أخذ الأمر بعداً أكثر جدية من وصفه بالعصفورية.
بين حادثتي اقتحام الفريق العوني القضائي الأمني المصرف المركزي والتحقيق المطوّل مع النائب البطريركي الماروني موسى الحاج تعيدنا الذاكرة إلى ما هو أدهى وأكثر خطورة سواء وصف بالجنون أو جرى تصنيفه بالرسائل الهادفة، مع كل ما تحمله من خلفيات سياسية.
في العام 1989 وأثناء ترؤس العماد ميشال عون الحكومة العسكرية المبتورة لم يتردد الفريق العوني في حينها بالتفكير ببعض الخطوات الجهنمية. السيطرة على مصرف لبنان المركزي كانت هاجساً منذ ذلك الوقت بموازاة إطلاق حرب التحرير. في إحدى الجلسات لم يتوانَ هذا الفريق عن طرح فكرة اقتحام غرب بيروت من أجل السيطرة على مبنى مصرف لبنان، لأن الحاكم في حينها الراحل إدمون نعيم كان يتعاطى مع رئيس الحكومة المقابلة الدكتور سليم الحص، وكان يعمل على تيسير الأمور في ظل الانقسام بين شرقية وغربية، بإرسال رواتب العسكريين الذين تحت إمرة الجنرال. الشكوى كانت أن ما يصرفه البنك المركزي لا يكفي لشراء ذخيرة، هي التي كان يقصف بها الجيش غرب بيروت، ثم التي استهدف بها مناطق سيطرة «القوات اللبنانية» بعد حصوله على أسلحة وذخائر من عراق صدام حسين. ولاحقاً جرى قصف منزل الرئيس الحص بأكبر القذائف وأشدها فتكاً، فأخطأته ببضعة أمتار وحفرت في الشارع الذي يقطن فيه حفَراً ضخمة.
بعض الضباط في اليرزة الذين هالتهم فكرة اقتحام بيروت من أجل السيطرة على مصرف لبنان أوصلوا المعلومة إلى من يلزم فاتُّخذت الاحتياطات، ثم جاء التقييم العسكري بأن الأمر متعذر نظراً إلى وجود الجيش السوري ووحدات الجيش الخاضعة لأوامر حكومة الرئيس الحص في غرب بيروت وبالتالي يستحيل القيام بعملية عسكرية من هذا النوع.
لكن فكرة أخرى راودت الفريق المغامر، هي مشاورات جرت مع بعض أصحاب المصارف، منهم رئيس جمعية المصارف في حينها الراحل جورج عشي، بأن يجري تأسيس مصرف لبنان مركزي آخر تحت سلطة الحكومة العسكرية تتولى طبع الليرة اللبنانية والإنفاق منها. صرف النظر عن الفكرة بعدما كانت نصيحة عشي وغيره بأنها خطوة مستحيلة لأن الأمر لا يتعلق فقط بطبع المال بل بالتوقيع المعترف به دولياً للحاكم إدمون النعيم، على العملة، وبحصر شرعية التحويلات عبر المصرف المركزي… بعض جوانب الواقعة الأخيرة منشورة في كتاب نائب حاكم مصرف لبنان السابق غسان عياش عن مذكراته…
التذكير بهذه الوقائع يفضي إلى أن «اقتحام» مصرف لبنان و»السيطرة» عليه لمناسبة دخوله الاستعراضي من قبل القاضية عون، مرده «الحنين» إلى أفكار من هذا النوع منذ أكثر من 30 سنة.
أمر آخر يستدعي الذكريات أيضاً. مع واقعة استجواب المطران موسى الحاج قبل أيام في الناقورة. ومع اختلاف الحادثتين وبصرف النظر عمن يقف، سياسياً، خلف هذه وتلك، فإن الرسالة الموجهة إلى البطريرك بشارة الراعي، وغيره من الزعامات، من وراء الحادثة، تحمل دلالات كبيرة. والذي حصل أمر جلل، إذ يضيق صدر الفريق صاحب السلطة الفعلية في البلد ويضيق الهامش الذي يقبل به من معارضي إمساكه بالقرار.
ومن دون الاستغراق في التفاصيل، والضياع في سردياتها، تقفز إلى الذهن حادثة أخرى تدعو إلى التساؤل عما إذا كنا بدأنا نشهد سيناريو يشبه ذلك الذي حصل في العام 2004 . فهل تتكرر وقائع شبيهة بتلك التي حصلت قبل أشهر من الاستحقاق الرئاسي؟ فبعدما شعر الرئيس السوري بشار الأسد بأن بعض دول الغرب وبعض القوى في السلطة، ومنهم الرئيس الراحل رفيق الحريري يتجهون إلى التفتيش عن خيارات مستقلة، في انتخابات رئاسة الجمهورية، استدعى الحريري وفي حضور 3 ضباط مخابرات معنيين بالوضع اللبناني ليبلغه بفجاجة وفي حضورهم أنه «أنا الذي أقرر من يأتي رئيساً للجمهورية في لبنان، لا أنت ولا أي من ضباط المخابرات، أو أي كان آخر»…
هل بلغ الضيق من مواصفات الراعي لرئيس الجمهورية المقبل حد استخدام وسائل كالتي استُخدم فيها القضاء مع المطران الحاج، كرسالة إلى البطريرك، ما استدعى إشارة بيان المجمع الدائم للأساقفة الموارنة إلى «أزمنةِ الاحتلالِ والولاةِ في القرونِ السابقةِ؟».
الحنين إلى التاريخ لا يعني تكرار تجارب أخذ البلد إلى مآسٍ وحوادث لم يعد يحتملها…