متغيرات التأريخ عديدة، وكلها خاضعة للرأي، ومحاولات إرساء قواعد وأصول تجعل من التاريخ علماً محكماً، على ما شهده القرن التاسع عشر المتفائل في هذا الصدد، لم ترتقِ به إلى رتبة العلم الصرف، ولكنها أضفت عليه منهجيات تلطّف من احتمالات أن يقع الفعل التأريخي في فخ الأهواء، آفة الرأي.
ما كان سائداً، حتى القرن التاسع عشر، هو أن يعمد المؤرخ إلى جمع ما سبق أن كتبه أسلافه من المؤرخين، ليقارن بين أقوالهم، وينتخب منها المعقول وفق قناعاته والمقبول لديه وفق حاجاته، ويضيف ما استجد من أخبار عاينها أو سمع عنها. الحصيلة هي أن الرصيد التأريخي يمسي سلسلة من المعاينات، يعتمد كل مؤرخ فيها على ما سبق من معاينات أسلافه، مضيفاً إليها بعض الجديد، ومسقطاً منها، خشية الاستطالة المملة، بعض القديم. جلّ ما يبقى هو أخبار المرحلة التأسيسية، ثم أخبار من تداول السلطان وصولاً إلى زمن المؤرخ.
على أن هذا التسلسل يحافظ على ثرائه مع بقاء كتب التاريخ في المكتبات كما في تداول المؤرخين، وهو أمر راجح بالنسبة للمشهور منها والمتواتر، ولكن رجحانه أقل فيما يطال النواحي النائية والشعوب القليلة العدد، فأخبار هذه غالبا ما تضيع أو تتبدل بعد أجيال قليلة من تداول المؤرخين القلائل لها.
من الوسائل المنهجية العلمية التي أتاحها القرن التاسع عشر تحليل النصوص المتوفرة ومقارنتها بنسخها ولغتها لاستنطاق بعض ما أسقطه مَن تداولها، كما الاستعانة بالحفريات والنقوش والأنصاب، والأهم، من حيث وفرة المادة، العودة إلى الوثائق الأصلية، من سجلات المحاكم وغيرها من الدوائر الرسمية والدينية المعنية بالمحفوظات. القرن العشرين أضاف إلى هذه الأدوات التاريخية اللسانيات، والقرن الحالي بصدد إثرائها بما يَعِد بخروقات تأريخية فائقة، أي دراسة ما تفيده المورّثات النسلية عن أصول الأفراد والجماعات.
ثمة استعجال دائم لاعتناق هذه الأدوات عند أوائل ظهورها، إنما في العجلة الندامة، أو على الأقل الخيبة لمن يستفيق من نشوة الوهم. علم الحفريات قبل قرنين دفع الباحثين التاريخيين إلى تقصي سفينة نوح في روايات طوفانات ليتبين لاحقا ابتعادها عن النص الكتابي. وكذلك حال كل أداة. الشطح في موضوع المورّفات اليوم يدفع باتجاه التقوقع العرقي. الغوص بالأوهام تحت غشاء العلم ليس حكرا على مجتمع أو محيط، ولكن الغرب، إذ تنتشر فيه التوظيفات الواهمة لكافة هذه الأدوات، فإنه لاستعمالاتها الموزونة الحصة الكبرى فيه. ليس هذا هو حال المحيط العربي للأسف، حيث التاريخ برمّته وسيلة للانتصار للجماعة والطائفة والقومية والأمة، عبر المبالغات والانتصاريات اللفظية، وليس سبيلا لاستشفاف الماضي موضوعيا والاستفادة منه عمليا.
