منذ أن كنت طفلا صغيرا (لم يتعدَّ العاشرة من العمر) كانت السينما هي أهم تسلية في حياتي. و كان أبي رحمه الله شيخا أزهريا ولم تكن السينما في قاموسه أبدا، بل كانت رجسا من عمل الشيطان شأنها شأن أي شيء يصرف الإنسان عن العمل أو العبادة. وكانت أمي سيدة فلاحة قروية لم تذهب إلى السينما في حياتها.
وبالرغم من ذلك فقد كنت في هذا السن الصغير أذهب إلى سينمات الدرجة الثالثة في الأحياء الشعبية بمفردي تماما، وكنت أقتصد من مصروفي الصغير لكي أذهب إلى سينما إبن البلد في حي المدبح أو سينما الأهلي أو الشرق أو إيزيس بحي السيدة زينب أو سينما ميراندا بحي الروضة وكانت هي الأقرب بالنسبة لمنزلنا بحي مصر القديمة. وكانت السينما تنقسم إلى ثلاث درجات، درجة ثالثة (الترسو) ودرجة ثانية (الصالة) ودرجة أولى (البلكون). وكنت في الغالب أذهب إلى الدرجة الثالثة (الترسو) وهي أرخص درجة. وأذكر أني مرة كنت في سينما ميراندا درجة الترسو (أمام الشاشة) ومن أجل أن أرتقي بنفسي حاولت أن أقفز بين السور الذي يفصل بين درجة الترسو والدرجة الثانية (الصالة)، وفوجئت بموظف السينما يكتشف ذلك. فما كان منه إلا أن ضربني علقة ساخنة وطردني تماما خارج السينما وغادرت السينما وأنا أبكي ليس بسبب العلقة، ولكن بسبب خسارتي التذكرة التي كلفتني في ذلك الوقت قرشين ونصف، مصروف أسبوع كامل!!
وكانت أفضل سينما بالنسبة لي هي سينما إيزيس بحي السيدة زينب بجوار مسجد أحمد بن طولون. حيث كانت هذه السينما تعرض ثلاثة أفلام أمريكية في بروجرام واحد ولكنها كانت أغلى قليلا من سينما ميراندا حيث كانت تكلف ثلاثة قروش علاوة أنها كانت بعيدة عن منزلنا. لذلك كان لا بد أن “أتشعبط” في الترام حتى لا أدفع ثمن تذكرة الوصول إلى حي السيدة زينب.
وأذكر أني في سينما إيزيس قد تعرفت إلى نجوم السينما الأمريكية الكبار في ذلك الوقت مثل جون واين وكلارك جيبل وجاري كوبر وجيمس دين وشارلي شابلن ولوريل وهاردي ومارلين مونرو ودوريس داي وريتا هواريث وغيرهم. وأذكر أننا في حواري مصر القديمة كان هناك بعض الأولاد يحاولون تقليد بعض نجوم السينما الأمريكية فهذا يحاول تقليد جاري كوبر وكنا نطلق عليه (علي كوبر) وكان الآخر يقلب ياقة القميص مثل جيمس دين فكنا نقول له: “فاكر نفسك جيمس”!!
وأذكر أن أهم فيلم د جذب إنتباهي بدرجة كبيرة فيلم أسمه (شازام) وهو فيلم من أفلام الأبطال الخارقين مثل سوبر مان وباتمان وغيرهم. وما أذكره من هذا الفيلم هو أن بطل الفيلم كان نصير الضعفاء ضد المجرمين، وكان يقف ويرفع يديه إلى أعلى ويهتف (شازام) فتجده طائرا في الهواء ينتقل من مكان إلى مكان ويكتسب قوة خارقة ينقذ بها الضعفاء… وكثيرا ما وقفت في بلكونة منزلنا رافعا يدي إلى أعلى هاتفا بأعلى صوتي (شازام) لربما أطير في الهواء ولكن شيئا من هذا لم يحدث، والحمد لله أني لم أتجرأ بالقفز من بلكونتنا في الدور الرابع!
