في السابعة والنصف صباحًا حضر حودة بحافلته التي بدت لامعة، وكأنه غسل عنها تراب الأمس، خلال الساعات القليلة الفائتة. تعلل بحملة مرورية عطلته. لكنه عاد وطالبني في ما بعد، بزيادة في الأجر، لسبب التبكير في المواعيد، وللسفر إلى خارج القاهرة.
أعترِف بأن القاهرة في الصباح الباكر، تستيقظ أكثر إشراقا ولطفا. قبل أن يستفيق ناسها، تصبح قاهرة مغايرة لما باتت عليه؛ تصحو رقيقة، نظيفة، وحانية. تصير أقرب إلى القلب. حينها، تكون أشبه بمدينتي المحبوبة، الإسكندرية.
خضنا في شوارع المدينة بيسر، وسرعة لم يصدقها حودة ذاته. أمير، التبسه هدوء مطَمئن، وغفل زياد بجانبه. وجلست سيسي إلى جواري، تستمع لوصفي معالم الطريق التي نمر بها باهتمام. الأب فرانسوا اتخذ المقعد الأمامي، بمحاذاة حودة، وبذل جهدا مضنيا للتواصل معه. وأثمرت جهوده، حين لاحظت ردود حودة بكلمات إنجليزية مبتكرة، والعديد من الإشارات، والكثير من الضحكات الصادحة، التي ملأت العربة بِشرا.
أمَّا عن الأخت ماري، فبدت ساهمة، كأنها تفكر في أمر ما، أو ربما كانت تصلي، لست أدري. فهي امرأة هادئة، إن تجاوزنا وسلّمنا ـ جدلا ـ بأنوثتها؛ فشعرها المغطى بعناية، وحاجباها السميكان، والشعيرات الرفيعة النابتة فوق شفتيها، وإلى سالفَي خديها، وهندامها الرمادي الفضفاض، ويداها الخشنتان، الغليظتا الأصابع، كلها قد توحي إليك بأيّ شيء غير الأنوثة. وهي إلى جانب كل هذا، شحيحة الحديث، بخيلة في إظهار مشاعرها، حتى تكاد أن تنسى وجودها إلى أن تنطق بكلمة، أو تقوم بحركة ما، فتفاجأ بأنها كانت موجودة وسطنا الوقت بطوله.
بعد نحو ساعة ونصف من سفرتنا، توقف حودة أمام استراحة، فعنَّفه أمير، إذ أراد أن يواصل إلى الأديرة مباشرة. لكنّ الأب فرانسوا، دافع عن حودة ـ صديقه الجديد ـ وقال إنه يحتاج إلى زيارة دورة المياه، وكذلك طلبت سيسي بعض القهوة مع سيجارة، وسألتني إن كان التدخين متاحا، فأجبتها ساخرًا:
“مرحبا بكِ في مصر، بلد الحرية الحقيقية!”
أذعن أمير للأغلبية، بل وطلب كوبا من الشاي بالنعناع، وكذلك فعلت أنا وزياد. أمَّا الأخت ماري، فاكتفت بكوب ماء، حتى أنها أبت أن يأتوا لها بزجاجة مياه معدنية. واستأذن حودة في طلب فنجان قهوة كذلك.
خلال نحو ساعة، كانت العربة واقفة أمام بوابة “دير الأنبا مقار”. لم يسمح لنا الراهب الرابض عند المدخل بالدخول إلى الدير، لسبب صوم الرسُل. سأله أمير، وألحّ في السؤال عما إذا لم يسمح بمرور عربة ربما تكون قد أتت قبلنا. فأنكر الراهب الشاب قائلًا:
“الدير مغلق عن الزيارة، حتى الثاني عشر من يوليو، عيد الرسل، أعاده ربنا عليكم وعلينا بالخير. لكن أديرة الأنبا بيشوي، والعذراء للسريان، والعذراء للبراموس مفتوحة. اذهبوا إليها، فتنالوا البَركة!”
رغم إشارة عقارب الساعة إلى العاشرة صباحا، فإن حرارة الشمس الساطعة، كانت قد بدأت تضرم الجو حميا. ومع ذلك، قررنا الذهاب إلى دير السريان، الأقرب لدير أبي مقار المغلق.
