البحث عن كانديد يصل إلى نهايته في هذا الفصل الأخير. أشكركم على حسن الاستضافة وأتمنى أن أكون وفقت فيما سعيت إليه عبر فصول الرواية خلال رحلتنا مع أمير وعاطف وسيسي وزياد والأب فرانسوا لاحقا. فهل يستطيعون العثور عليه ليتم إنقاذ هذا العالم المنغمس في المنازعات والحروب؟
سوف نرى.
اتفق معي الأستاذ پيير عقل على نشر رواية أخرى على صفحات شفاف الشرق الأوسط، فإلى اللقاء مع “دعوة فرح” لعلها تروق لكم.
د. شريف مليكة
*
لم يظهر كانديد.
لم تفلح كل تلك المعجزات في الإتيان به. تعجبت من إصراره على الفرار منَّا، مهما كانت الظروف.
بقي أبونا جرجس معنا يحدثنا، ويفسّر لنا تفاصيل حياة الرهبان بالدير. أدركنا أنه كان مسؤولا عن مراجعة مخطوطات قديمة بالدير وتبويبها، إذ كان متخرجا في كلية الآداب، قسم التاريخ. لكنه، وبعد مضيِّ بضع ساعات، كفّ عن الكلام، وهو يتساءل عن خطوتنا التالية، إذ صار عليه أن يلحق ببقية الرهبان في اجتماع الصلاة قبل غروب الشمس.
استمر أمير في رحلاته القهرية إلى بوابة الدير، ليستفسر عن وصول أجانب، حتى أصابه الإعياء. جلس هادئا وسطنا، وامتنع عن الكلام. لاحظت هدوءه غير المألوف، لكنّ ما لفتني حقا، ونحن نستعد للرحيل، إنما هو احمرار وجهه الأسمر، وتصبب العرق الغزير من قمة شعره الداكن المبلل، كأنه سقط في بركة ماء. ناديته مرَّات، فلم يردّ. غاب أمير عن الوعي، وصرت أنا أهزه ليستفيق بلا جدوى.
أثارت حركاتي المفاجئة الانتباه، فتلفت الجميع إليَّ، فأشرت نحوه. انتفض أبونا جرجس من مطرحه، ومس جبين أمير براحته، ثم قال مهتما:
“إنه يغلي! لا بد أنه أصيبَ بضربة شمس. سوف آتي بأبونا “يسطس” ليفحصه، فهو طبيب.”
أسرع مغادرًا وخلال دقائق، عاد يحمل دلوا ممتلئًا بالثلج، يصاحبه راهب آخر، أكبر منه سنا، قصير القامة، ممتلئ، تحمل يمناه حقيبة جلدية سوداء، وتطم وجهه نظارة طبية غليظة، ينساق وراءها في تقدمه الحثيث نحو أمير.
خلال لحظات صار أمير ممددا فوق بضع وسادات على الأرض، وسرعان ما كان الراهب الجديد قد فتح فمه، وجذب جفنيه، واستمع لقلبه، وعدّ نبضه، وقاس ضغطه. وفي خلال دقائق معدودة، أخرج من حقيبته السوداء إبرة غرسها في ساعد أمير، ثم أوصلها كالحاوي بأنبوب يصل إلى كيس مملوء بسائل شفاف، علق أعلاه فوق مسمار كان يحمل صورة لأحد القديسين. وبخفة، نقع أبونا جرجس فوطة في دلو الماء المثلج، ثم رفعها وعصرها، ثم مسح بها وجه أمير وصدره العاري، من بعد ما انتزع عنه قميصه.
غدا يكرر ذلك مرات ومرات، والسائل الشفاف يسري في جسد أمير. وانحنى الأب فرانسوا وركع يصلي. أما سيسي، فاكتفت بمتابعة الأصوات الآتية نحو أذنيها المشهرتين، وهي تدير رأسها هنا وهناك بحركات خاطفة، كالحمامة تستطلع محيطها. ولدهشتي، أصاب التوتر زياد لأوّل مرَّة، منذ أن لاقيناه في إسطنبول، ولم أتخيله بقادر على التوتر.
