لأول مرة، تشارك مجموعة من جميع أنحاء العالم العربي – بما في ذلك مواطنون من دول لم توقع اتفاقيات سلام أو تطبيع مع إسرائيل مثل المملكة العربية السعودية وسوريا – في 28 أبريل في المسيرة الدولية للعيش the International March of the Living من معسكر الاعتقال في أوشفيتز إلى معسكر الإبادة في بيركيناو في بولندا لإحياء ذكرى ضحايا الهولوكوست. وقد تم تنسيق الوفود المشاركة في هذا الحدث من قبل منظمة “شراكة”، وهي منظمة شعبية من قادة إسرائيليين وخليجيين شباب تم تشكيلها في أعقاب الاتفاقيات الإبراهيمية وأيضاً من قبل منظمات أخرى.
يقول أميت درعي، الشريك المؤسس والرئيس التنفيذي لمنظمة “شراكة”: “إنه إنجاز تاريخي جلب هذه المجموعة الشجاعة من المؤثرين من جميع أنحاء الشرق الأوسط للتعرف على تاريخ الهولوكوست ومشاهدته لنشر الوعي في بلدانهم ومجتمعاتهم. فمن خلال مثل هذه المشاركات يمكننا حقًا أن نبني سلاماً دافئاً وتفاهماً.” وأضاف درعي إن فكرة مشاركة الوفود العربية في مسيرة الحياة، التي تقام سنوياً في يوم هاشوا الإسرائيلي أو يوم ذكرى المحرقة والأبطال، جاءت بعد الاتفاقيات الإبراهيمية وبدأت برحلة الشباب العربي المؤثر إلى إسرائيل في ديسمبر 2020.
إنه لمن المفارقة، حتى وقت قريب جداً قبل الاتفاقيات الإبراهيمية، كان الحديث عن الهولوكوست من المحرمات عملياً في العالم العربي، حيث لا يزال إنكار المحرقة أمراً شائعاً ودائما ما يتم إدانة تنظيم الزيارات التي تخص هذا الشأن. إن الخطر الحقيقي ليس فقط في إنكار الهولوكوست بل والأسوأ بكثير هو تحريف حقيقة الأحداث من قبل أولئك الذين يعارضون السلام والاستقرار. فدافعهم الرئيسي في ذلك هو إدامة الكراهية والعداء لتظل النزاعات وأسباب وجودها خالدة ومستمرة. ففي الواقع، أن الخلاف في المنطقة هو بين محورين: محور المقاومة ومحور الاعتدال.
محور المقاومة هو المحور الأيديولوجي ومحور اللادولة الذي يمثله النظام الإيراني وأعوانه من الدول العربية والجماعات والميليشيات المتطرفة مثل حماس وحزب الله والإخوان المسلمين. هذا المحور دائما ضد أي حل ويحرص على تأجيج المنطقة بالكراهية والتضليل. من ناحية أخرى، فإن محور الاعتدال هو المحور السياسي البراغماتي أي المؤيد للدولة ويمثله على وجه الخصوص الإمارات والبحرين والسعودية ومصر والمغرب والأردن. هذا المحور هو عكس محور الممانعة تماما فهو يحاول دائما إيجاد حلول للنزاعات، وبالتالي فلا عجب أن معظم دول محور الاعتدال موقعة على اتفاقيات السلام.
وفي هذا السياق، ذكر عبد العزيز الخميس، صحفي سعودي معروف وأحد المشاركين في الوفد إلى بولندا: “يجب أن نتحد لحماية أجيالنا من الكراهية وإظهار حقيقة المحرقة من خلال النظام التعليمي وإبرازها في وسائل الإعلام العربية ثم استنكر لماذا هناك خجل من إبراز الهولوكوست في مناهجنا التعليمية وفي إعلامنا العربي؟ لسوء الحظ، يأتي هذا لخدمة المنظمات الإسلامية المتطرفة مثل الإخوان المسلمين وغيرهم ممن ينكرون ذلك.”sh
كما يتفق الدكتور نير بومز، زميل باحث في مركز موشيه ديان في جامعة تل أبيب، مع عبد العزيز الخميس ويوضح أن “منطقتنا شهدت الكثير من الكراهية وتم قتل الأرواح ولا يزالون يتعرضون لها بسهولة. الأمر متروك لنا لتقديم بعض التفاهم والتسامح كبديل. هذه الرسالة هي درسنا من مسيرة الأحياء. إنه أهم إرث يمكن أن نحمله من هنا”. وأضاف دان فيفرمان، مدير الشؤون الدولية في منظمة “شراكة”: “لفترة طويلة جداً بسبب الصراع، أنكر العالم العربي الهولوكوست، مدعيا أنها مؤامرة يستخدمها اليهود لتبرير الأمور ذات الصلة بإسرائيل. يهدف هذا الوفد حقاً إلى تثقيف العالم العربي والإسلامي حول الهولوكوست”.
ومن خلال هذه الواقعية السياسية وقطع الشك باليقين، نجد أنه لا شيء يثير حنق الجماعات المتطرفة أو محور المقاومة أكثر من مواجهتها بالواقع. هذا هو السبب في أنهم ضد التطبيع وضد العلاقات بين الشعوب، لكي تكون شعوبهم دائماً تحت الوهم ولا يعرف الواقع إلا من خلال زاوية نظرتهم الخاصة. وهنا ذكرت روان عثمان، سورية نشأت في لبنان وتعيش الآن في ألمانيا، أنها كانت خائفة عندما رأت في البداية يهوداً متدينين في حي ستراسبورغ الذي تعيش فيه. هذا ليس لأنها كانت تعتقد أن اليهود أعداء، بل لأن القوانين الصارمة المناهضة للتطبيع التي تربت عليها في سوريا ولبنان والتي تمنع أي اتصال بالإسرائيليين أو اليهود عموماً كانت مازالت عالقة في ذهنها.