تلقانا الرهبان هناك بترحاب، وبشاشة. بل وخصصوا لنا راهبا شابا، يدعي أبونا إسطفانوس، ليرافقنا في أثناء الزيارة. اصطحبنا الراهب النحيل، ذو الجلباب والطاقية القاتميّ السواد، وذو اللحية الداكنة القصيرة، مقارنة ببقية الرهبان ذوي اللحى المبيضَّة المسترسلة، تتأرجح فوق صدورهم، فأخذنا إلى المضيَّفة؛ وهي ساحة واسعة، نظيفة، ذات مقاعد حجرية، مفروشة بالكليم البدوي المشغول، تظللها أشجار الجهنمية، بزهورها الحمراء الزاهية، المتسلقة فوق سياج خشبي مرتفع يحدها. استأذن، وانصرف عنا لبضع دقائق، ثم عاد حاملا، على سبيل الضيافة، صينيةً عريضة، استقرت عليها أكواب الشاي وقطع من الفطير. جلس جنبنا، ثم شرع يسألنا من أين أتينا، وماذا نرجو من زيارة الدير. فوجئت بالراهب الشاب يتحدث الإنجليزية بطلاقة، حين علم بوجود أجانب بيننا.
وبينما انشغلنا بالإجابة عن أسئلته، مع احتساء الشاي وقضم قطع الفطير الطازج، إذ بادره أمير على الفور بالسؤال المباشر عن وصول كانديد ورفاقه إلى الدير. ابتسم الشاب، وهو ينكر علمه بمجيء أجانب إلى الدير حتى الساعة الحاضرة.
سألته سيسي أيضًا عما إن كان يسمح له بالزواج. فضحك الراهب وهو يرد بأنه متزوج فعلًا، ولكن من الكنيسة، أما العالم بزواجه وانشغالاته، فقد مات عنه، يوم قرر أن يهب ذاته لحياة الرهبنة. فعادت لتسأله:
“ولكن ماذا تفعل بحياتك، وأنت شاب هكذا؟ قل لي، كيف تمضي وقتك هنا؟”
أجابها الراهب:
“في الواقع، حياة الراهب مملوءة عن آخرها، رغم أنّ اليوم هنا يبدأ قبل شروق الشمس، وينتهي في الليل، إلا أن أحدا منا هنا لا يجد لحظة واحدة، ليشعر معها بالفراغ. فنحن نصلي معا، ونعمل، كل بحسب تخصصه ودراسته الجامعية، ونقوم باستقبال الزوار، وندرس الكتاب المقدس، إلى جانب مجموعة هائلة من كتب العقيدة، والتاريخ، واللاهوت. والبعض يباشر تعليمه في دراسات الماجيستير، والدكتوراه في بعض الأحيان.”
“أتعني أنّ كل الرهبان هنا جامعيون؟”
“أكثرهم، إلا الشيوخ منا، الذين انضموا إلى الدير قبل عهد قداسة البابا شنودة الثالث.”
قاطعته سيسي على الفور قائلة:
“البابا من؟ كنت أظن أنّ هناك بابا واحدا، وهو بابا الفاتيكان! فعلينا الآن أن نلتقي بباباوات آخرين، والعمر لم يبق به الكثير!”
ضحكنا كلنا، ما عدا الراهب الشاب، الذي لم يدرك مغزى الدعابة. لكنه انبرى مدافعا:
“لا، بل هنالك بابا لكنيسة الإسكندرية، التي أسسها القديس مرقص الإنجيلي. حقيقي أنه حتى القرن الثالث كان رئيس الكنيسة يدعى أسقفا، حول العالم، إلى عام 232 ميلاديا، في عهد البابا القديس ’هيراكلاس‘؛ الأسقف الثالث عشر لكنيسة الإسكندرية. ومع ذلك، فإن بابا روما الأول كان ’يوحنا الأول‘ الذي جاء في منتصف القرن الخامس الميلادي.”
في الحقيقة، لم أكن أعرف أيًّا من تلك المعلومات، ولكنني لم أنخرط في مسلك الرهبنة من قبل!
انتهينا من احتساء الشاي، فوقف أمير مستأذنا في الانصراف، إذ كان علينا أن نواصل بحثنا عن السيد كانديد. أما أبونا إسطفانوس فكان له رأي مختلف، إذ قال:
“يجب ألا تنصرفوا من هنا، قبل زيارة البحيرة.”
