كان جبور الدويهي ينزل الى مدينة طرابلس من بلدته زغرتا بشكل شبه يومي، حتى بعد تقاعده من التعليم في قسم الادب الفرنسي في كلية الاداب اللاجئة الى ثكنة هليل في حي قبة النصر.
الكاتب الدويهي كان من رواد مقهى البان دور الزجاجي في شارع رياض الصلح (او شارع الكزدورة كما كان يطلق عليه شباب وصبايا المدينة)حيث يرتاح لكتابة رواياته على لاب توبه الصغير، في جو هادئ وانيق، ولكن مفعم بالحياة. وكان صديقه واحد محاوريه الطرابلسيين الراحل طارق دسوقي يقول له بثقة النخب الطرابلسية الفخورة، انظر كيف تتدبر هذه المدينة المتروكة امرها رغم الازمات والقهر والفوضى. الا ان الاكاديميين جبور و طارق لم يتوقفا عن عادة المرور بمقهى الاندلس ليلتقيا بزملائهما السابقين من اساتذة التعليم الثانوي والاساسي الذين ثابروا في ارتياد هذه الصومعة القابعة على بولفار فؤاد شهاب. هؤلاء الاساتذة يأتون الى الاندلس وجارتها البينكي من الاحياء الطرابلسية، كما من بعض البلدات والقرى الشمالية، رغم ما طرأ على هذه البلدات من وسائل جذب اجتماعي. خصوصا بعد التشوهات الاقتصادية والتغييرات الديموغرافية التي طالت المدينة ابان الحرب الاهلية، وما تلاها من تحولات سياسية وامنية واجتماعية خلال مراحل الاطباق السوري الثقيل على المدينة.
فرغم المعاناة والمظلومية وتراجع دور طرابلس الاقتصادي والسياسي لصالح بيروت الصاعدة كعاصمة مركزية لدولة لبنان الكبير. ورغم محاولات التنميط والتصحير، ظلت الفيحاء، التي انشأت كواحة للتلاقي والتجارة بين المدن الفينيقية المتنافسة، وكمحطة من محطات التواصل بين الشعوب والممالك والامبراطوريات، تختزن على مر العصور والحضارات المتعاقبة، عطرا طيبا يفوح منها اصالة وانفتاحا. وقد اطلق نزار قباني على المدينة، الملتحفة ببساتين الليمون واشجار الزفير، حين زارها اسم قارورة الطيب.
شكلت الفيحاء احدى حواضر العمل الوطني والديمقراطي والعروبي، وانطلق منها الرسامون والنحاتون والكتاب والشعراء، واحتضنت اول مسرح في لبنان، كنا كان لأبنائها دورا في الحركة العربية الثورية، خصوصا في المملكة العربية السورية. واجه الطرابلسيون الفرنسين من اجل العروبة اولا ولاحقا من اجل استقلال الوطن اللبناني الذي ارتضاه الجميع، علما ان ابنها الظابط فوزي القاوقجي قاد جيش الانقاذ الفلسطيني في اصعب الظروف.
تقول اليزابيت طومسون في كتاب how the west stole democracy from the Arabs ان احد مندوبي طرابلس للمؤتمر العربي السوري ويدعى عثمان سلطان كلف بتلاوة وشرح الدستور الذي صاغه المؤتمر دون توقف لما بعد توقيت انذار الجنرال غورو حتى لا يحل الملك فيصل المؤتمر ويقبل بشروط غورو الكولونيالية. ذلك أن “الملك الدستوري” لا يستطيع أن يحل المؤتمر قبل ان ينتهي من المصادقة على الدستور. ويبدو ان هذا الكتاب الفائق الاهمية تجري ترجمته في مركز دراسات يرأسه الباحث الطرابلسي خالد زيادة.
البان دور والاندلس ليسا سوى مؤشرين صغيرين عن حيوية الحياة لثقافية وحتى السياسية والحزبية بصعودها وهبوطها في المدينة العربية العريقة(بالنظر لدور المقاهي الطرابلسية في الاجتماعات واللقاءات والترتيبات على انواعها، خصوصا مقاهي التل وفهيم التراثيين). فقد تهالك وسط المدينة التجاري والتراثي و تداعى البولفار الشهير الذي شكل، بمقاهيه ودور ونوادي السينما والمسرح فيه، وبمؤسساته المتنوعة وحسن تنظيمه، مع الوسط المذكور، رمزا للحداثة وجاذبا للزوار والرواد من كل لبنان وبعص سوريا والعراق، فضلا عن جذبه للمتظاهرين والمحتجين اليساريين. وقد استمرت عشرات المقاهي التراثية والحديثة، فضلا عن المكتبات والروابط والنوادي الثقافية والاجتماعية، في استقطاب فئات متنوعة من النسيج الاجتماعي والمهني والثقافي الطرابلسي والشمالي عموما. حتى ان بعض المقاهي المجهزة بالانترنت، تحولت الى مقصد للشباب المتخرج والعامل اون لاين او الباحث عن عمل في الفضاء السبراني، مع تراجع وانهيار المؤسسات على الارض. علما ان مئات الدكاكين والمقاهي الصغيرة في كل الاحياء والشوارع الطرابلسية، بما فيها عزمي والمطران، ترمي كراسيها على الارصفة، ليحتلها الطرابلسيون القلقون من كل الاجيال، وخصوصا الشباب المتبطل والمحبط من الحاجة وانسداد الافق.
