بُعيد غزو أوكرانيا اتجهت الأنظار إلى الأقطار الآسيوية لمراقبة ردود أفعالها والإطلاع على مواقفها من الحدث الأكثر سخونة في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية.
صحيح أن هذه الدول بعيدة جغرافيا عن مسارح القتال، وصحيح أنها لا تملك الكثير من النفوذ والتأثير لإنهاء الأزمة الأوكرانية غير إطلاق دعوات السلام والحوار، لكن الاهتمام بمواقفها نابع من حقيقة أنها أكثر الأمم قلقا من تكريس سابقة الإعتداء والتدخل والغزو المسلح كوسيلة لحل الخلافات، خصوصا وأن لبعضها نزاعات تاريخية مع الصين.
لا حاجة للقول أن بكين تقف في صف موسكو، نكاية بواشنطن ورغبة في أن تسرع الأزمة عملية الانتقال إلى نظام عالمي جديد، بالرغم من امتناعها عن التصويت في مجلس الأمن على قرار يدين روسيا بدلا من الإنضمام إلى موسكو في نقض القرار.
أما الهند التي ترتبط بروسيا بعلاقات استراتيجية قديمة متجددة، وترتبط أيضا بعلاقات متينة مع الولايات المتحدة منذ انتهاء الحرب الباردة وتخليها عن الرداء الاشتراكي، فقد اشتدت عليها الضغوط من موسكو وكييف وواشنطن في اتصالات هاتفية برئيس حكومتها ناريندرا مودي قبيل جلسة مجلس الأمن كي تتخذ موقفا لصالح هذا ضد ذاك، لكنها لم تجد وسيلة أفضل للخروج من مأزق الإختيار الصعب ما بين دولتين لها فيهما مصالح كثيرة، سوى التشبه بالصين والامتناع عن التصويت. وبعد أن أفاقت على حقيقة أن الأزمة تسببت في ارتفاع أسعار النفط، وبالتالي فإن اقتصادها معرض لخسائر فادحة واستقرارها المالي أمام تحد كبير على غرار ما حدث لها زمن حرب الخليج الثانية، أقدمت على إطلاق دعوات لتهدئة الأوضاع وحل الخلافات بين موسكو وكييف بالحوار ووقف التصعيد العسكري وما شابه.
في طوكيو وسيئول، كان الأمر مختلفا. فالدولتان الحليفتان لواشنطن والقلقتان من احتمالات تعرضهما لحدث مشابه، لم يكن لهما خيار سوى الإصطفاف خلف الولايات المتحدة، لاسيما بعد اطلاق تهديدات باستخدام القوة النووية التي تثير ذكريات مرة لدى اليابانيين وتثير الرعب لدى الكوريين الجنوبيين المجاورين لترسانة بيونغيانغ النووية.
دعونا نستطلع الآن مواقف « دول رابطة آسيان » الجنوب شرق آسيوية التي فشلت في تبني رؤية جماعية موحدة، بل فشلت أيضا في إصدار بيانات قوية واضحة، على الرغم من أن دستور الرابطة يحرم الغزو ويعتبر عدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أمرًا مقدسًا. غير أن القلق كان كامنا في مواقف دولها، بسبب احتمالات أن تستفيد الصين من التركيز العالمي على أوكرانيا في تشتيت الانتباه والقيام بتصعيد في بحر الصين الجنوبي حيث تقع الجزر المتنازع عليها بين الصين وخمس من أعضاء الرابطة. هذا ناهيك عن قلقها على مصالحها الخاصة المتفاوتة مع أطراف النزاع. صحيح أنه لا موسكو ولا كييف من كبار المستثمرين في دول « آسيان »، لكن روسيا هي المورد الرئيسي لأسلحتها، حيث تجاوزت مبيعاتها من المعدات الدفاعية 10.7 مليار دولار أمريكي لدول المنطقة ما بين عامي 2019 و2000، أي أكثر من مشترياتها من الولايات المتحدة. كما وأن روسيا هي تاسع أكبر شريك تجاري خارجي لرابطة « آسيان » (في عام 2019 وحده بلغت قيمة تجارة روسيا مع دول الرابطة مجتمعة نحو 18.2 مليار دولار).
أكثر المواقف صراحة ووضوحا كان موقف سنغافورة، أصغر الأعضاء وأكثرها ثراء، والتي أصدرت وزارة خارجيتها بيانا قالت فيه: “لا لأي غزو غير مبرر لدولة ذات سيادة تحت أي ذريعة، ونعم لإحترام سيادة واستقلال ووحدة أراضي أوكرانيا“، بل أردفت ذلك بفرض عقوبات اقتصادية ومالية وتجارية على موسكو. أما أكبر الدول الأعضاء وهي إندونيسيا فقالت أن جاكرتا تشعر بالقلق إزاء تصعيد النزاع في أوكرانيا، وتدعو إلى المفاوضات والدبلوماسية والحل السلمي للنزاع بأقصى سرعة. ثم صدر موقف أندونيسي أوضح في تغريدة لرئيسها جوكو ويدودو لم يشر فيها إلى روسيا وأوكرانيا، لكنه قال أن الحرب تجلب البؤس للبشرية وتعرض العالم كله للخطر، ولها آثار بعيدة المدى على الأسواق المالية وأسواق الطاقة وتسبب اضطرابات في التجارة وسلاسل التوريد التي تؤخر عملية التعافي الاقتصادي بعد جائحة كورونا.
تميز موقف فيتنام بغموض وحذر شديد يشبه الحذر الهندي ولذات الأسباب. فهانوي هي اقرب شريك دفاعي لموسكو وأكبر مشتر للمعدات العسكرية الروسية في جنوب شرق آسيا، ويرتبط شعبها بعلاقات مع الشعب الأوكراني منذ زمن الاتحاد السوفيتي (هناك أكثر من 1400 طالب فيتنامي وحوالي 10000 فيتنامي يعيشون ويعملون في أوكرانيا). وفي الوقت نفسه تربطها علاقات متنامية مع عدوتها الأمريكية السابقة، وتتطلع إلى تطوير روابطها مع دول الغرب عموما من أجل نموها الاقتصادي، وأيضا من أجل مصالحها الأمنية ضد الصين. لذا لم يكن غريبا أن تنأى بنفسها عن اتخاذ موقف واضح وتكتفي بدعوة الأطراف المعنية إلى ممارسة ضبط النفس، وتكثيف جهود الحوار وتعزيز الدبلوماسية لإنهاء الصراع.
أما حكومة ميانمار العسكرية القمعية فاصطفت علنا مع روسيا معلنة بوضوح أن موسكو فعلت الشيء الصحيح والواجب لتعزيز سيادتها وأمنها القومي، وأن روسيا “أظهرت للعالم أنها دولة قوية في التوازن العالمي من أجل السلام“. ومن المعروف أن روسيا لم تصدر اي إدانة بحق جنرالات ميانمار لإطاحتهم بالحكومة الديمقراطية المنتخبة أو لقيامهم بالقمع الوحشي ضد شعوبهم، بل دعت زعيم انقلاب فبراير 2021 المنبوذ دوليا الجنرال مين أونغ هلاينغ إلى موسكو للمشاركة في مؤتمر موسكو التاسع حول الأمن الدولي في 23 يونيو من العام الماضي.
بقية أعضاء آسيان مثل ماليزيا والفلبين وتايلاند انصب اهتمامها وتركيزها على سلامة مواطنيها المتواجدين في روسيا وأوكرانيا مع إطلاق بيانات إنشائية تعبر عن متابعتها للأوضاع في أوكرانيا بقلق بالغ، وتدعو إلى ضبط النفس.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي