كم كنت محظوظا حين تسنى لي ان اكون بين الوف الصبايا والشباب الذين انتقلوا من منطقة الاونيسكو حيث كانت تلجأ كلية العلوم، الى منطقة الحدث/ الشويفات، لنشهد جميعا على حدث تدشين المبنى الجديد للكلية سنة ١٩٧١. فمباني العلوم شكلت باكورة المدينة الجامعية التي نجح حسن مشرفية في اقناع الرئيس شارل الحلو والنخب الحاكمة في تأمين مليون متر مربع لها.
معظمنا لم يكن يملك ثقافة معمارية يعتد بها، خصوصا في المباني الأكاديمية، إذ ان شهورنا الجامعية الاولى امضيناها في مبان وهنغارات يصعب تصنيفها بالجامعية، مع ان كافيتريا كلية التربية القريبة منا ومقهى الجندول القريب من كلية الاداب كانا يبعثان فينا شعورا خاصا، تختلط فيه النكهة الاكاديمية بنكهة ثقافية ونضالية معززة بالاحلام الثورية التي طبعت جيلنا انذاك.
ومع ذلك فإن جمال وحداثة المبنى الابيض واقسام ومدرجات ومكونات الصرح، ووسع الباحات والفسحات الخضراء المنبسطة في كل اتجاه، جعلنا ننجذب الى هذه الجنة الاكاديمية التي ستكون مرتع خيلنا لسنوات، وقد قيل عنها في الصحف انها الاحدث والاكثر تطابقا مع المقاييس والمعايير والمتطلبات الاكاديمية العصرية في المنطقة.
في اليوم الاول للانتقال تدفق الطلاب من مداخل الحرم المختلفة نحو الصرح، حيث د.حسن مشرفية ورفاقه في الانتظار. كان د.حسن يبدو وهو ينفخ غليونه وكانه جنرال محاط بضباطه وهويحتفل في يوم الانتصار، مستعرضا واياهم تلك الحشود المتدفقة من جميع محافظات بلاد الارز.
شكل تدشين مباني كلية العلوم في الحدث محطة مفصلية في تاريخ الجامعة اللبنانية، خصوصا انها ترافقت مع خطة طموحة لارسال البعثات العلمية للحصول على الدكتوراه في اهم الجامعات الفرنسية والانكليزية والغربية عموما، بهدف اعداد الكادر العلمي المناسب للصرح الجديد. فلا غرابة بعدئذ بان تتحول الكلية الى مركز علمي متقدم يؤدي الى اغلاق بعض المؤسسات التعليمية الجامعية، كمركز الرياضيات والى اشتداد المنافسة العلمية مع البعض الآخر.
لا شك في ان رؤيوية حسن مشرفية قد لعبت دورا كبيرا في تعزيز وتطوير الجامعة اللبنانية عموما وكلية العلوم خصوصا، ووضعها في مصاف الجامعات الرائدة في لبنان، خصوصا جامعتي الاميركية واليسوعية الاكثر عراقة، اذ تأسستا في القرن التاسع عشر. وهو ما تعزز لاحقا بانشاء الكليات التطبيقية، والتي فتحت الباب واسعا امام المتفوقين من ابناء الشريحة الدنيا من الطبقات الوسطى، كما من بعض شرائح الطبقات الشعبية لدراسة الطب والصيدلة والهندسة ، فضلا عن الاعلام وادارة الاعمال، ودخول نادي المهن والإختصاصات البارزة. ذلك النادي الذي احتكره طويلا ابناء الطبقات الميسورة والقادرة على دفع التكاليف الباهظة، سواء في الجامعات الخاصة في لبنان، سواء في اوروبا والولايات المتحدة الاميركية، علما ان كثر تسنى لهم “بمنح حزبية” الدراسة في جامعات الدول الاشتراكية.
لم تأت رؤيوية حسن مشرفية ورفاقه في كلية العلوم من الفراغ، وهي ترافقت مع ابداعات ونشاطات كثير من الاساتذة في كليات الاداب والحقوق والعلوم الاجتماعية، ومع حيوية اكاديمية وثقافية ونضالية، تكونت في سياق نهوض وطني وديمقراطي ومطلبي عام في فترة الستينيات والسبعينيات من القرن العشرين، شكلت الجامعات احدى ساحاته الرئيسية. وقد تغذت هذه الحيوية من الحركة التحديثية والاصلاحية التي ارساها الرئيس شهاب والتي ادت الى تعزيز القضاء وبناء مؤسسات التفتيش والخدمة المدنية وغيرها، والى انتشار التعليم الرسمي الاساسي والثانوي في جميع المناطق، مما عزز دور الجامعات عموما والجامعة اللبنانية خصوصا في اعداد الكوادر المناسبة.