ومع ان المشهد الطرابلسي لم يغب عن معظم رويات جبور، الا انه افرد لطرابلس رواية خاصة، رصد فيها الواقع الاجتماعي والسياسي بتشعباته وتعقيداته وتحولاته، ثم اختار لها عنوان “حي الاميركان” الرمزي، وقد اقحمني في اختياره عبر اصطحابه بجولة طويلة في الاحياء التي شهدت عشرات الجولات والمواجهات الدموية، والتي ترافقت مع تحرك الفوالق السياسية في لبنان وسورية. فقد فرض حزب الله حكومة ممانعة بعد اسقاط الحريري بالثلث الدوحي المعطل، ومنع عودته بوهج القمصان السود. وحين تفتحت أزهار الربيع السوري، تحول داميا تحت وطأة القمع العاري، ودخول حزب الله طرفا الى جانب النطام الفئوي الذي رفع مرتزقته شعار “الأسد أو نحرق البلد”، وما تبع ذلك من نزوح ولجوء وتداعيات كارثية سال عنها الحبر الكثير.
لم تتمليش الفيحاء، والطائفة السنية عموما، رغم كل ما مر عليها من نزاعات واحداث وحروب واحتلالات. ومع انهيار مؤسسات الدولة، انشأ الطرابلسيون التجمع الوطني للعمل الاجتماعي من النقابات والجمعيات الشرعية المنتخبة. ولم يكن التجمع يشبه الادارات الذاتية التي أنشأتها الميليشيات في المناطق الأخرى. كما لم تخلق معاناة المدينة من ارهاب النظام السوري وحلفائه( تفجير المسجدين مثالا) شعورا اقلويا، رغم بعض ظواهر التطرف والتشدد الهامشية عموما، والمرعية في اكثر الاحيان.
ورغم مظاهر التدين التي طالت شرائح معينة ضمن الموجات التي عمت العالم العربي والاسلامي بعد التحولات الايرانية وتداعياتها، فقد بقيت المدينة المتوسطية على انفتاحها وطيبة اهلها، رغم انها اصبحت ملاذا للنازحين والقادمين من الارياف الشمالية والسورية، حتى ان بعض احيائها تريفت وتحولت مع انفجار الازمات والانهيارات الى ملاذ للبؤس والفقر والامراض الاجتماعية.
هذه المفارقات الطرابلسية تتحول لاشكاليات:
مجتمع مدني متنوع وحيوي، تظهر مؤشراته في تعدد وتنوع الحراكات الثقافية والنقابية والمدنية عموما. ومدينة تمتاز مع دائرتها الشمالية بمرافق وميزات اقتصادية استثنائية معروفة للقاصي والداني. ومع ذلك فالحاضرة الشمالية تعاني من هشاشة ومظلومية، وتبدو بلا سقف سياسي جامع، في بلد تحكمه أحزاب طائفية ممليشة ومافيوزية. وهو بلد مختل التوازن، ومحتل عمليا بواسطة فائض القوة الحزب اللاهية المرعية والموجهة ايرانيا.
شكل اتفاق الطائف والحريرية السياسية العابرة للمناطق بارقة امل في التنمية وفي تخفيف ثقل الالة السورية عن صدر المدينة المظلومة وعن البلد عموما. الا ان الامل تلاشى مع تحول هذا الثقل الى احتلال، فلا غرابة ان يكون لزلزال اغتيال الحريري الذي ضرب لبنان، ترددات طرابلسية قوية، ويتقدم الطرابلسيات والطرابلسيون الصفوف الامامية في انتفاضة الاستقلال الثاني.