فرد الأب فرانسوا هذه المرة:
“أيّ بحيرة؟”
“بحيرة أيوب، المعروفة بـ’نبع الحمراء‘. فلها قصة جميلة، سوف أقصها عليكم في الطريق.”
فقاطعه أمير قائلًا:
“معذرة يا أبونا إسطفانوس، فلا وقت لدينا، إذ نحن جئنا في مهمة، نسعى لإنجازها. لك منا كل الشكر.”
فابتسم أبونا إسطفانوس، وتساءل بأدب جم:
“حتى وإن قلت لك إن هذه البحيرة شرب منها الطفل يسوع رب المجد، والسيدة العذراء مريم؟”
فانتفض الأب فرانسوا غبطة، وقال:
“انتظر لحظة يا أمير!” ثم واجه الراهب متسائلا:
“أرجوك أن تقصّ علينا روايتك أيها الأب إسطفانوس.”
فأشار إلينا بالجلوس ثانية، ثم قال:
“أثناء رحلة العائلة المقدسة إلى مصر، عبروا النيل عند فرع رشيد، عند جنوب الدلتا المصرية، وخاضوا في منخفض وادي النطرون، في طريقهم إلى القاهرة، ومنها إلى الصعيد. لكنهم، في أثناء تواجدهم هنا في منطقة وادي النطرون، شعر الطفل يسوع بالعطش. فتوقفت العائلة المقدسة أمام البحيرة، ثم مدت السيدة العذراء كفها لتذوق المياه، فوجدتها شديدة الملوحة، فلم تدع يسوع يشرب منها. لكن عطش الطفل اشتد عليه، فما كان منها إلا أن ضربت بكفها برفق فوق سطح المياه، فتدفقت مياه حلوة تنبع وسط مياه البحيرة المالحة، فسقت طفلها منها. ومنذ يومها، ما تزال المياه الحلوة تنبع من وسط المياه المالحة، فتشفي الأبدان، وتروي عطش الناس إلى المياه المقدسة عبر قرنين من الزمان. والآن، هل ما زلت على رأيك في أمر الانصراف يا سيد أمير؟”
أما سيسي، فلم تشأ أن تمرر الأمر بتلك السهولة، فانتظرت حتى انتهى الراهب من روايته، ثم سألته:
“قصة جميلة فعلا! لكن قل لي من فضلك: في أيٍّ من كتب التاريخ قرأتها؟”
فابتسم الراهب في هدوء، وبثقة أجاب:
“هناك المئات، بل الآلاف من القصص والروايات التي توارثتها الكنيسة القبطية، من جيل إلى جيل، فحفظها الآباء في عقولهم وقلوبهم، قبل كل شيء، ثم في كتابات متعددة عبر الزمان. تلك الروايات والممارسات التي توارثناها عبر الأجيال، نسمّيها نحن ’التقليد الكنسي‘؛ نحفظه ونحرص على نقله لأبنائنا من بعدنا كما هو، بلا انحراف أو تغيير. وقد كتب يوحنا الحبيب في إنجيله: ’وأشياء أخر كثيرة صنعها يسوع إن كتبت واحدة واحدة، فلست أظن أنّ العالم نفسه يسع الكتب المكتوبة‘، وأيضًا: ’وآيات أُخر كثيرة صنع يسوع قدام تلاميذه لم تكتب في هذا الكتاب وأما هذه فقد كتبت لتؤمنوا أنّ يسوع هو المسيح ابن الله ولكي تكون لكم إذا آمنتم حياة باسمه‘. هذا التقليد الكنسي ـ أو التقليد المقدس ـ ليس حكرًا على الكنيسة القبطية، والأب فرانسوا بالتأكيد يؤيدني في قولي هذا.”
فابتسم الأب فرانسوا وأومأ موافقا، ثم قال:
“لست أبتغي أن أحوّل هذه الجلسة اللطيفة إلى درس في العقيدة. ’التقليد المقدس‘ تعبير لاهوتي يستخدم في بعض الكنائس المسيحية، قد ظهر في الأساس في تراث الكنيستين الكاثوليكية الرومانية، والأرثوذكسية الشرقية، للإشارة إلى القواعد الأساسية للسلطة الكنسية. فتُدوَّن تعاليم النصوص المقدسة في ’الكتاب المقدس‘، ويتم تناقلها، ليس فقط بالكتابة، ولكن أيضًا بحياة آبائنا الأولين، الذين عاشوا بحسب هذه التعاليم. وليس من اللازم أن تكتب تعاليم ’التقليد‘، وإنما من الممكن أن يحيا بها المرء، ثم تسلمها الأرواح التي عاشت وفقا لها، لأرواح أناس آخرين، عاصروهم، واحتذوا بمثالهم، وذلك وفقا لقدوة السيد المسيح للرسل، أو تلاميذه، تماما كما علّمنا الإنجيل المقدس، وكما تفضَّل الأب إسطفانوس فشرح من قبل.”