بعد نحو ساعة، استفاق أمير أخيرا. فتح عينيه السوداوين، وجال بهما نحونا، ثم فتح فاه بصعوبة، وقال بصوت أجش:
“هل حضر كانديد؟”
ربت أبونا جرجس فوق رأسه برفق، وهو يقول:
“الحمد لله على سلامتك. لم يأت كانديد، ولا أيّ زوار غيركم. على أيّ حال فالبوابة تغلق عند الغروب، وسوف أبحث لكم عن أمكنة للمبيت.”
التفتُّ نحو الأب يسطس، وقلتُ له:
“لو سمحَت حالة أمير، فنحن نفضل العودة إلى القاهرة الليلة.”
جلس أمير مستندا إلى ساعديه، وعلَّق في تؤدة ووهن:
“أشعر بتحسن، نعم.. نعم، أنا بخير الآن!”
أدركتُ على الفور مدى انتكاس حالته، فأومأت إليه مشفقا، لكنني هببت واقفا، مستعدا لمبارحة الدير، استجابة لمشيئته.
أصر الراهبان على إمدادنا بحقيبة بلاستيكية كبيرة، ملآنة بزجاجات المياه، كأننا انضممنا إلى قافلة في طريقها لعبور الصحراء.
اصطحبنا الراهبان إلى مدخل الدير، وفتحا لنا بابه الخشبي الغليظ، فدلفنا إلى العربة المستعرة، بفعل الشمس المتعامدة فوقها، طيلة اليوم.
كانت رحلة العودة أطول كثيرا. أشفقت على أمير الذي كان يفيق لبرهة، ليسأل عن الوقت، أو حال الطريق، أو أي سؤال مقتضب آخر، ثم يغفو من جديد، دون أن يستمع مجرد الاستماع إلى الإجابة.
في القاهرة، وجد الأب فرانسوا رسالة من سوزان لاكروشيي تنتظره. ففضها على الفور، ثم قرأ محتواها بصوت مرتفع:
“عزيزي الأب جان لوي فرانسوا،
تحية مرة أخرى، في حقيقة الأمر، لست أود أن أكرر نفسي، ولكنني أعتذر بشدة ـ للمرة الثانية ـ عن فشلي في لقائكم اليوم بالأديرة. فبينما كنا نستعد للخروج من الفندق هذا الصباح، إذ استوقفنا حارس الأمن، مستفسرا عن وجهتنا. عندما أجبته بلغتي العربية المكسرة عن مقصدنا، طلب مني أن أظهر له التصريح الأمني بمغادرة القاهرة. بالطبع، لم يكن مثل هذا التصريح بحوزتنا، فقلت له إننا مبعوثون من قِبل السفارة الفرنسية. طلب منا المكوث بالبهو حتى يتمكن من الاتصال بالسفارة. لكنه عاد بعد دقائق، معتذرا بأن لا أحد في السفارة الفرنسية يجيب عن مكالماته. بالطبع كان الوقت مبكرا جدا، فلم يكن أحد من موظفي السفارة قد حضر بعد. عرضت الأمر على السيد كانديد، واقترحت أن نمضي بعض الوقت في التجوال حتى نتمكن من الحصول على التصريح ريثما تفتح السفارة أبوابها. لكنه رفض الاعتماد على مكالمة هاتفية ما للحصول على إجازة بالخروج، بل فضَّل تصريحا مكتوبا، لأنه اعتزم زيارة أماكن عدة خارج القاهرة. وها هو يأمل في أن يتاح لنا استخراج مثل هذا التصريح اليوم، وقد استأذنته في بضع دقائق أخلو فيها لنفسي حتى أكتب لك هذه الكلمات قبل أن أتوجه معهم إلى السفارة. أرجو أن تجدكم هذه الرسالة بكل خير. إمضاء سوزان لاكروشيي.”