ظهرت هذه الاشكالية ايضا في انتفاضة ١٧ تشرين التي الهبت المدينة وقواها المدنية والاهلية مجددا وحولتها الى نقطة جذب رئيسية للشباب المنتفض والمتدفق الى ساحة الانتفاضة وخيمها الحوارية من كل الشمال ومن مناطق لبنانية أخرى، مما أكسبها لقب عروس الثورة. الا ان الهشاشة السياسية و ضبابية والتباس شعار “كلن يعني كلن” واداء اجهزة السلطة وانكفاء المسؤولين الطرابلسيين، بعضهم خوفا، ومعظمهم عجزا وارتباكا، ادت لاختراقات وتعطيل المرافق والجامعات والمدارس وقطع الطرقات لدرجة عزل المدينة احيانا، وصولا للتخريب المباشر وحرق البنوك والبلدية ومحاولات حرق السرايا واثارة الفوضى، وهو ما لم يحصل عموما في المناطق المنتفضة الأخرى، ما عدا وسط بيروت الذي جرى تخريبه عمدا في معظم الأحيان وبنفس الاستهدافات.
نجح بعض ناشطي الانتفاضة المخضرمين، ومن اصحاب السوابق اليسارية، بانشاء لجنة مدنية تضم غرفة الصناعة والتجارة والزراعة ونقابات المهن الحرة وبلديات المدينة واخرين، لتشكل نوعا من الجسر المدني الذي يشبك مع المنتفضين لحمايتهم من الاعتقالات التعسفية واختراقات الاجهزة والممانعة، كما للتواصل والعمل مع كافة المكونات المدنية والبلدية والادارية، لامتصاص و لتخفيف ما امكن من الهشاشة السياسية، عبر طرح ومعالجة القضايا الاساسية التي تساعد المدينة والشمال عموما على الصمود بمواجهة الأخطار والازمات المتناسلة، مع وصول البلد الى حافة الانهيار السياسي والاقتصادي والنقدي والمالي والاجتماعي. ورغم ثبات التجربة وبدء الاعداد المثمر للملفات وانشاء خلايا الطوارئ والازمات، الا ان اشتداد الكورونا والاغلاق الطويل وتراجع حشود الانتفاضة على وقع بطش الثنائي المسلح وقمع الاجهزة الموالية، ادى الى توقف اللجنة عمليا.
لا يمكن الا ان نتبصر في متغيرات الواقع السياسي الذي نتج عن الانتخابات النيابية الاخيرة، خصوصا ان عزوف الحريري وتياره عن المشاركة ادى لتشتت التمثيل السني، وضعف المشاركة السنية عموما. علما اننا نوهنا سابقا بالايجابية النوعية في اختراق مجموعة تشرينية متنوعة وعابرة للمناطق والطوائف، وفي ازدياد الوزن السيادي الحزبي، الطائفي في الغالب، وفي ترسيخ المعارضة المستقلة، وفي ضمور التمثيل الممانع الغير شيعي، وفي تراجع التمثيل المسيحي الذمي، وخسارة الاكثرية الممانعة عموما.
ومع ذلك فقد حذرنا من ان يستطيع حزب الله النفاذ من الثغرات السياسية وتعاظم الاوهام والمصالح الحزبية والطائفية والشخصانية القاتلة، فضلا عن رمادية مواقف البعض من سلاح الحزب والموضوع السيادي عموما، لوقف مفاعيل هذه الايجابية بالطرق الدستورية ودون حاجة لقمصان ملونة.
وهذا للاسف ما نراه ينفلش امامنا تباعا ويوميا وبالألوان. فقد عجزت منوعات الكتل البرلمانية “المعارضة” عن تعيين والتقاط ومن ثم مواجهة الخطر السيادي الرئيسي، وعن سماع نبض الناس المقهورين في اللحظة السياسية والدستورية المناسبة. وهو ما تكرر في الاستحقاقات المتتابعة، وبات بؤشر الى اعطاب في الرؤيا وفي الممارسة.
وطرابلس كالعادة مرشحة لتدفع اثمانا اضافية، امام العجز عن وقف الانهيار ومعالجة تداعياته المرعبة، خصوصا ان معظم مرافقها الاساسية تئن تحت وطأة هذه التداعيات، رغم تبوء ابنها والمعاد تكليفه رئاسة الحكومة.
لن تعجز الفيحاء عن ابتداع حراكات ومبادرات من اجل الصمود ومواجهة أخطار المرحلة القادمة. اذ تتراكم الجهود في تكوين اللجنة السابقة، لمواجهة المتطلبات الحياتية اليومية من غذاء ودواء وكهرباء ومستشفيات ومدارس وجامعات وغيرها من المرافق البلدية والادارية والخدماتية اولا واساسا. كما للتصدي للقضايا والمرافق التنموية الاساسية المعروفة بمجموعة الميم في طرابلس والشمال. وسيعمل على تحفيز واستنهاض الناس الموجوعين وقوى المجتمع المدني لوضع جميع المسؤولين والنواب الجدد امام مسؤولياتهم المباشرة، فقارورة الطيب الطرابلسية ما زالت تفوح ولن تسمح بسيادة العفن.
talalkhawaja8@gmail.com
*طرابلس
تذكرنا بتاريخ طرابلس العظيم وتصور الواقع الأليم