شكل قانون التفرغ الذي انتزعه الاساتذة بنضالهم، معطوفا على مجلس الجامعة واستقلالها الاداري والاكاديمي درة التاج في العملية الادارية والاكاديمية. وسرعان ما انتظم الاساتذة المتفرغون نقابيا حيث اسسوا رابطة الاساتذة المتفرغين في الجامعة اللبنانية، علما ان الحركة الطلابية كان يقودها الاتحاد الوطني لطلاب الجامعة اللبنانية الذي دعم حركة الاساتذة، كما ساهم في معركة اقرار الضمان الصحي لطلاب الجامعة وفي انجازات كثيرة، نذكر منها الكليات التطبيقية ومنح التفوق والاختصاص، فضلا عن اشراك الطلاب في المجالس التمثيلية.
لن نستفيض في شرح التداعيات الكارثية للحرب الاهلية التي انفجرت في نيسان ١٩٧٥، على الجامعة اللبنانية، بل سنكتفي بالاشارة الى ان الجامعة التي توقفت اعمالها الاكاديمية مرارا، قد انشطرت مع العاصمة المنشطرة وتهجر اساتذتها وموظفوها وطلابها في الشطرين وفي باقي المناطق.
ومع ان هذه الجامعة حافظت على ادارة مركزية موحدة، الا انها تشتتت في فروع، تكون معظمها عشوائيا، وسرعان ما تشرعن هذا التفريع بالمرسوم ١٢٢ الصادر سنة ١٩٧٧.
هكذا دخلت الجامعة اللبنانية مرحلة انحدارية خطيرة، خصوصا ان السيطرة على الفروع كانت تعكس واقع السيطرة على الارض، مما ارسى الاسس للتلاعب باستقلاليتها تحت مطرقة ميليشيات وقوى الامر الواقع الفئوية والمذهبية. ولنا ان نتخيل نتائج هذا الطرق على البنى الاكاديمية والتعليمية والادارية التي كانت قد تخلخلت في جولات الحروب والمواجهات على انواعها، ما أسس لمرحلة من المحاصصة والزبائنية، طالت ليس فقط تعيين الرئيس والعمداء ومدراء الفروع المستحدثة، بل طاولت قضايا التعاقد والتفرغ والملاك والتوظيف الاداري.
لم تمر هذه التطورات الدراماتيكية التي ضربت وحدة الجامعة ووحدة اهلها واستقلال قرارها دون مقاومة، خصوصا من الاساتذة الرواد. الا ان هذه المقاومة ظلت عاجزة امام السيل العارم للتفكك الطائفي والمناطقي والفئوي في البلد عموما، وبدت كمقاومة العين للمخرز.
شكل النصف الثاني من ثمانينيات القرن العشرين مرحلة حراكات اجتماعية ومدنية ونقابية متنوعة ومعظمها عابر للطوائف والمناطق، خصوصا مع انهيار قيمة الرواتب والاجور بالتوازي مع تسارع انهيار الليرة اللبنانية. وقام اساتذة الجامعة، بعد ان تكيفوا مع التفريع وتداعياته واستتباعاته، باضرابات مطلبية تراوحت عناوينها بين عودة المجالس التمثيلية في سياق اعادة تنظيم الجامعة المتفرعة وبين دخول الملاك المتوقف من سنوات، وما بينهما من مطالب معيشية هدفت لتأمين الحد الأدنى اللائق والمستقر من الحياة الكريمة للاستاذ وعائلته كي تصان كرامته ولا يهاجر. وقد ابتدع الاساتذة لجان متابعة منتخبة الى جانب القيادة التاريخية لرابطة الاساتذة، كما عملوا على انشاء نظام جديد للرابطة، إذ ان نظامها لم يعد يتناسب مع التفريع الاداري الرسمي للجامعة.
وقد ساعد هذا الحراك اهل الجامعة اللبنانية على ولوج ومواجهة مرحلة الطائف والتي شهدت محاولة احتواء الحركة النقابية من قبل النظام الامني السوري اللبناني المتشكل تحت القبضة السورية في اعقاب حرب الخليج . وقد جرت انتخابات الرابطة تحت سقف هذه المواجهة، وساهمت قيادتها الديمقراطية الجديدة مع الاتحاد العمالي وهيئات نقابية أخرى في تأسيس هيئة التنسيق النقابية، والتي لعبت دورا استثنائيا في قيادة الحركة المطلبية ومواجهة سياسة الاحتواء باللحم الحي، وان دون نجاح في كثير من الاحيان.