كان أمير ما يزال في وهنه من جراء الجفاف الذي سببته ضربة الشمس، فلم يعقِّب. وإنما طلب مني بعد انتهاء الأب فرانسوا من قراءة الخطاب، أن نصعد إلى الغرفة، لأنه يريد أن يضطجع على الفراش، إذ شعر بدوار.
أبلغت سيسي برغبته، فقالت إنها متعبة هي أيضا بعد هذا اليوم الطويل، فآثرت أن ترافقنا إلى غرفتها لتنام. وطلبت الأخت ماري أن يصحبها حودة إلى بيت الراهبات على أن تلقانا في الصباح. أما عن زياد والأب فرانسوا فقررا أن يجلسا قليلًا بالبار الملتحق ببهو الفندق، ليتناقشا في أمر تلك الرسالة.
في المصعد، شددت عليَّ سيسي أن يشرب أمير الكثير من السوائل، مثل العصائر، وأن أطلب له صحنا من الحساء بالغرفة، حتى يعوّض ما فقده من العرق الغزير الذي سببته لفحة الشمس.
أومأت موافقا. لكنني سألتها:
“ألا ترين غرابة في أمر ذاك التصريح بالخروج من القاهرة الذي طلبوه من كانديد؟ وإذا كان عذرهم أنه أجنبي، فلماذا لم يطلب أحد منكِ، أو من الأب فرانسوا، أو زياد، تصريحا بالمثل؟”
فسكتت لحظة، ثم أجابت:
“ربما لأننا سافرنا بصحبة مصريين؟ لست أدري في الحقيقة.. فالتعب قد تملك مني، فانشلَّ عقلي، وتشتَّت ذهني..”
ودعناها عند غرفتها، ثم اتجهنا إلى حجرتنا، حيث غيّرنا من ثيابنا، وأمسكت بالتليفون لأطلب حساء لأمير ـ كما أوصت سيسي ـ فالتفتُّ نحوه لأسأله عن نوع الشوربة التي يفضلها، فإذا به يغط في نوم عميق. وضعت سماعة التليفون، وأطفأت الأنوار، ثم استلقيت بدوري فوق فراشي، وأنا أسترجع أحداث ذلك اليوم الطويل. لكنني، لم أقوَ على كتابة تفصيلاتها فوق صفحات كراستي الزرقاء، فاكتفيت بحفظها في ذاكرتي، حتى ما أدوِّنها عند الصباح.
أصبح أمير نشطا، بشوشا، كأن شيئا لم يلم به. مررنا بحجرة سيسي، ثم نزلنا إلى المطعم لتناول الفطور. لدهشتي وجدنا الأب فرانسوا بانتظارنا. صار وجهه الأبيض المغضن ذابلا، وتجمعت هالات داكنة حول عينيه الزرقاوين. وما هي إلا دقيقة حتى هلّ زياد حاملا طبق عجة البيض بيد، وكوب عصير المانجو باليد الأخرى. لكن سحنته باتت مقلوبة هو الآخر، فهاش شعر رأسه، ونبتت لحيته. لم يلحظ أمير تغير مظهريهما، فقال مرِحا:
“أشعر بجوع شديد يعتريني. أعتقد بأنني قادر على التهام عشرة أطباق الآن، وكأنني لم أتذوق طعاما لأيام! بماذا تفسرون هذا، أيها الفلاسفة؟”
لم يعقب أحد. انتظر أمير بضع دقائق، ثم نهض واجمًا للإتيان بالأكل. سألت سيسي، فقالت إنها ستكتفي بالقهوة وثمرة كمثرى، أو أيّ قطعة من الفاكهة. سألَتني أن ألحق بأمير لآتي بطعامي، أما هي فسوف تطلب من النادل أن يحضر لها ما تبتغي.