غيّب الموت الأسبوع الماضي المؤرخ والمفكر والمعلم عبد الرحيم أبو حسين، والذي أمضى في بيروت عقودا من العطاء، أنجز خلالها التأسيس العملي لمنهج في التأريخ قائم على القراءة المتأنية للمادة التوثيقية من أجل وضع القناعات المسبقة في ميزانها. عبد الرحيم أبو حسين شذّب المنهج، وطبقّه، وقدم نتائج بحثية وفكرية على أساسه، والأهم أنه ساهم في تشكيل الوعي التأريخي المنهجي لدى جيل واسع من الباحثين والمؤرخين، ليكونوا من بعده صدقة معنوية جارية، وأصحاب علم نافع يتواتر، وذرية فكرية صالحة تذكره بالخير.
“نسب” عبد الرحيم أبو حسين الفكري يعود إلى كمال صليبي، ربما أبرز المؤرخين اللبنانيين، وبالتأكيد أكثرهم جرأة على تحدي الموروث الراسخ. كمال صليبي كان قد أعاد النظر بالمسلّمات التي تناقلها مدوّنو التاريخ اللبناني في القرون القليلة الماضية، أي في المادة التي جرى على أساسها إرساء سردية تاريخية قائمة على التضاد بين لبنان وجواره، تعود بلبنان إلى زمن الإمارة المعنية ثم الإمارة الشهابية ومن بعدهما متصرفية جبل لبنان، أي “لبنان الصغير”، والذي أفضى إلى “دولة لبنان الكبير” بعد أن أضاف الانتداب بيروت و”الأقضية الأربعة” إلى الدولة العتيدة.
هي سردية مبنية على أساسين، أولهما أنه ثمة خصوصية لبنانية تميّزه عن محيطه، حيث أنه ملاذ الأقليات وملجأ الهاربين من سطوة الأكثرية، وثانيهما هو أن العامل في هذه الخصوصية هو الوجود المسيحي في لبنان. هذا ما يجري استخراجه من أسفار المؤرخين في القرون الماضية إيحاء وإيماء في معظم الأحيان، كما في مصنفات الصفدي والشهابي والدويهي، بل هذا ما يقرأ تصريحاً بنص بعضها، كما لدى ابن القلاعي.
وإذا كان من السهل تجاوز رواية ابن القلاعي والتي تزخر بالمغالطات التاريخية، فإن تلقي سائر القراءات عبر غربال القرنين الماضيين أضفى على مقولة لبنان الملجأ قدراً من الصدقية، في مواجهة قراءة قومية عربية للتاريخ، لا تفتقد بعض الصدقية بدورها، تريد من لبنان أن يكون جزءاً وحسب من بلاد الشام، فإن بدر منه تمايز، فلتطفّل الغرب المستعمِر. وقد اجتهد كمال صليبي، وآخرون إنما قلّة من مؤرخي لبنان في القرن العشرين، في تفكيك المقولتين بحثاً عن البينة والرأي والهوى في كل منهما، وصولاً إلى تبيان الطبيعة الاختزالية حيناً والتسطيحية أحياناً للصيغ الأكثر حدة منهما. على أن هذا الاجتهاد، طالما اقتصر على نصوص المؤرخين، هو بدوره رأي ينقض بما يخالفه من الآراء.
الحاجة في التأريخ، للبنان وما يتعداه من دول المنطقة ومجتمعاتها، هو إلى ما يتعدى الرأي والمعقولية، إلى ما هو قائم على المادة الوثائقية، ثم الحفريات واللسانيات وصولاً إلى المورّثات النسلية. المادة الوثائقية أولاً.
هو كمال صليبي الذي شجّع عبد الرحيم أبو حسين لاكتساب المؤهلات التي تمكنّه من استعمال أقوى الأدوات التاريخية، أي تمحيص المادة الوثائقية، ليصبح أبو حسين مرجعاً في الاستفادة من السجلات العثمانية باللغة التركية، وليستعين بها في مساهمته التأصيلية في تاريخ لبنان.