شهدت مرحلة التسعينيات، اقرار وانشاء صندوق تعاضد الاساتذة وتحسينا كبيرا في الرواتب والاوضاع الاكاديمية، تحت ضغط منظم ومتصاعد من الاساتذة واهل الجامعة وهيئة التنسيق، معطوفة على تفهم من الرئيس الحريري لخصوصية الجامعة والتي استكمل بناء مدينتها الجامعية في الحدث ودعم حركة اطلاق البناء الجامعي الموحد في المون ميشال في طرابلس.
الا ان الجامعة كانت قد تطيفت و تمذهبت الى حد كبير، ودخلت في نادي الانقسامات الفئوية والقبائلية، كما تصاعد العبث في استقلاليتها وديمقراطيتها وفي روحها الاكاديمية في ظل النظام الامني السوري اللبناني المتصاعد، خصوصا بعد انتخاب الرئيس لحود وتفاقم الانقسامات والتوترات والصراعات، فضلا عن تصاعد الحركة السيادية والاستقلالية في وجه النظام السوري، وصولا لزلزال اغتيال الحريري ودخول البلاد في مرحلة سياسية وامنية جديدة تستند على فائض القوة الفئوية المرعية ايرانيا بعد خروح القوات السورية في اعقاب انتفاضة الارز السيادية.
في رصد سرعة التدهور في واقع الجامعة اللبنانية، نتذكر كيف كوفئ الوزير الملك عدنان السيد حسين من القوة النافذة، على انضباطه بالتوقيت الدرامي لاسقاط حكومة سعد الحريري الاولى في لحظة دخول الأخير للبيت الابيض، بتعيينه رئيسا للجامعة. لذا فان دعوة رئيس الجامعة اللبنانية ووزير التربية بحضور رئيس الهيئة التنفيذية لرابطة الاساتذة منذ بضعة أيام، لانقاذ الجامعة من الانهيار الشامل لن تفعل الكثير مع السلطة الفاجرة، بعد ان وصل التدهور الى قعر غير مرئي في نار جهنم هذه السلطة التي زادها الوباء استعارا.
ومع ان لبنان يخسر احدى اهم ميزاته في تراجع واقع جامعاته العريقة بعد ان شكلت جاذبا للنخب والكوادر العربية على مدى قرن، الا ان الجامعة اللبنانية تدفع اثمانا اضافية بعد ان خسرت خصوصيتها في المجتمع والتي ميزتها عن باقي مؤسسات القطاع العام، وشكلت حبل نجاتها في الملمات.
اهل الجامعة غير مسؤولين عن أزماتها، الا في بعض الحدود، إذ انهم تكيفوا بالاجمال مع نتائج فقدانها القرار المستقل وتراجع خصوصيتها الاكاديمية، حيث تحولت الى ملاذ وظيفي احيانا، قبل ان تنهار هذه الوظيفة على رأس الجميع مؤخرا، ويبدأ كثر في البحث عن مصائر أخرى في بلاد الله الواسعة. ومع ذلك فاهل الجامعة، والاساتذة في المقدمة، مسؤولون عن ابتداع وسائل المواجهة والصمود التي تتطلب التضحيات كجزء من المقاومة الاكاديمية التاريخية، مما قد يسهل مهمة ايقاظ وتنبيه المجتمع المدني والأهلي، بمعارضاته المختلفة والمتنوعة لجسامة الخسارة ولصعوبة التعويض. ذلك ان معظم هذه المعارضات التغييرية والسيادية تبحث دائما عن ام المعارك في انقاذ البلد من الانهيار، وتكتفي بما أصبح يشبه الندب السلبي على تداعيات هذا الانهيار على جميع القطاعات التي شكلت تاريخيا دعائم هذا البلد الصغير.
هكذا حصل مع القطاع المصرفي والتعاميم، ومع كوارث الدعم والتهريب واستنزاف فلس الارملة، ومع قطاع الاستشفاء والدواء، ومع المياه والكهرباء، ومع المحروقات والمولدات، ومع الغذاء والرغيف واللائحة تطول. فهل يفلح اهل الجامعة اللبنانية المنهكون حتى الثمالة في تغيير ولو صغير في المشهد؟ وضمن أية رؤيا وباية وسائل؟ المهمة صعبة، مركبة ومعقدة وبابعاد كثيرة. ولكن المواجهة حتمية، لأن الجامعة اللبنانية لا تستطيع الهروب أو الإختباء، علما أن كثيرين من أهل الجامعة، ساهموا في صنع المشهد الجميل لانتفاضة الغضب التشرينية وقاوموا بصدورهم وعيونهم وعقولهم شتى صنوف القمع والسلبطة السلطوية والميليشياوية.
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس في 25\7\22