تأسّس الحزب الجمهوري عام 1854 كحزب معارض للرق في اميركا، وكان ابراهام لينكون 1861-1865 أول رئيس جمهوري أُلغِيَت العبودية تحت قيادته.
لكن الحزب شهد منذ اوائل القرن العشرين تحولًا نحو اليمين، تعزز اكثر بعد سن « قانون الحقوق المدنية” لعام 1964 و« قانون حقوق التصويت » لعام 1965 في عهد الرئيس الديمقراطي ليندون جونسون.
تغير الجوهر الأساسي للحزب الجمهوري ليصبح الاكثر تمثيلا للقطاعات المحافظة في اميركا وخاصة مؤيدي تفوق الجنس الابيض، والمسيحيين الانجيليين المعارضين لحق الاجهاض. الحزب بعد تحوله لليمين يدعم تخفيض الضرائب على الاثرياء والشركات الكبرى، ويرفض عادةً الزيادات في الانفاق الحكومي على الضمان الاجتماعي المعيشي والصحي والاسكاني، بل يدعو لتقليصها او الغاء بعضها كليا. ويعمل لفرض قيود على الهجرة، ويسعى للحد من انتشار ونشاط النقابات العمالية، ويرفض رفع الحد الادنى للاجور، ويدافع عن حقوق حيازة وحمل السلاح الفردي. ويرفض ميزانيات الحفاظ على البيئة ويعتبرها غير ضرورية ومكلفة للاقتصاد.
انتًخِب 19 رئيسًا جمهوريا حتى الآن، كل منهم مارس سياسات محافظة، والبعض مثل رونالد ريغان 1981-1989 دفع الحزب اكثر نحو اليمين، لكنهم جميعا ظلوا ملتزمين بالنظام الديمقراطي وتداول السلطة سلميا حسب نتائج الانتخابات. الا ان آخرهم الرئيس ترامب لم يكتفِ بممارسة السياسة اليمينية المحافظة، بل سجل سابقة في رفض نتائج الانتخابات والادعاء بانها مزيفة، رغم ان الكونغرس ووزارة عدل ترامب نفسها ونائبه مايك بنس ورئيس مجلس الشيوخ الجمهوري وعشرات المحاكم الفيدرالية، رفضوا الادعاء لعدم وجود اية ادلة تدعمه. المرحلة الترامبية في الحزب الجمهوري 2016 – 2020 احدثت تجاذبات كبيرة في اوساط الحزب نفّرت الكثيرين ممن كانوا ينتخبون اي رئيس جمهوري، ليصوتوا لمنافسه الديمقراطي جو بايدن. الا ان محاولة الانقلاب العنيفة في 6 يناير 0212، التي نفذها انصاره من اليمين المتطرف، بتحريض منه، بالقيام باحتلال الكونغرس لمنعه من التصديق على نتائج الانتخابات، دفعت عدد من قياداته لابداء معارضتهم الشديدة لرفض نتائج الانتخابات ولادانة المحاولة الانقلابية مما ادى لانقسامات في الحزب قد تؤثر على نتائج الانتخابات النصفية القادمة في نوفمبر القادم.
القطبان الرئيسيان للحزب حاليا هما الرئيس السابق ترامب الذي لا يزال مصرا على ادعائه بأن الانتخابات الرئاسية عام 2020 سُرقت منه بالتزوير، وميتش ماكونيل، زعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ، وعضو المجلس منذ 37 عاما، الذي وصف التمرد بأنه: « تمرد عنيف بغرض محاولة منع الانتقال السلمي للسلطة من إدارة إلى أخرى بعد انتخابات مصدق عليها شرعيًا »، كوصف لاقتحام مبنى الكابيتول رمز الديمقراطية الاميركية باستعمال العنف ضد رجال الشرطة، وتهديد اعضاء الكونغرس ورئيسته بالقتل، وتدمير الممتلكات الحكومية.
علما بأن المعتقلين في التمرد بلغوا ما يزيد عن 700 يحاكمون الآن حسب القانون الفيدرالي الذي يعرّف التمرد، او « المؤامرة التحريضية » على انها « شخصان او اكثر يتآمرون للاطاحة بحكومة الولايات المتحدة او تدميرها بالقوة، او لمنع او اعاقة او تأخير تنفيذ اي قانون اميركي ».
وقد صدرت احكام ضد بعضهم بالسجن لخمس سنوات.