وعندما هاجرت إلى أمريكا كانت ذكرى فيلم (شازام) لا تزال في مخيلتي، لذلك قررت أن أشتري فيديو الفيلم بأي سعر، وبالفعل وجدته يباع على الأنترنيت. وإشتريته بالفعل ويا ريتني ما فعلت لأنه حطم ذكرى جميلة كانت في مخيلتي، حيث وجدته فيلما بدائيا بطريقة مضحكة ولا يصلح حتى لأطفال هذا العصر! وقد قرأت مؤخرا أنه قد تم إنتاج هذا الفيلم مرة أخرى سنة 2019، وسوف أحاول مشاهدته على النت هذه المرة بدلا من “ترسو” سينما إيزيس، وأرجو أن أستعيد تلك الذكرى الجميلة مرة أخرى.
وما زلت حتى اليوم أحب الذهاب للسينما بالرغم من أني أشاهد كل الإفلام على شاشة تليفزيون كبيرة في منزلي وآخر راحة، إلا أن الذهاب للسينما ومشاهدة الأفلام داخل الصالة المظلمة له مذاق خاص. وخلال سنتي الكورونا كنت أفتقد كثيرا الذهاب للسينما. وفي الأسبوع الماضي، ذهبت لسينما قريبة من منزلنا وهذه المرة ذهبت بسيارتي حيث لا يوجد ترام “أتشعبط” عليه في أمريكا، وشاهدت فيلم : “توب جن: مافريك” بطولة توم كروز، وهو فيلم مغامرات جيد الإخراج والتصوير، ويمجد آلة الحرب الأمريكية وكفاءة الطيارين الأمريكان الخارقة للعادة. ولو رغب سلاح الجو الأمريكي عمل فيلم دعاية له فلن يجد أفضل من هذا الفيلم الذي يمجد الطائرات الأمريكية والتي ممكن أن تنشر التدمير والقتل على مستوى كبير وكل هذا للدفاع عن أمريكا ضد أي عدو! والفيلم يحكي عن رغبة القيادة العسكرية الأمريكية في تدمير شحنة يورانيوم مخصب بين أحد الجبال في موقع ببلد عدو لأمريكا (لم يتم ذكر الدولة، ولكنها بالطبع إيران)، ويجب أن يتم تنفيذ هذه العملية الانتحارية في أقل من ثلاثة دقائق. والفيلم بالطبع مشوق وهو أكثر الأفلام الأمريكية مبيعا هذا العام.
وكل أفلام الأبطال الخارقين تعتمد على القوة دائما. سوبر مان يستطيع عمل أي شيء، يطير فوق السحاب، ينزل تحت الماء، وبل وفي أحد الأفلام أرجع الزمان للخلف بأن أدار بقوته الخارقة الكرة الأرضية للخلف فرجع الزمن للوراء حتى ينقذ حبيبته من الموت (وعاوزنا نرجع زي زمان… قل للزمان أرجع يا زمان“). وكان يقوم ببطولة هذا الفيلم واحد من أفضل من قاموا بأداء دور البطل الخارق للطبيعة الممثل الرائع (كريستوفر رييف)، ومن المفارقات المحزنة أن هذا الممثل وهو في عمر 43 سنة سقط من فوق حصانه أثناء الإشتراك في بطولة للفروسية في ولاية فرجينيا، فكسرت رقبته، وظل مشلولا تماما لمدة تقارب العشرين عاما حتى مات عام 2004.
ولم نجد حتى الآن بطلا سينمائيا خارقا للعادة لا يعتمد على القوة فقط، بل يعتمد على قيم إنسانية أخرى، مثل أن يكون له قدرة خارقة على قيادة التفاوض بين الخصوم والأعداء، أو له قدرة خارقة على نشر الحب بين الناس، أو له قدرة خارقة على الدخول في عقول المجرمين وإزالة الشر من نفوسهم وعقولهم، أو قدرة خارقة يستطيع كبح الطمع في نفوس الناس، أو له قدرة خارقة لإزالة عوامل التفرقة والبغضاء بين الناس.
وأعتقد أن هذا لن يحدث، لأن الأنسان بطبيعته يحترم القوي ويحتقر الضعيف! فقد كان لدينا في أحد الأحياء الشعبية بالقاهرة فريق كرة قدم أسمه “فريق الأسد المرعب” وفريق الأهلي المصري لكرة القدم يطلق عليه لقب “الشياطين الحمر” ولم يحدث أبدا أن كان هناك فريق كرة قدم باسم “الحمامة الوديعة”!
شعب متشعبط بطبعه في الذكريات الحلوة :)))
رائع ومبدع دائما وابدا مهندس سامي