أما محمد الدجاني، أستاذ فلسطيني في جامعة القدس، ذكر أن تجربته مختلفة عن البقية لأنه في وسط الصراع وحياته معرضة للخطر بسبب مواقفه. فلم يكن من السهل عليه أن يأتي إلى هذا الوفد وكان الجميع ضده بسبب الخوف على أمنه الشخصي وأمن عائلته المسؤول عنهم. ففي الماضي، قام متطرفون بإحراق سيارته بسبب مواقفه المؤيدة للسلام، أما في المستقبل ممكن أن يضر ذلك بعائلته أيضاً.
وقد وضح الدجاني أن الوضع في السلطة الفلسطينية سيء، لأن الكتب المدرسية لا تتضمن أي ذكر للهولوكوست، وغالباً ما تستخدم الكلمة في الشبكات الاجتماعية في سياق الإنكار أو الأخبار المزيفة. وقد التحق الدجاني بفتح (السلطة الفلسطينية) لتحرير فلسطين، لكن هذه التجربة جعلته يرى بعض المواقف الإنسانية من الجانب الآخر عندما كان الأطباء اليهود والجنود بإعطاء الرعاية الطبية لوالديه لإنقاذ حياتهم. وفي مارس 2014، اصطحب الأستاذ الدجاني مجموعة من 27 طالباً إلى محتشد أوشفيتز، ولدى عودتهم، اتهم الإعلام والنشطاء الفلسطينيون الدجاني بـ “المتعاون” أو “العميل” للسلطات الإسرائيلية مما أثر على وظيفته في الجامعة.
لكن يبدو أن الوضع قد تغير في السنوات الأخيرة، لا سيما بعد توقيع اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية لأنها جعلت صوت مناصري محور الاعتدال أعلى بكثير وأكثر شجاعة. فلم يستطع أنصار محور المقاومة أن يحرجوا مناصري محور الاعتدال كما في السابق باتهامهم بالخيانة لأنهم ببساطة لم يفعلوا شيئاً للفلسطينيين أو للقضية الفلسطينية طيلة العقود الماضية، فقد كانوا يستخدمونها فقط من أجل غايتهم السياسية. ونتيجة لذلك، يحاول محور الاعتدال ودول الاتفاقيات الإبراهيمية تعزيز العلاقات بين الشعوب وتكثيف المعرفة التاريخية والثقافية بين الشعوب. فمنذ عام مضى، تم افتتاح معرض تذكاري دائم للهولوكوست، وهو الأول من نوعه في العالم العربي، في متحف مفترق طرق الحضارات في دبي، والذي يضم شهادات ناجين، وصورا ومحتويات من ذلك الوقت.
وهذا العام، يترأس أحمد عبيد المنصوري، المؤسس الإماراتي للمعرض والمتحف، الوفد التاريخي من الإمارات العربية المتحدة إلى بولندا إلى جانب إيتان نيشلوس، السفير المعين حديثًا لمسيرة العيش في دول الخليج. ومن هذا المنطلق، مثلت مثل هذه الوفود علامة على تغيير الحل السياسي المحتمل للصراع الدائم في الشرق الأوسط من خلال إبقائه بعيداً عن تلاعب الراديكاليين. كما تم الاحتفال باليوم الدولي لإحياء ذكرى الهولوكوست هذا العام في العديد من المدن في جميع أنحاء العالم العربي من المنامة إلى أبو ظبي إلى الرباط. شاركت السفارة الأمريكية في القاهرة في رعاية أول ذكرى رسمية للمحرقة في المدينة. وفي عام 2020، قاد محمد العيسى، الأمين العام لرابطة العالم الإسلامي، وفداً إلى محتشد أوشفيتز مؤلفاً من زعماء دينيين مسلمين رددوا عبارة “لن تتكرر أبدًا” وأدى صلاة من أجل الضحايا الستة ملايين يهودي.
لقد علمنا التاريخ أنه لا يمكن بناء السلام ما دام التطرف والإرهاب الأيديولوجي موجودان، ولا يمكن أن تكون هناك دولة فلسطينية مستقلة إذا نشأت أجيال على العنف والكراهية في غياب العقل والمنطق. وإذا كان السلام بين الإسرائيليين والفلسطينيين مجمداً ولم يتم التوصل إلى حل لأكثر من سبعة عقود، فقد حان الوقت لمحاولة تحقيق السلام باستخدام نموذج وخطاب مختلفين، وبهذا النهج المختلف قد يكون من الممكن تحقيق الهدف المطلوب. فمن خلال نموذج الاتفاقيات الإبراهيمية الجديد، الذي يختلف عن النماذج السابقة كونه يشمل الشعوب، سيكون هناك تواصلاً أفضل وفرصة أكبر للتفاهم المتبادل بعيداً عن تضليل المعلومات. لذلك، تم تنظيم هذه الوفود إلى بولندا لحضور مسيرة العيش في أوتشفيتز ورؤية واقع ضحايا الهولوكوست بأنفسهم.
كل كلمة اؤلؤة
تحياتي الخالصة للكاتبة ولكل المشاركين في الوفد.