كما كان متوقعا، فاز “بونغ بونغ ماركوس”، النجل البكر لديكتاتور الفلبين السابق “فرديناند ماركوس” في الانتخابات الرئاسية الفلبينية التي جرت مؤخرا، محققا فوزا ساحقا على أقرب منافسيه (نائبة الرئيس المنتهية ولايته “ليني روبريدو”) بحصوله على أكثر من 30 مليون صوتا، أي ضعف الأصوات التي نالتها الأخيرة.
حدث هذا على الرغم من أن ماركوس الإبن تجنب المقابلات الإعلامية ونادرا ما تحدث عن آرائه ومواقفه السياسية وكيفية قيادته للبلاد، باستثناء تركيزه على إعادة الوحدة للبلاد. وهذا يدعونا لطرح سؤال “لماذا اختاره الفلبينيون لقيادتهم؟” وهم يعلمون أنه إبن الديكتاتور الذي حكمهم 20 عاما (من 1965 ــ 1986)، منها 14 عاما بالأحكام العرفية بدعم أمريكي، وشهدوا في عهده أكثر صور الانتهاكات والسجن والتعذيب والقتل خارج منظومة القانون والفساد والنهب قتامة. هل نسوا ثورة الجيش والشعب والكنيسة عام 1986 التي نجحت في إسقاط والده وطرده من البلاد ليعيش ويموت منفيا في هاواي؟ وهل ضعفت ذاكرتهم إلى حد نسيانهم فساد والدته إيميلدا التي حملت معها مليارات الدولارات من المجوهرات وسبائك الذهب والتحف إلى المنفى قبل عودتها منه بعد عامين من وفاة زوجها، علما بأنها مفرج عنها حاليا بكفالة إلى حين النظر في استئناف تقدمت به لإلغاء حكم صدر عام 2018 بسجنها 11 عاما لإخفائها أصولها؟ بل كيف تغاضوا عن حقيقة أن بونغ بونغ نفسه أدين عام 1997 بالتهرب الضريبي، ناهيك عن أنه يواجه قضايا ضريبية جديدة بملايين الدولارات في الفلبين والولايات المتحدة بسبب أملاك والده الضخمة؟
لا يمكن تبسيط الإجابة بالقول أن ذاكرة الشعوب قصيرة أو أن المقترعين صوتوا لبونغ بونغ لأنهم سئموا من الساسة التقليديين الذين فشلوا حتى في توفير أجواء الأمان التي سادت زمن ماركوس الأب.
ذلك أن فوز الرجل فوزا كاسحا تقف وراءه عوامل كثيرة أخرى منها أولا وقوف الرئيس المنتهية ولايته “رودريغو ديتيرتي”، بكل ماله من ثقل وشعبية في الأقاليم الجنوبية، خلفه، ما جعل المعجبين والموالين للأخير، يمنحونه أصواتهم، خصوصا وأن دوتيرتي عقد تحالفا استراتيجيا مع ماركوس الإبن بحيث تترشح إبنته المحامية والعمدة السابقة لمدينة دافاو “سارة دوتيرتي ــ كاربيو” على بطاقته الانتخابية كنائبة للرئيس، فكان أن حصدت “بطاقة ماركوس ــ دوتيرتي” أصوات أنصار آل ماركوس في الشمال وأصوات عشيرة دوتيرتي في الجنوب. هذا علما بأن دوتيرتي سعى في وقت من الأوقات إلى ترشيح ابنته للرئاسة خلفا له، وحينما تفاجأ بنزول بونغ بونغ إلى حلبة السباق، شنّ على الأخير حملة شعواء وصفه فيها بالزعيم الضعيف والشقي المدلل، بل حذر الجماهير من “عودة السلالة الماركوسية الفاسدة” إلى قصر مالاكانيان الرئاسي. وفي هذا السياق لا بد من التذكير أن دوتيرتي وصل إلى الحكم عام 2016 بدعم قوي من آل ماركوس، فرد لهم الجميل من خلال الموافقة على إعادة دفن ماركوس الأب في مقبرة الأبطال بمانيلا، من بعد 20 سنة كانت فيها الجثة معروضة داخل صندوق زجاجي في مقابر العائلة.
من العوامل الأخرى التي ساهمت في فوز بونغ بونغ ــ كما تردد ــ ثراء أسرته الذي ساعده في الانفاق ببذخ على حملته الانتخابية وشراء الذمم واستخدام منصات التواصل الاجتماعي بصورة مكثفة لإقناع الناخبين بأفضليته على منافسته الرئيسية “ليني روبريدو”. ويمكن أيضا إضافة عاملين مهمين آخرين: أولهما هو اختلاف نوعية المشاركين في هذه الانتخابات عن الانتخابات السابقة، بمعنى أن نسبة كبيرة منهم كانت من فئات الشباب التي لم تعش زمن ديكتاتورية ماركوس الأب وأهوالها ولم تتجرع مرارتها، فكان من السهل اقناعها بأن عهد الأخير كان عصرا ذهبيا عم فيه السلام والإزدهار الاقتصادي. وثانيهما هو اصطفاف العديد من العائلات الفلبينية الثرية خلف بونغ بونغ بغية تفويزه على أمل استعادتها للنفوذ الاقتصادي الذي كانت تتمتع به زمن والده.
هل يا ترى سيقوم ماركوس الإبن، الشبيه بماركوس الأب في سلوكياته وصوته ومشيته وحركة يده، بحكم الفلبين على طريقة والده؟ أم على طريقة سلفه دوتيرتي؟
المتوقع، طالما أنه مدين لدوتيرتي بالفوز، أن يسعى الرئيس الجديد داخليا إلى مواصلة سياسات سلفه لجهة مواصلة الحرب على المخدرات، والاستمرار في برنامج تطوير البنية التحتية والصحية، وتعزيز سياسات المحسوبية، مع تجميد مكافحة الفساد وتحقيقات حقوق الإنسان كحماية لنفسه وعائلته من المساءلة في قضايا قديمة، وأيضا كحماية لسلفه المتهم بالقتل خارج إطار القانون في الحرب على المخدرات. أما خارجيا فيتوقع منه تعزيز علاقات التعاون والشراكة الدفاعية مع واشنطن، رغم استيائه من القضايا المرفوعة ضده في الولايات المتحدة، وذلك إرضاء لجنرالات جيشه ولقسم كبير من الفلبينيين المعجبين بالحضارة الأمريكية. لكن المتوقع أيضا بالتزامن أن يواصل سياسات سلفه في مغازلة بكين من منطلق أنه لا يمكن لإقتصاد الفلبين أن يعمل دون الاستثمارات الصينية والتجارة مع الصين. وبطبيعة الحال فإن الصينيين مستعدون لتقديم الحوافز والمساعدات للرئيس الجديد لتحريره من اي ضغوط أمريكية أو غربية.
والحقيقة أننا لا نبالغ لو قلنا أن بونغ بونغ سيكون واقعا في سياساته الخارجية أمام مأزق! فاعتماده على بكين اقتصاديا يعني عجزه عن تأكيد حقوق الفلبين السيادية في بحر الصين الجنوبي، واعتماده عسكريا ودبلوماسيا على واشنطن يعنى عدم قدرته على تجاوز مسائل الحكم الرشيد ومكافحة الفساد وحقوق الانسان ذات الأهمية لدى الأمريكان.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي