بعد عودة الرئيس الشهيد رفيق الحريري من لقائه الشهير مع رئيس النظام السوري بشار الأسد، كشف أن الأخير وجه اليه تهديداً مباشراً بضرورة التمديد لرئيس الجمهورية اميل لحود، وأوصل رسالة من خلاله إلى رئيس الحزب “التقدمي الاشتراكي” وليد جنبلاط تحمل تهديداً واضحاً “أكسر الجبل على رأسه، وإذا كان لديه دروزه فأنا لي دروزي” في محاولة لدفعه إلى التمديد لرجل دمشق في قصر بعبدا.
غير أن جنبلاط الذي استوعب رسالة التهديد السورية نصح الشهيد الحريري بالسير في التمديد للحود على اعتبار أنه غير قادر على مواجهته، في حين أنه اتخذ موقفه الشهير المعارض للتمديد إلى جانب نواب كتلته وعدد من النواب الآخرين الذين أطلق عليهم اسم “نواب لائحة الشرف” وعارضوا التمديد.
كان الهدف من فرض سوريا انتخاب لحود ومن ثم التمديد له، كسر نفوذ الحريري وجنبلاط اللذين كانا يتمتعان به في عهد الرئيس الراحل الياس الهراوي، على اعتبار أنهما يشكلان الحاجز الصلب في مواجهة التدخلات السافرة لنظام دمشق في الحياة السياسية اللبنانية، واستغلال موارد البلد الاقتصادية لتعزيز وضعية النظام. ولما لم يكن بالإمكان فرض ذلك “سياسياً”، كرّت سبحة الاغتيالات التي بدأت مع الشهيد الحي الوزير والنائب مروان حمادة، مروراً باغتيال الحريري وكوكبة شهداء الرابع عشر من آذار.
وإذا كان صدور القرار الأممي رقم 1559 الذي أخرج الجيش السوري من لبنان لم ينجح في كبح سياسة الترهيب التي مارستها سوريا وأزلامها في لبنان، فمع الانتخابات النيابية التي جرت في العام 2005 ومن ثم في العام 2009، حقق الفريق المناهض لنظام الوصاية السوري أكثرية برلمانية على مرتين، غير أن سطوة سلاح “حزب الله” على المشهد الداخلي في لبنان لم تسمح لهذا الفريق بممارسة دوره المنشود في تحقيق السيادة والاستقلال، ودفعه إلى ارتكاب “أخطاء” ساهمت في تعزيز دور الحزب وهيمنته على القرار السياسي في البلد.
ومن بين هذه الأخطاء المشهودة، تمرير القانون الانتخابي المسخ رقم 44/2017 الذي سمح لـ “حزب الله” بالفوز بأكثرية برلمانية في انتخابات العام 2018، وتعزيز نفوذ أزلام سوريا بشكل تصاعدي وصولاً إلى إيصال ميشال عون إلى الرئاسة وبالتالي العودة إلى منهجية تقليص دور الحريري وجنبلاط ومحاولة مد اليد الى الساحة التي يمثلان انتخابياً الغالبية العظمى فيها.
ومع قرار الرئيس سعد الحريري الاعتكاف عن العمل السياسي مؤقتاً، اعتقد “حزب الله” وأزلام النظام السوري أن الفرصة أصبحت سانحة أمامهم لكي يحققوا ما عجزوا عنه منذ اغتيال الرئيس الشهيد، فكان قرار المواجهة المباشرة لقضم بضعة مقاعد سنية نتيجة التشتت الذي شعر به الناخبون السنة، ومحاولة تقليص حجم تمثيل جنبلاط الدرزي من خلال دعم المرشحين المناوئين له في عاليه – الشوف والبقاع الغربي – راشيا وبيروت الثانية تحديداً، بحيث كان الفهم السائد أن جنبلاط يعتمد في هذه الدوائر على الصوت السني الذي يرفد مرشحيه بنسبة كبيرة من الأصوات وبالتالي تأمين مقاعده النيابية.
لكن رياح النظام السوري و”حزب الله” لم تجر كما توقعت سفنهما، فخسرا مرتين، الأولى أنهما لم ينجحا في تأمين فوز عدد من النواب السنة الذين يدورون في فلكهما، كما لم ينجحا في تقليص حجم كتلة جنبلاط أو لجم نفوذه الدرزي، لا بل أكثر من ذلك، فإنهما لم ينجحا حتى في الحفاظ على المقعد الذي كان يحتفظ به أحد أزلام النظام أو تحقيق خرق جديد لأحد أزلامه الآخرين.
وأول الخاسرين الدروز النائب طلال أرسلان الذي كان، وبناء على رغبة سورية دائمة وبموافقة جنبلاطية، يشغل مقعداً عن دائرة عاليه كان يتركه جنبلاط فارغاً لكي لا يتهم بالأحادية ولتجنب وقوع شرخ في البيت الدرزي الداخل.، وعلى الرغم من أنه فعل ذلك مجدداً في الانتخابات الأخيرة، إلا أن فورة ما يسمى بالمجتمع المدني والخطأ التاريخي الذي ارتكبه أرسلان في قرنايل عندما أعلن أن “حزب الله” هو حامي الجبل، أتياه بالجواب من خلال فوز مرشح قوى التغيير مارك ضو على حسابه.
والخاسر الثاني كان بوق النظام السوري الوزير السابق وئام وهاب، الذي جنّد له “حزب الله” مقدراته المالية والبشرية لمساعدته على الإطاحة بمقعد مروان حمادة وتشكيل حالة “تسللية” إلى مجلس النواب، إلا أن أبناء الجبل الأوفياء لجنبلاط والذين يحفظون لحمادة وقوفه إلى جانب زعيم المختارة منعوه من تحقيق ذلك.
وكذلك الحال في البقاع الغربي الذي على الرغم من التدخلات السورية المخابراتية الفاضحة واندفاع سفير النظام في لبنان علي عبد الكريم علي والتهويل على أبناء المنطقة لاسقاط النائب وائل أبو فاعور، فإن الأخير حقق الفوز وأثبت هوية المنطقة المؤيدة لجنبلاط وعمقها العروبي.
الانتخابات أصبحت وراء اللبنانيين والنتائج التي أقصت كل التابعين لسوريا وأفرزت وجوهاً سيادية جديدة، ليست المحطة الأخيرة التي يجب التوقف عندها، بل على الكتلة النيابية الجديدة المناهضة لـ “حزب الله” وسياسته، وبالتأكيد المعارضة بقوة للنفوذ السوري، أن تعمل على الاتحاد من أجل وضع خطة نهوض اقتصادي ومالي واجتماعي تسمح بالخروج من جهنم التي أوصلنا إليها العهد القوي لميشال عون مدعوماً بشكل فاضح ومباشر من “حزب الله” ومن خلفه سوريا واستعادة السيادة التي من دونها لن يكون هناك إصلاح.