جلس أبونا إسطفانوس إلى جوار حودة، ليرشده إلى طريق البحيرة، ومكثنا صامتين في انتظار معاينة الأعجوبة المعجزة، التي قامت بها العذراء مريم بحسب قصة الراهب الشاب.
بعد لحظات، وصلنا إلى البقعة التي أشار إليها الراهب، فنزلنا من السيارة، وسبقنا أمير إلى رفع شربة ماء من النبع المتدفق وسط المياه المالحة، فشرب منه متعجبا من عذوبته. تبعه زياد، ثم حودة، وأفرغت الأخت ماري زجاجة مياه كانت معنا، ثم ملأتها من النبع، فشربت منها، ثم عرضت على سيسي أن تحتسي بقيتها. أنفت سيسي أن تفعل، ولكن لكي لا تشعرها بتأنيب ما، أخذت الزجاجة، وأفرغت بعض الماء في كفها، ثم خلعت عنها نظارتها السوداء، وغسلت عينيها بمياه البركة، وقالت:
“لقد قلت لنا، أيها الأب إسطفانوس، إن مياه هذه البِركة تشفي الأبدان. ها أنا أنتظر المعجزة التي تبشّر بها، فيذهب عني العمى الذي اعتراني منذ طفولتي!”
رد عليها الراهب قائلا:
“فقط آمني، فيكون لك حسب إيمانك. الكتاب المقدس يقول: ’لو كان لكم إيمان مثل حبة خردل لكنتم تقولون لهذا الجبل: انتقل من هنا إلى هناك، فينتقل. ولا يكون شيء غير ممكن لديكم.‘ اطلبي من الله بإيمان، فتتحقق معجزاته في حياتك، ولتكن مشيئته.”
شرب الأب فرانسوا من النبع الحلو أيضا، ثم علَّق متعجبا:
“مياه عذبة، تنبع وسط بحيرة مالحة، ومعجزة للسيدة العذراء تناقل خبرها الآباء عبر الأجيال، ولا يعرف العالم عنها شيئا! عجبت لكم أيها المصريين! يبدو أنّ فيض المعجزات الذي حباكم الرب به، قد أصابكم بتخمة روحية، فصرتم لا تدركون من بعدها مقداره.”
عقب أمير على الفور:
“هذا حقيقي، فالمصريون يعيشون وسط سلسلة من المعجزات والأعاجيب. فلا يكاد أن يمر عام، حتى نسمع عن ظهور للسيدة العذراء بواحدة من الكنائس، أو عن أيقونة فوق حائط بغرفة ما، تنضح بزيت لا ندرك كنهه. كما نسمع هنا وهناك عن معجزات شفاء، أو عن أموال تظهر فجأة فتعول أرملة وعيالها، أو مسنّ يؤتى إليه بدواء لم يملك ثمنه. بل إن استمرارية عيش سواد المصريين، تعد للمتأمل فيها بمثابة الأعجوبة، في ظل ظروف الحياة التي يمرون بها، مع مطلع كل شمس. لكنّ معجزة المعجزات التي نرجوها الآن، هي الوصول إلى مكان كانديد خلال رحلتنا اليوم!”
كان الراهب ينصت باهتمام إلى كلمات أمير. ولمَّا انتهى، سأل متحيِّرا:
“ماذا تقصد بمعجزة الوصول إلى مكان كانديد، وأين يقع هذا المكان؟”
ضحكنا بالطبع من سؤاله. لكنّ الأب فرانسوا تدارك الأمر، خشية أن يذهب الاعتقاد بالراهب إلى أننا نسخر منه، فقال موجها كلماته إليه:
” أرجوك لا تؤاخذنا أيها الأب إسطفانوس، فنحن كنا نضحك من أنفسنا، فالمثل الفرنسي يقول: ’ الضحكة تعقب سوء حظ الآخرين‘. أقصد أننا نسخر من فشلنا في العثور على ’ كانديد‘، وهو ـ بالمناسبة ـ شخص وليس مكانا يا صديقي العزيز.”
