كان يوجد في شارعنا في “مصر القديمة” بالقاهرة رجل يبيع سندويتشات كبدة على عربة يدفعها بيديه، وكانت سندويتشات في غاية الطعامة، وكان يقدمها ساخنة جدا ويضيف اليها كمية هائلة من الفلفل والشطّة، وكنا نأكلها بسرعة (بل نظلتها في جوفنا في معظم الأحيان) لكي نتخلص من السخونة من ناحية ولسعة الشطّة الحارة من ناحية أخرى.
وكنا نطلق عليه ملك الكبدة، حتى صدّق انه ملك الكبدة فعلا، وكتب يافطة على عربة الكبدة تقول “المعلم صبحي ملك الكبدة”!
…
لاحظت في السنوات الأخيرة إعلانات كثيرة جدا على جدران الحوائط في مصر تعلن عن مدرسي الدروس الخصوصية بأنواعها. فهذا متخصص في اللغة العربية، وآخر يعلن عن انه أفضل مدرّس للغة الإنجليزية، وثالث يعلن عن عبقري الرياضيات! اما اعجب اعلان شاهدته فكان اعلان مدرس خصوصي يقول انه “ملك الكيمياء”، فتعجبت كثيرا ان كان هذا المدرس هو ملك الكيمياء. فأكيد ان علماء الكيمياء الكبار أمثال جابر بن حيان وأبو بكر الرازي وابن سينا ولافوازييه وماري كوري وميندلييف وفارادى سوف يتقلبون في قبورهم اذا علموا ان “ملك الكيمياء” هو الأستاذ عبدالسميع حنفي مدرس الكيمياء بمدرسة شبرا الثانوية!
والدروس الخصوصية في مصر ممنوعة قانونا، ولكنها أصبحت ظاهرة مرضية وأصبحت خطرا يهدد ليس فقط النظام التعليمي كله، بل وكيان الدولة المصرية ذاتها! تلك الدولة التي أُسست من اكثر من ٥٠٠٠ سنة على العلم والقوة والعمل والإيمان، وعندما خسرت كل او بعض هذه القيم تدهورت الدولة ومرت بأسوا فترات ضعفها.
والدروس الخصوصية ليست المشكلة في حد ذاتها ولكنها احد اخطر أعراض فشل نظام التعليم كله منذ اكثر من ٦٠ سنة، وربما قبل ٦٠ سنة، كما تقول الحكاية عن طه حسين عندما كان وزيرا للمعارف المصرية عام ١٩٥٠ في الوزارة الوفدية برئاسة مصطفى النحاس. ومن المعروف ان طه حسين كان ضريرا عندما كان طفلا في احدى قرى صعيد مصر، فعندما سالوا طه حسين: “متى يا دكتور طه سوف ينصلح حال التعليم في مصر”، كانت إجابته العبقرية: “والله لما نشوف”!
والدروس الخصوصية كانت قديما تعطى لقلة قليلة من الطلبة الذين كانوا يحتاجون عناية خاصة نظرا لظروفهم الصحية او العقلية. ومن الاسم درس “خصوصي” انه شيء خاص جدا وكان دائما عبارة عن مدرس واحد مع تلميذ واحد ومن هنا جاءت الخصوصية. وكانت أيامنا تهمة كبرى اذا انتشر الخبر بانك تأخذ درسا خصوصيا لان هذا كان يعني عدة أشياء كلها ليست في صالحك: اما انك غبي لا تفهم، او انك كسول او انك (بايظ ومش بتاع دراسة وعلم)!
اما اليوم فالدروس الخصوصية رغم انتشارها، الا انها لم تعد خصوصية أبدا بل أصبحت هي الأصل وليس “الخصوص”! فحسب ما أسمع من الناس في مصر يمكن أن ٩٠٪ من الطلبة في مصر يتعاطون الدروس الخصوصية! والدرس الخصوصي لم يعد خصوصيا مدرس واحد مع تلميذ واحد، بل قد يصل الامر الى مدرس واحد امام عشرات وأحيانا مئات التلاميذ! ومؤخراً، نشرت الصحف المصرية عن مدرسين خصوصيين يستأجرون صالات كبرى تستوعب قرابة الف طالب ويحصّلون من كل منهم مبالغ تتراوح بين مائة جنيه ومائتي جنيه لكل ساعة لكل طالب.
حتى أوائل الثانوية العامة في مصر اعترفوا انهم يأخذون دروسا خصوصية بتكلفة قد تصل الى خمسين الف جنيه سنويا! وبعضهم اعترفوا انهم لم يذهبوا للمدرسة كثيرا ولم ينتظموا في الدراسة ولكنهم اعتمدوا على الدروس الخصوصية. واقسم لي صديق انه انفق مائة الف جنيه للدروس الخصوصية على ابنه في العام الماضي حيث كان يأخذ دروسا في كل المواد لكي يجتاز اختبار الثانوية العامة. والأسوأ من هذا ان مرض الدروس الخصوصية أصاب مدارس اللغات بل والجامعات وحتى كليات الطب والهندسة! واعترفت لي طبيبة في عائلتنا انها لم تكن تحضر معظم المحاضرات في كلية الطب بجامعة القاهرة نظرا لازدحام المدرجات واعتمدت على الدروس الخصوصية!
وانا أؤيد تماما التعليم المجاني بشرطين: ان يكون تعليماً وان يكون مجانياً! الدولة المصرية عندما تبنت خطة التعليم المجاني في أوائل الخمسينيات من القرن الماضي، كانت بلا شك تتبنى هدفا نبيلا ويحقق ابسط حقوق الانسان في الحصول على التعليم. ولكنها فشلت في تدبير العدد الكافي من الفصول الدراسية، وفشلت في العناية بالمدرسين سواء من ناحية تدريبهم او حصولهم على مقابل مادي كافٍ لآداء اهم مهنة على الإطلاق. فبدون مدرس جيد لن نحصل على تعليم جيد، وبدون تعليم جيد لن نحصل على مجتمع متميز وتفشل الدولة وتصبح دولة متخلفة تمد يديها لصندوق النقد الدولي تارة وللأشقاء العرب في الخليج تارة أخرى لشراء القمح الذي كانت تصدره في أوائل القرن الماضي.
…
كيف يمكن ان نحشر ملايين الطلاب في فصول دراسية سعتها ٣٠ طالباً ونضع بها ٩٠ طالباً، لدرجة ان بعض المدارس طلبت من الطلاب الا يحضروا الى المدرسة لانه ليس لهم أماكن في الفصول الدراسية؟ وكيف نطلب من مدرس ان يؤدي وأجبه الوظيفي في فصل دراسي لا توجد به مقاعد كافية لكل الطلاب؟ وكيف نطلب منه ان يتوقف عن إعطاء الدروس الخصوصية وهو يرى زملاءه يحصلون على أضعاف راتبهم الشهري من درس خاص واحد.
…
ان الأسر المصرية تصرف جزءا كبيرا من دخلها الشهري على الدروس الخصوصية، وانا ليس عندي مانع من الدروس الخصوصية اذا كانت حقا تزيد الحصيلة العلمية لدى الطلاب. ولكن كل ما تفعله الدروس الخصوصية هو انها تعطي جرعة مركزة لتعليم الطلاب كيف يسجلون اعلى الدرجات في الامتحان. بعبارة أخرى، “ملك الكيمياء: يعلم الطلاب تكنيك تسجيل اعلى الدرجات في امتحان الكيمياء ولا يعلمهم الكيمياء باي حال من الأحوال، وبجرد خروجهم من الامتحان يكونون في وضع ملك الكبدة وليس ملك الكيمياء.
…
المشكلة ليست الدروس الخصوصية ولكنها مشكلة فشل النظام التعليمي من الأساس فشلا ذريعا. لذلك، فان الدروس الخصوصية هي بعض أعراض المرض وليست المرض في حد ذاته. ومن أعراض المرض أيضا ان هناك نسبة كبيرة من طلاب المدارس الحكومية في نهاية المرحلة الابتدائية يستطيعون كتابة أسمائهم بالعافية!
المشكلة كبيرة جدا، بل هي اخطر مشكلة تواجه أي مجتمع، وليست هناك حلول سحرية. وقبل البدء في التفكير في الحلول علينا ان نحدد بعض الأهداف:
أولا: الا يزيد عدد أي فصل دراسي عن ٣٠ طالباً، وهذا بالطبع يتطلب بناء ضعف او ضعفي عدد الفصول الدراسية الموجودة حاليا، واعتقد ان سعر دبابة أمريكية واحدة يستطيع بناء مدرسة!
ثانيا: تحسين أحوال المدرسين الاقتصادية لكي نجذب أفضل الكوادر الى تلك المهنة النبيلة.
ثالثا: تحديد النسل بطفلين لكل أسرة لمدة زمنية لا تتجاوز ٢٥ سنة حتى تستطيع خطط التنمية اللحاق بالزيادة السكانية.
رابعا: التوسع في التعليم الحرفي لكي يصبح ٧٠٪ من اجمالي التعليم. والتعليم الحرفي يحتاجه المجتمع اكثر من التعليم العام.
خامسا: مراجعة كل المناهج التعليمية القديمة والتي كانت تعتمد على الحفظ واستبدالها بمناهج تتفق من القرن الواحد والعشرين حيث تعتمد على التفكير والابتكار وكيفية استخدام ثورة المعلومات والمعرفة على الانترنت للحصول وابتكار معرفة جديدة.
لامانع للإبقاء على ملك الكبدة ولكننا بالطبع يجب ان نقضي على ملك الكيمياء بتحويله الى مدرس كيمياء.