عند عودتنا، وجدنا الكل يأكل في سكون مريب. لم أشأ أن أعلق على هيئة الأب فرانسوا أو زياد، لكن الفضول اعتراني، فقلت بينما أرشف من كوب الشاي:
“هل نمت جيدا أيها الأب فرانسوا؟”
فرفع عينيه الكليلتين نحوي ثم رد بتكاسل:
“في الحقيقة، لم ننم تقريبا ليلة أمس!”
فعلَّقتُ متوجسًا:
“يا خبر! لِمَ؟”
سند الأب فرانسوا ظهره إلى مسند الكرسي، وبتلقائية رفع يسراه بالشوكة معلقة بأطراف أصابعه، وتركها عالقة بالهواء، تترنح هكذا مع حركة يده، وهو يقول:
“بعد أن انصرفتم ليلة أمس، قررنا، زياد وأنا، أن نتوجه إلى مكتب الاستقبال لنسأل عن كانديد بغرفته.”
رشف من قهوته، ثم وضع عنه الشوكة، ومسح يديه وفمه بالفوطة، ثم أكمل:
“ما إن اقتربنا من الموظف، حتى همّ زياد بالاستفسار عما إذا كان السيد كانديد موجودا في غرفته، فإذا برجل غريب، أنيق المظهر، يهبّ من فوق مقعد مجاور للمكتب، ثم يتقدم نحونا بسرعة. كلم زياد أولا، ثم التفت نحوي وقرر مخاطبتنا معا، فسألنا بالعربية عمن نكون. بالطبع لم أفهمه، فترجم لي زياد، ثم تلفت نحو الرجل وردّ بالعربية. أما الرجل، فربت بخفة فوق كتفينا ثم قال بالإنجليزية إنه يريد أن يسألنا بعض الأسئلة. فما كان مني إلا أن سألته بدوري، عمن يكون هو، فابتسم ببرود، وهو يعلمني بأنه رجل أمن، وما يفعله ما هو إلا لمنفعتنا، ولضمان أماننا.”
سكت قليلًا وهو يتجول بعينيه ليشهد وقع كلماته علينا. ثم استطرد:
“نظرت نحو زياد، فوجدت وجهه ممتقعا، وعينيه زائغتين. قلت له بالفرنسية إنّ تلك هي المرَّة الثانية التي نسمع خلالها عن رجل أمن الليلة، من بعد رسالة سوزان لاكروشيي!”
نظر نحو زياد، وكأنه يطلب تأكيد روايته، فأومأ الأخير، ثم أكمل الأب فرانسوا:
“أعتقد أنّ الرجل سمع اسم سوزان لاكروشيي، فأدرك ما كنت أتفوه به، وإن لم يكن يبدو عليه فهمه للغة الفرنسية. لكنه تقدم خطوة باتجاهنا، حتى كاد جسمه أن يلتصق بنا، وهمس قائلا إنه النقيب (كابتن كما عرفت من زياد بعدها) ’سليم مُخلص‘، من قوة الأمن الوطني. ثم أشار بيده أن نتوجه إلى ركن هادئ بالبهو، فتجاوبنا مكرهين، إذ كان عمليا يدفعنا برفق نحو المكان.”