فأيدتُ كلامه وقلتُ:
“كالمثل الشائع عندنا يا أبونا: ’شر البلية ما يضحك!”
عدنا إلى الدير، حيث باركنا الأب إسطفانوس، من بعد أن شرح لحودة الطريق إلى دير “الأنبا بيشوي”، الذي لم يكن يبعد أكثر من مرمى حجر عن دير السريان.
بالفعل، وصلنا في غضون دقائق معدودات. ومرة ثانية، استقبلنا عند البوابة راهب شيخ، خشن السمات، رحّب بنا في ود. لم يبغِ أمير الإطالة، فسأله مباشرة:
“صباح الخير يا أبونا، هل زار الدير أجانب اليوم؟”
فردّ الراهب بصوت واهن:
“بالأمس زارنا أجانب بالفعل. لكن اليوم، منذ الساعة الثامنة، عندما استلمت البوابة، لم يدخل الدير أيّ زوار أجانب.”
شكره أمير، ثم التفت نحونا، وهو يترجم ما قاله الشيخ لتوه.
فقال الأب فرانسوا:
“ليس من الممكن أن يكونوا جاؤوا بالأمس، لأنني تسلمت خطاب سوزان الذي كتبته عند المساء، وقالت فيه إنهم سيأتون إلى الدير في الصباح. وبما أنه لم يأت أجانب اليوم، فالأرجح هو أننا سبقناهم إلى هنا. أنا أقترح أن ندخل إلى الدير، فننتظر وصولهم إليه.”
لاقى رأيه استحسان الجميع، ما عدا أمير بالطبع. فهو لم يقنع أبدا ـ منذ عرفته ـ بانتظار الآتي وترقب وصول كانديد، بل كان مرضه يدفعه دفعا لينشد التحرك، وملاحقة الزمن، بإلحاح قهري، يستحوذ على كيانه وماهيته في أغلب الأحيان. لكنه بدا على أيّ حال أهدأ من عهدي به، فاستفسرت منه عن ذلك هامسا، بينما كنا في الطريق إلى داخل الدير. فنظر نحوي متبسما، وقال:
“لست أدري، ولكنني أشعر بالهدوء نفسه الذي أحسست به قبل سنوات، قبل تخرجي من الجامعة، حين اصطحبني أبي ـ رحمه الله ـ في رحلة طويلة، تلاقيت بعدها بأبونا إيليا، الراهب بدير السيدة العذراء بأسيوط. لست أجد تفسيرا، ولكنني أشعر هنا أني قريب من الله!”
بالفعل، مرقنا إلى داخل أسوار الدير، وكالعادة اصطحبنا واحد من الرهبان إلى جولة سريعة، أشار خلالها إلى أعلى، إلى جسر صغير يقع ما بين مبنيين قديمين، فشرح أنّ الرهبان كانوا يستخدمونه، في العهود القديمة، ملاذا من اللصوص المغيرين على الدير، فيهرع الرهبان إلى المبني الثاني، ثم يخلعون مفصلة تربط الجسر به، فيسقط، فلا يقدر المعتدون على اللحاق بهم. ثم أخذنا إلى المضيَّفة، التي كانت غرفة واسعة في مبنى بدا كأنه حديث البناء. ثم انصرف الراهب المائل إلى البدانة، الذي يدعى “أبونا جرجس”، وعاد بأكواب الشاي، وسندويتشات فول، اعتذر عنها الراهب الشاب متضاحكا بخجل، متعللا بصوم الرسل الذي كنَّا في أواخر أيامه. وقد استغربَ الأب فرانسوا وسيسي من هذه السندويتشات في البداية، لكنهما ما لبثا أن استساغاها بعد ذلك.
اصطحبنا أبونا جرجس ذو الوجه الأبيض البشوش، واللحية البنية المائلة إلى الحمرة، بعد فراغنا من الأكل، إلى زيارة أطول لأنحاء الدير. أخذنا إلى كنيسة أثرية قال إنها شيِّدت في القرن الخامس الميلادي، مزدانة بأيقونات عتيقة للسيدة العذراء ورسل السيد المسيح. لاحظت السقف المقبب، الذي يضفي على الجو تكييفا طبيعيّا، فشرحت لسيسي التي أيدتني مؤكدة أنها شعرت بكون الكنيسة ألطف حرارة من الطرقات خارجها.