ثلاثة كتب تختصر مسار عبد الرحيم أبو حسين التأريخي (دون أن تحيط بهذا المسار بالكامل، بل السبيل الأنجع للاستفادة منها هو مراجعة الناتج المستفيض من مقالات عبد الرحيم أبو حسين المحكّمة والتي تقلّم أوجه متداخلة من التاريخ اللبناني العثماني). أولها دراسته عن الزعامات المحلية في بلاد الشام بين القرنين السادس عشر والسابع عشر (نشرها بالإنكليزية عام 1985)، ثم ترجمته للوثائق العثمانية المتعلقة بهذه الفترة (نشرها بالإنكليزية عام 2002 ثم بالعربية عام 2005 بعنوان “لبنان والإمارة الدرزية في العهد العثماني”)، وأخيرا تحليله لمفاد هذه الوثائق على السرديات اللبنانية، ابتدأ به عام 2009 بالإنكليزية ونشره عام 2019 بالعربية بعنوان “صناعة الأسطورة حكاية التمرد الطويل في جبل لبنان”.
“التمرّد الطويل” هو هنا اكتشاف بمعنى الكلمة حقّقه عبد الرحيم أبو حسين، إذ إزاء الروايات التأريخية التي صورت الأمارة المعنية على أنها إرهاص للبنان الكبير، وجعلت من الأمير فخر الدين الثاني المعني الأب المؤسّس للفكرة اللبنانية الحديثة، من جهة، وإزاء الروايات الرديفة التي تستفيض في تصوير البطش العثماني المجاني ومظلومية المعنيين الذين أوداهم الغدارون إلى الهلاك من جهة أخرى، فإن استنطاق عبد الرحيم أبو حسين للوثائق العثمانية يكشف عن فصول خطيرة من تاريخ لبنان سكت عنها المؤرخون القلائل الذين عاصروا الحدث وما تلاه، لأغراض أزمنتهم المتعاقبة، إرضاء للأمير، حذرا من السلطان، أو لتعزيز إمارة اليوم بذكرى معدلة لإمارة الأمس. هذه الفصول هي ما يصفه أبو حسين بـ “التمرّد الطويل” الذي قاده المقدمون الدروز على مدى قرابة القرنين، والذي شكّل خطرا متواصلاً للسيطرة العثمانية على بلاد الشام، ولاسيما في سعيهم إلى توظيف قوى خارجية (البندقية وتوسكانا والبابوية) في وجه الغلبة العثمانية المستجدة. ثمة خصوصية تاريخية لما هو اليوم لبنان، ولكنها لا تنسجم لا من حيث الطرف الفاعل ولا من حيث الوعي الجماعي، ولا من حيث النية والغرض، مع ما تفترض لها السرديات التالية.
عبد الرحيم أبو حسين يمنح الأساس التوثيقي للنقد الذي باشر به كمال صليبي في مواجهة مسعى تأصيل لبنان بالعهد المعني. ليس في الأمر “طعنا” بالسرديات المتنافسة، بل إدراج لسياقات تدفع إلى مراجعة المنطلقات التي قامت عليها.
في كامل مجهود عبد الرحيم أبو حسين التأريخي تكتسب كتابة التاريخ صفة الحوار الناقد مع مؤرخي الأمس، من موقع الندية، لا التبعية ولا الفوقية، بل الاحترام دون التسليم، ليغدو الفعل التأريخي اجتهاداً لا تقليداً، ولتتبين أوجه صياغة السرديات التي صاغتها الأهواء والظروف، كما هو حال السرديات البطولية في السياق اللبناني هنا.
عبد الرحيم أبو حسين بحثّ وكتب وعلّم وحقّق. وأظهر أن ثقة كمال صليبي به كانت في محلها. وبتطبيقه المنهجية النقدية على أساس الوثائق هو قد ساهم بفتح الباب لاستعمال كافة الأدوات الأخرى للكتابة التاريخية لسد الفجوات العديدة في تاريخ المنطقة ومجتمعاتها. والأهم بأن الرجل كان تجسيداً باسماً للإخلاص والمودة والعطاء والأخلاق. هكذا يكتب التاريخ، وهكذا يكون كاتبه. طابت ذكرى المعلم.
Ho