“أشار إلى الأريكة لنجلس زياد وأنا، ثم اتخذ هو المقعد المتعامد إليها. أخرج علبة سجائر، ومدها نحونا، فلم أفهم، لكنّ زياد شكره معتذرا بأننا لا ندخن. أشعل هو سيجارة، ثم أخرج بطاقته ليؤكد لزياد صفته الرسمية، ثم أعادها إلى محفظته. بعد ذلك عاد وسألنا عن هويّتينا، وسبب زيارتنا لمصر. كان ما يزال يتحدث بالإنجليزية بشيء من الطلاقة، فأجبته أنا بإنجليزيتي المعوجة، شارحا له أنني كاهن بكاتدرائية ساكريكير بباريس، فتضاحك مؤكدا أنه زارها قبل نحو عامين، لكنه لا يذكر أنه قابلني هناك. ثم قدم زياد نفسه بأنه رجل أعمال لبناني الجنسية، وشرح أننا مجموعة من الأصدقاء، جئنا إلى مصر باحثين عن الغبطة والوئام. فضحك الرجل بعصبية، بينما بات يكرر كلمات زياد، الغبطة والوئام، عدة مرَّات. ثم انعدل في كرسيه مصوبًا كلماته نحونا كالطلقات متسائلًا، وماذا تعرفان عن كانديد فولتير، وأصحابه؟”
استحوذ الأب فرانسوا على انتباهنا التام. حتى أن أمير توقف تمامًا عن ازدراد الطعام، ذلك الذي أتى به متكومًا كالتل فوق صحنه. ثم عاد فواصل قائلًا:
“أدركنا أنه يعرف كل شيء عن زيارتنا. لكن زياد آثر أن يكسب بعضا من الوقت، لننظم أفكارنا، بعد ذاك اليوم الطويل. فما كان منه إلا أن قال مداعبا، كانديد اسم رواية قديمة كتبها الفرنسي فولتير في القرن الثامن عشر إبان الثورة الفرنسية. لكن لسوء الحظ استمسك كابتن سليم مخلص بتعبير ’ثورة‘ فامتقع وجهه، وصار يتفوه بعصبية: ’آه، ثورة، ثورة ضد من، ومن هم زعماؤها، ومن يمولها؟‘ فأسرعت أجيبه بأن زياد كان يتحدث عن الثورة الفرنسية في عام 1789! ثم أضفت جازمًا: ’يبدو أن في الأمر سوء تفاهم‘. وسكنت منتظرًا تعقيبه.”
“أما عنه فأجاب بحزم: ’هل تريد أن تقول لي إن شخصا ذا أصول ألمانية فرنسية، يدعى كانديد، يترك إسطنبول، ويتجه إلى بانكوك، ثم كوالالمبور، ثم يرتحل إلى بودابست، وفيينا، وبراج، ثم ألمانيا وبالذات في مقاطعة بافاريا، ثم باريس وروما ويأتينا إلى القاهرة، بجواز سفر يحمل كل تلك التأشيرات في غضون بضعة أشهر، ثم تقول لي إن في الأمر سوء تفاهم! هل تدرك أيها الكاهن المبجل أن تلك الأماكن تعد الآن معاقل للإسلاميين أو مموليهم حول العالم؟ هل تعرف سيادتك أنه لم يترك مكانا إلا وشكك الناس المقيمين به في صحة إيمانهم، أي بتكفيرهم؟ هل تعلم أيها الأب الورع أنَّ دولة داعش صارت تستقطب أعوانها بتكفير المجتمعات التي يحيون بها؟ هل تعلمان عدد العمليات الانتحارية التي قام بها الداعشيون حول العالم، وبالذات في بنجلاديش، وباكستان، وتركيا، وألمانيا، وفرنسا، خلال الأشهر الثلاثة الماضية، منذ أن قام صاحبكم برحلته؟ سوف أقول لكم، باعتبار أنَّ تلك هي البلدان التي زارها، أو جال بقربها صديقكما، إنَّ تسع عمليات إرهابية على وجه الدقة، راح ضحيتها أكثر من ثلاثمائة من الأبرياء! هل تدرك حضرتك أنّ الجهات الاستخبارية حول العالم تعمل اليوم في تناسق ومواءمة؟ أنا متأكد من أنكما تعرفان بأمر تكفيره لمساعد شيخ الأزهر، ولإمام مسجد سيدنا الحسين، وكان في طريقه لتكفير رهبان أديرة وادي النطرون، لولا أن منعناه! لكن، هل تدرك سعادتك أنّ جهاز الأمن الوطني المصري كان يعلم بأمر زيارة المدعو كانديد وأصحابه، قبل أن يصلوا فعلًا إلى القاهرة؟ ثم، هل تدري أننا أبلغنا السفارة الفرنسية لتبعث بالمدعوة سوزان لاكروشيي هذه، لتكون في صحبتهم خلال جولتهم بالقاهرة؟ ثم تقولان لي إن كانديد ليس إلا رواية فرنسية قديمة! بعد كل ذاك الحديث المسترسل الذي أتحفنا به كابتن سليم مخلص، كان الرعب قد تملك منا، فلا تنسوا أننا غريبان عن هذه المدينة!”