ثم صحبنا الراهب إلى صومعة “القديس بيشوي”، الذي سمّي الدير على اسمه. في الطريق، حكى لنا قصته الشهيرة بينما كانت حرارة الشمس تلهبنا؛ فقد شهد أحد رهبان القرن الرابع الميلادي رؤيا تفيد باعتزام السيد المسيح الظهور له عند الفجر، فوق قمة هضبة قريبة مرتفعة. فأعلن الراهب رؤيته على بقية الرهبان، فتسارعوا يتسلقون الطريق الوعر، المؤدي إلى أعلى التل، للتواجد هناك، حين يتجلى السيد المسيح. عند مستهل الطريق، كان ثمة راهب شيخ قاعدا هناك، يترجى كل راهب يمر به أن يحمله إلى أعلى التل الذي فشل في أن يتسلقه بمفرده. لكن أيًّا من الرهبان لم يقبل حمل الشيخ لصعوبة الخطب، وخشية أن يعيقه ذاك عن بلوغ القمة، والتمتع بلقيا المسيح المتجلي. ثم مر به القديس بيشوي، فَرَقَّ لحاله، وبالرغم من تقدم العمر به، فقد قرر أن يحمل الشيخ فوق ظهره فيصعد به إلى أعلى التل، مشفقا أن تفوته رؤية الظهور المقدس. وبصعوبة شديدة فعلا، وصل القديس إلى قمة الهضبة المرتفعة، حاملًا الشيخ فوقه. لكن النهار كان قد بزغ، فتساءل وهو بين الرهبان إن كان فاتهما تجلِّي السيد المسيح. أعلمه بقية الرهبان بأنه لم يتجلَّ بعد، فأدار الراهب الشيخ رأسه، ليُطمئن الراهب الآخر الذي كان يحمله، فإذا به يختفي في الحال. أدركوا عندها أنّ الراهب المسنّ لم يكن سوى السيد المسيح ذاته، الذي ظهر في صورة راهب عجوز، تجلّى لشخص القديس بيشوي دونَ بقية الرهبان، لأنه وافق أن يتكبد عناء حمله فوق ظهره إلى أعلى التل. ثم تأكد القديس بيشوي بنفسه بعدها، حين ظهر له السيد المسيح يوم خميس العهد، فأذن للقديس أن يقوم بغسل قدميه، كما فعل هو مع تلاميذه قبل أن يأكلوا الفصح معا للمرة الأخيرة، قبل الصلب والقيامة.
في داخل صومعته، تدلى حبل من السقف، عند منتصف الحجرة الضيقة. أعلمنا أبونا جرجس بأن القديس بيشوي كان يشتهي أن يمضي الليل بطوله ساهرا يصلي، وأنه كان يربط شعر رأسه بالحبل، حتى إذا ثقلت عيناه، وغلبه النعاس، فخرَّ رأسُه، يجذب الحبلُ شعرَه، فيستيقظ، ويعاود الصلاة.
عدنا بعدها إلى المضيَّفة، في حين مضى أمير وزياد، قاصديْن البوابة ليستعلما عن احتمال أن يكون كانديد قد وصل، أثناء انشغالنا بالجولة حول أنحاء الدير. عاد الرجلان إلينا، نافيين وصول أيّ أجانب إلى الدير. لم يكتف أمير بزيارة واحدة للبوابة، بل طفق يروح ويجيء كل نصف ساعة تقريبا، رغم الحر الشديد.
علقت سيسي قائلة للأب فرانسوا:
“ذاك الفيض من المعجزات! هل لي أن أطمع في معجزة تخصني أنا أيضا؟ هل أطمح في أن أبصر من جديد، أيها الأب الورع؟”
فرد الأب فرانسوا على الفور:
“غير المستطاع عند الناس مستطاع عند الله. هكذا كلم السيد المسيح تلميذَه بطرس، في إنجيل القديس لوقا، يا ابنتي.”
تساءلت في نفسي إن كان أبونا جرجس، الراهب الشاب المنوط بخدمتنا هذا، يصلح ـ من وجهة نظر كانديد ـ أن يُعد ضمن “المؤمنين الحقيقيين”، أولئك الذين ما فتئ يستفسر عنهم على الدوام بين كل من لاقاهم.