ماكونيل، الذي انتقده ترامب ووصفه بـ« الغراب العتيق!”، له تأثير كبير في الكونغرس خاصة في اوساط الشيوخ الجمهوريين، وقد صوت عدد من النواب الجمهوريين الى جانب الديمقراطيين لعزل ترامب اثر المحاولة الانقلابية، وبشكل خاص النائبين ليز شيني وآدم كنزنجر، اللذين شاركا في لجنة مجلس النواب الخاصة بالتحقيق في الهجوم على الكابيتول، رغم معارضة معظم النواب الجمهوريين التابعين لترامب لتشكيل اللجنة ولعملها. حتى ان “المجلس الوطني للحزب الجمهوري” اصدر بيانا في اجتماعه الاخير وبّخ فيه النائبين وقرر مقاطعتهما، وفي نفس الوقت اعتبر ان “التمرد واعمال الشغب” في 6 يناير مجرد احتجاج سياسي مشروع، والموقوفين بشأنه مواطنين عاديين، “معتقلين سياسيا“، كما اعتبر لجنة التحقيق النيابية حملة تشهير يقودها الحزب الديمقراطي. كما أن ترامب سبق ان وصف المتمردين بأنهم اميركيون وطنيون يتعرضون للاضطهاد وبأنه سيعفو عنهم عندما يعود للسلطة في انتخابات 2024!
وقد رد المعارضون لترامب من قيادات الحزب الجمهوري على قرار “المجلس الوطني” ومنهم اعضاء الكونغرس ماكونيل، ورومني، وماركوفسكي، وكاسيدي، وكورنين، وشيلبي، وغراهام، وكولينز، وهاتشنسون حاكم ولاية اركنسيس، وهوغان حاكم ولاية ماريلاند، وستيل الرئيس السابق للحزب الجمهوري، وشيني وكنزنجر وآخرون. فوصفوا قرار المجلس بأنه: خاطئ ومرفوض وجبان ومدان، ويوم حزين للحزب الجمهوري، “حزب الحرية”، يعاقب اصحاب ضمير لسعيهم للحقيقة، ويسعى لاسكاتهم لمجرد التعبير عن رأيهم والوقوف مع المبادئ ورفض الكذب الفاضح حول تزوير الانتخابات وادانة محاولة قلبها بالعنف. وقد ادان هؤلاء جعل الحزب رهينة لرجل يعترف انه حاول قلب نتائج انتخابات رئاسية، ورضوخ اعضاء المجلس لترهيبه بعد التخلي عن الدستور. كما رد مايك بنس على اتهامه من قبل ترامب، بأنه كان قادرا على قلب نتائج الانتخابات لصالح ترامب ولكنه جبن ولم يفعل، بأن “ترامب مخطئ، ليس لدي الحق في قلبها، والرئاسة ملك للشعب الاميركي، والشعب الاميركي وحده”، مؤكدا ان مهمة الكونغرس حسب الدستور تصديق شكلي لنتائج الانتخابات. وقد امر موظفيه بالتعاون مع لجنة التحقيق وتسليمها جميع الوثائق المطلوبة. فيما ترامب عند خروجه من البيت الابيض، اخذ معه 15 صندوقا من الوثائق الرسمية تبين بعد ان اضطر لتسليمها انها تحتوي وثائق مصنفة سرية يعاقب القانون بالسجن لعدم تسليمها لادارة المحفوظات والوثائق الوطنية.
خطوط الصدع في الحزب الجمهوري تتعمق مع بدء الحملة من اجل الانتخابات التمهيدية –« البرايمري »- التي تبدأ في ولاية تكساس في الاول من آذار، وستحدد في كل دائرة مَن مِن المرشحين الجمهوريين سيكون مرشح الحزب لمنافسة المرشح الديمقراطي في انتخابات التجديد النصفي للكونغرس في نوفمبر القادم. ويتوقع ان تكون المنافسة شديدة بين المرشحين الذين يدعمهم ترامب والمرشحين المعارضين له الذين سيدعمهم ماكونيل الذين يرون ان الحزب يجب ان يركز على المستقبل وليس الماضي لعدم الوقوع في شرك نزاعات الرئيس السابق. الاثنان جمعا اموالا طائلة لدعم مرشحيهم وصلت حصيلتها لدى ترامب الى اكثر من 120 مليون دولار والى مبلغ اقل من ذلك لدى ماكونيل. العديد من المرشحين الجمهوريين يعتمدون على اموال ترامب لتأمين نجاحهم، حتى ان بعضهم رغم اختلافه مع الرئيس السابق حول قضايا محددة يفضل تجاهلها حاليا لكي لا يخسر دعمه المالي.