أُسقط في أيدينا! ما كل هذا الهزل!
صار زياد يعبث بحركة لا إرادية بشعيرات ذقنه النابتة، بينما ذهب الأب فرانسوا يفرك عينيه الذابلتين، وكأنه يقاوم فرار دمع آثر كبته. أما عنَّا، فساد سكون مطبق فوق رؤوسنا، فلم ينطق واحد منَّا بحرف. وبعد السكون الذي بدا كأنه أزلي، صرَّح الأب فرانسوا بالمزيد:
“لكنّ السيد سليم مخلص لم يكتف بكل ذلك، بل طلب منَّا، بلهجة قد تبدو آمرة، أن نتعاون مع جهاز الأمن الوطني المصري من الآن فصاعدا، بل وحذرنا من سوء العاقبة إن لم نلتزم بذلك. كما طلب منَّا أن نرتاده في مقر الجهاز اليوم ـ بصحبتكم أيضا، فهو يعرف كل شيء عن كل واحد منا ـ للتقدم ببياناتنا الشخصية، حتى يتسنى لهم أن يحمونا من شر التورط مع كانديد وأصحابه!
ما إن أنهى الأب فرانسوا كلامه، حتى انتابت أمير حالة هيستيرية، فصار يتلعثم بكلمات غريبة، كما بات يقوم بحركات شاذة، ويداه وذراعاه تتراقص في الهواء، كأن لها إرادتها الخاصة المستقلة، بينما هو يتطلع نحوها عاجزا كل العجز عن التحكم فيها. تذكرت وصفه لتلك الحالات حين قابلته لأول مرة منذ سنوات، ولكنني لم أكن شهدت “الحالة” تنتابه من قبل.
بدا الفزع على الوجوه، وطلب الأب فرانسوا استدعاء الإسعاف على الفور. أما أنا، فمددت ذراعي، فحوطت بوسطه، وبصعوبة أقمته من مجلسه، وسرت به نحو المصعد، حيث توجهت به إلى غرفتنا. أسدلت الستائر، لتحجب أشعة الشمس الصارخة، فساد نوع من السكينة. استمر أمير يتلعثم، وهو ينظر نحوي مغلوبا على أمره، لا يقدر أن يسيطر على كلماته المجنونة، بينما كان يتطلع نحو ذراعيه بوجل ويأس، من جراء عجزه الكلِّي عن التحكم فيهما. فضحت نظراته الملتاعة، كم الشك والخوف الذي بات يعتريه، ومقدار الريبة فيمن حوله، بعد أن زرعت كلمات الأب فرانسوا عن ضابط الأمن الشك في قلبه، بخصوص نبل مقصده من تعقب كانديد لإنقاذ البشرية، أو الرعب من تلك القوى القهرية التي أدرك تعقبها إياه، أو حتى من المجهول الذي يشعر أنه يكاد أن يفتك به. ألقمته حبة من الدواء، ثم أضجعته فوق السرير، وأنا أتفوه بتلك العبارات التقليدية، الفارغة، التي نتفوه بها عادة في الملمات، محاولة منّي لتهدئته. لكنني مع ذلك، لم أقدر أن أنزع من رأسي خوفي الشخصي من فكرة الذهاب إلى مقر الأمن الوطني، أو أن أمحو تأثيرها عن ذهن أمير. اكتفيت بالانتظار حتى يسري مفعول الدواء بجسده، فخفَتت حركات ذراعيه العشوائية تدريجيّا، إلى أن توقفت تمامًا، كما ماتت كلماته الهذية فوق شفتيه، ثم انتظمت أنفاسه، وسرعان ما راح في سبات عميق.
مكثنا بالحجرة إلى أن حل المساء. تحينت الفرصة، حتى أدون في دفتري الأزرق، الذي تهرأت أوراقه، تفاصيل أحداث اليومين الماضيين المذهلة.
حين أفاق أمير، نحو الساعة الرابعة بعد الظهر، كان قد استرد عافيته تماما. وكان أول ما تفوه به هو تساؤله:
“هل تعتقد بصحة كلمات النقيب سليم مخلص هذه؟”
فدفعت على الفور:
“كذب، كذب، كلهم كاذبون؛ ذلك، هو أسلوب رجال الأمن والاستخبارات عبر العصور، في كل الدنيا!”
وجدتُ نفسي أجمع حاجياتي، وأرصُّها بعناية داخل حقيبة السفر. سألني أمير عما أفعل، فانتبهت، وأدركت أن رحلتنا أوشكت على الانتهاء. أجبته بأنني اشتقت للعودة إلى الإسكندرية، لبيتي، لصورة ثريا وأنا بجانبها، المعلقة في الصالة فوق الأريكة الوحيدة، التي لا بد تفتقدني بشدة.
دلفت وحدي إلى الشرفة العالية، أودّع نيل القاهرة، والبشر، والعربات الزاحفة حول ضفتيه، وعبر الجسور، تئن بأبواقها هنا وهناك. تذكرت ما قاله الأب فرانسوا يوم وصولنا، عن نهر النيل:
“تجري مياهه بالرتابة الأزلية نفسها، ثم تذهب بعيدا ولا تعود. والناس من حوله ـ مثلنا تماما ـ يعاينونه لحظات، أو أياما وسنين، ولكنها تذوي كذلك، ثم ترحل. ثم يأتي أناس غيرهم، ملايين تجيء ثم تذهب. إنما تلك الأرض هي الأرض، لم تتغير، وذاك النهر هو النهر؛ النيل الخالد، لم يتحول لآلاف السنين، لم يتبدل، ولن يتبدل إلى الأبد!”
اتصلتُ بسيسي، وزياد، والأب فرانسوا، وطمأنتهم على حال أمير، واتفقنا على التلاقي بالمطعم بعد ساعة.
في المطعم، وجدنا الأخت ماري بصحبة سيسي، وفي نفس التوقيت وصلت معنا سوزان لاكروشيي.
علمنا أن الأخت ماري كانت قد حضرت بعد انصرافنا مباشرة، لتُعلم الأب فرانسوا بترك كانديد وأصحابه للفندق، بعد اتصاله بها تليفونيّا، دون أن يبوح لها بما يشير إلى وجهته المقبلة. جاءت على الفور، لتلحق بهم قبل أن يرحلوا، وإن لم تفلح في تحقيق ذلك.
أما عن سوزان لاكروشيي، فيبدو أنها حضرت من تلقاء نفسها، لمَّا انقطعت عنها أخبار كانديد اليوم بطوله. أو ربما كانت ـ بحسب أقوال النقيب سليم مخلص ـ ذات صلة بأعمال أجهزة استخبارية، فحضرت لتترقب وترصد ردود أفعالنا، من بعد خروج كانديد، وهروبه غير المتوقع عن محيط بحثنا. أو لربما تنقب حول كل واحد منا، فربما تعثر على خيط ما، قد يكشف عنه أيٌّ منا، عامدا أو حتى عفويا، قد يتيح لها ـ ولهم ـ مواصلة البحث عن كانديد.