلص عدد السكان وعدم اليقين الجيوسياسي والتحديات الأمنية، فإنه من الضروري بذل جهود ضخمة وغير اعتيادية لتعزيز موقع كوريا الجنوبية في عالم صناعة الرقائق، سواء في مواجهة تايوان أو مواجهة الصين التي بدأت باستخدام تكتيكات للنهوض بصناعتها غير المتقنة من هذه السلعة الاستراتيجية مثل استخدام مواردها المالية الضخمة في بناء مصانع هائلة، وتقديم الدعم الحكومي السخي، واصطياد المواهب الأجنبية وترغيبها، ناهيك عن استثمار سطوة حزبها الحاكم على مختلف مناحي الحياة لتوجيه دفة الاستثمار الصناعي إلى الوجهة التي تريدها.
ومنذ أن أعلن الزعيم الكوري الجنوبي السابق “مون جيه إن” في عام 2021 أن بلاده عازمة على ترسيخ مكانتها “كأفضل منتج في العالم لأشباه الموصلات المحتوية على ذاكرة” قامت سيئول بخطوات عدة لمنافسة تايوان والصين على هذا الصعيد. بل أعلنت أنها ستتولى زمام المبادرة عالميًا في مجال أشباه الموصلات التي لا تحتوي على ذاكرة أيضًا، طبقا لـ”تشو كيونغ سون” أستاذ الهندسة الإلكترونية في جامعة هانكوك للدراسات الأجنبية فإن صناعة أشباه الموصلات (غير المتعلق بالذاكرة) ليست جديدة على كوريا الجنوبية، لأن الأخيرة بدأت في صناعتها منذ عقود، لكن جهودها لم تكن ناجحة كما كانت في صناعة أشباه الموصلات المحتوية على الذاكرة”. ومما قاله الرئيس الكوري أيضا أن بلاده سوف تستثمر الأموال والمواهب بلا حدود لتجعل من هذه الصناعة إحدى صناعاتها الإستراتيجية إلى جانب المركبات الذكية والمستحضرات الصيدلانية الحيوية.
يقول المراقبون أن طموحات سيئول هذه تصطدم ببعض العقبات المتعلقة ببيئة الأعمال التجارية والتنظيم البيئي والانتهازية العقارية والبيروقراطية على المستويين المحلي والوطني، ما يجعل حركة الشركات الصناعية، حتى لو كانت صاحبة نفوذ ورائدة عالمية كشركة “سامسونغ”، صعبة أو بطيئة في عالم متميز بالقفزات. ويضربون مثالا بمجمع جديد لشركة “سامسونغ” لصناعة الرقائق استغرق البدء في بنائه نحو خمس سنوات، في حين ان الأمر في الصين لا يستغرق سوى أشهر معدودة بسبب طبيعة النظام السياسي.
وبغض النظر عن كل ما قيل ويقال، فإن كوريا الجنوبية ماضية في خططها بدليل أنه وضع مؤخرا حجر الأساس لمجمع ضخم لصناعة الرقائق في بلدة وونسام الريفية بمقاطعة يونجين على بعد 40 كلم جنوب العاصمة، علما بأن هذا المشروع يعد أكبر مشروع منفرد في تاريخ صناعة الرقائق في العالم (يمتد على مساحة 4 ملايين متر مربع وأطلقت عليه الحكومة إسم حزام أشباه الموصلات لأنه بالفعل حزام صناعي يمتد من جنوب سيئول عبر سوون ويونغين إلى ميناء بيونغ تايك، وتعبره السيارة في أقل من 90 دقيقة).
ويستلزم المشروع، الذي زلزل الحياة في منطقة زراعية كانت إلى وقت قريب هادئة، استثمار حوالي 200 مليار دولار، نصفه في السنوات الخمس الأولى، وسيكون قادرا وقت اكتماله على انتاج 800 ألف من الرقائق من الجيل الجديد شهريا. وتنوي سيئول، من وحي خبرتها الطويلة، أن تمهد في السنوات الخمس الأولى الأرضية الملائمة لإنطلاق صناعي ناجح وفعال، وذلك من خلال الانفاق على توفير امدادات الكهرباء والمياه وشبكات النقل والتوريد، علاوة على المرافق السكنية والتعليمية والترفيهية القادرة على جذب المواهب والقوى العاملة المؤهلة وتلبية متطلباتها المعيشية على أفضل وجه، مقلدة في ذلك تايوان التي أقامت صناعتها من الرقائق على طول ساحلها الغربي من خلال تعاون دقيق ومستمر بين الحكومة والشركات الصناعية والأوساط الأكاديمية والعلمية.
* أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي
مقال علمي رائع .. تحية للكاتب عبدالله المدني