كمثال الموقف من الحرب الروسية – الاوكرانية الراهنة، فقد مدح ترامب بوتين ووصفه بانه “عبقري.. رجل ذكي للغاية .. أعرفه جيدًا” وان اميركا يجب ان تتعلم منه كيف تعالج مشاكلها مع جيرانها على الحدود الجنوبية!. ورغم ان العديد من القيادات الجمهورية لا تشاركه هذا الرأي فقد التزموا الصمت بشأن الديكتاتور الروسي الذي شن للتو حربًا عدوانية دموية مكلفة وغير ضرورية حصدت أرواحًا ودمرت البلاد وزعزعت استقرار الاقتصاد العالمي. صمتوا لكي لا يخسروا دعمه المالي والانتخابي المتجلي في شعبيته لدى اليمين المتطرف الذي يصوت عادة للحزب.
في تقييمه للحزب الجمهوري راهنا، قال المفكر السياسي الاميريكي نعوم تشومسكي ان الحزب الجمهوري انجرف نحو اليمين للوصول الى السلطة. فقد سعى لكسب الشعبية في اوساط انصار « تفوق البيض » بتبني موقف متشدد من فتح ابواب الهجرة.ولكسب تأييد الاوساط المسيحية المتدينة، اعلن معارضته لحقوق المثليين جنسيا ولحق الاجهاض للمرأة. كما دافع عن حق الافراد في حمل السلاح ضد مؤيدي حصرحمل السلاح في يد القوى الامنية الحكومية. وقد عمل ترامب لتبني هذه القضايا لحشد الانصار الذين معظمهم اصبحوا متعلقين به شخصيا الى ان تجرأ حتى على التصريح بأنه سعى لقلب نتائج انتخابات شرعية. كما يسعى انصار ترامب في الولايات التي يسيطرون على مجالسها للتضييق على حقوق التصويت والتي تستهدف بشكل اساسي المجتمعات الملونة. واشار تشومسكي الى ان مواقف وآراء المرشحين الجمهورين والكثير من المرشحين الديمقراطين تتوافق مع مواقف وآراء من يدعمهم ماليا. لكنه اضاف » « النظام ديمقراطي من نواح كثيرة، وهناك الكثير من الحرية، ولكن النظام التمثيلي مقيد ». في اشارة الى مثالبه التي منها الانتخاب الرئاسي على مرحلتين وليس انتخابا شعبيا مباشرا ، دور المال في الانتخابات التمثيلية، نظام « الفلبستر » في مجلس الشيوخ، والصعوبة القصوى في تعديل الدستور مما ابقى فيه موادا قديمة تجاوزها الزمن واصبحت معيقة للديمقراطية، وغيرها من الثغرات.
الحزب الجمهوري توقف عن كونه كيانا سياسيا يروج لمبادئ، فقد تحول قسم كبير منه لعبادة شخصية حاكم قد يتحول الى مستبد. ففي الانتخابات القادمة امام الناخبين احد خيارين: اما ان يكونوا مع ترامب او ضده. كل طرف يعتقد انه يمثل الحزب الجمهوري الحقيقي. والمعركة بين ترامب وماكونيل ستكون لها نتائج وتداعيات كبيرة على مستقبل الحزب. ورغم ان ترامب لا يزال شخصية قوية في الحزب، فان تطور الحزب مفتوح على احتمالات متعددة منها ان ينقسم الى حزبين. وقد حدث هذا سابقا عندما تشكل، في العام 2009، “حزب الشاي” الاكثر محافظة ضمن الحزب الجمهوري، والمكون من شعبويين يمينيين ونشطاء محافظين. ويرى محللون ان احتمال الانقسام غير وارد. فسيعود الحزب للتوحد لمواجهة الحزب الديمقراطي في نوفمبر. ولا يمكن استبعاد احتمال ان لجنة الكونغرس التي تحقق في تمرد 6 يناير قد تصدر قرارها قبل الانتخابات القادمة في نوفمبر، بادانة ترامب بانه حرض انصاره على التمرد واقتحام الكابيتول لقلب النتائج، وتستند للتعديل الرابع عشر للدستور الاميركي لمنع ترامب من الترشح لاي منصب حكومي مما ينهي آماله وآمال انصاره بالعودة للبيت الابيض في الانتخابات الرئاسية للعام 2024. وقد يؤثر المنع على حظوظ الحزب الجمهوري في استعادة الكونغرس بمجلسيه في نوفمبر القادم. علما انه في استفتاء اجرته شبكة « ان بي سي نيوز » وافق 59% بأن 6 يناير تمرد لالغاء انتخابات شرعية ، فيما 52% رأوا انه عمل ارهابي. 33% قالوا انه احتجاج مشروع ، وهي نسبة كبيرة رغم انها ليست اغلبية.
اجمالا، يمكن تأكيد ان ما قبل التمرد في 6 يناير ليس كما بعده بالنسبة للحزب الجمهوري. كل الاحتمالات واردة ولا يمكن استبعاد احدها منذ الآن.