للحق، كان استقبال ضابط الجوازات لنا، في مطار القاهرة، لا يقل حفاوة عن المعاملة التي اختبرناها في روما. وخلال لحظات معدودة، كنا التقطنا حقائبنا، من فوق السير الكهربائي، وصرنا خارج المطار.
صدمتنا رياح ساخنة، محملة بالغبار، وبرائحة عوادم السيارات، عند الرصيف، حيث اصطفت سيارات الأجرة، في انتظار الزبائن. طلبت سيارة كبيرة تتسع لخمسة أفراد وخمس حقائب، فأتوا لنا بحافلة صغيرة، مثل تلك التي أقلتنا إلى مطار روما. قال لي السائق:
“مائتي جنيها..”
فرددت بسرعة:
“بل مائة جنيه، ثم أنك لم تعرف بعد إلى أين ستأخذنا، ربما قلت اذهب بنا إلى الإسكندرية، فهل كانت تكفيك المائتا جنيها؟ ثم إننا لسنا سائحين!”
ابتسم السائق، وهو يلقي بناظريه نحو ضابط المرور الذي كان يرمقه عن بعد. ثم قال بعد تردد:
“إلى أين العزم؟”
“وسط البلد، شارع كلوت بك، مدرسة الراهبات هناك.”
“لا توجد مدرسة بشارع كلوت بك!”
“إذن فربما هو دير للراهبات!”
“ولا دير! ألم تذهب لشارع كلوت بك من قبل، يا حاج؟”
“اذهب بنا إلى هناك، ينوبك ثواب، ثم نسأل حين نصل..”
وبالفعل ترصصنا بداخل السيارة، لكنّ تكييف الهواء لم يكن يعمل، ففتحنا زجاج نوافذ الحافلة، بينما كانت تمرق بنا بين جحافل المركبات. جلس الأب فرانسوا في المقدمة، إلى جانب السائق، وصار يتراقص، مع كل انحراف يصدر عن العربة، وهي تتعارج بين أرتال السيارات المتدفقة. وكلما اقتربنا من قلب القاهرة، قلّت سرعة العربة، وقلّ الهواء الآتي من الطاقات المفتوحة. سألتني سيسي وهي تتمايل بجذعها من ناحية إلى أخرى:
“هل جن السائق، وإلا فلماذا يقود العربة بمثل هذه السرعة، كأنها سيارة إسعاف! ثم ما تلك الرائحة؟ هل نمر خلال مزارع، أو شيء من هذا القبيل، أشم رائحة روث!”
التفت الأب فرانسوا، إذ استمع لتساؤلها، فرد بالإنجليزية، لكن بلكنته الفرنسية المحبوبة:
“لا يا سيسي، نحن نعبر أكثر الشوارع امتلاء على سطح كوكبنا، والسرعة لم تتجاوز ستين كيلومترا في الساعة، هذا إن وصلت إلى هذه السرعة أصلا. لكنّ السائق لم يلتزم بحارات الطريق، ولو لمرة واحدة. كما أنّ أحصنة، وحميرًا كانت تشاركنا الطريق، بل وأبصرت جملًا كذلك، مما يفسر رائحة الروث التي شممتِها!”
خلال نحو ساعة، وصلنا إلى شارع كلوت بك.
الشارع الضيق المزدحم، لم يوح فعلا بوجود دير أو مدرسة به، لكنّ السائق توقف أمام دكان صغير، جلس صاحبه الشيخ أمامه يدخن النارجيلة، فسأله. أشار الشيخ وهو ينفث دخانه حول كلماته:
“يمين.. قدام.. درب رياش.. جنب ’صيدناوي‘.. لكنها قفلَت.. ثم سحب نفسا جديدا!”
وبالفعل وصلنا إلى المدرسة المهجورة، التي علمنا بأنها أغلقت أبوابها، فلم تعد تستقبل تلاميذ.
على أيّ حال، نزلت، أنا وأمير والأب فرانسوا، بينما بقيت سيسي في العربة، بصحبة زياد والسائق. طرق أمير الباب الخشبي، لكنّ أحدا لم يفتح. أعاد الخبط بقوة هذه المرة، وبعد عدة دقائق، انفتح الباب، وأطل وجه امرأة متوسطة السن، محجبة الرأس.
“أيّ خدمة؟” قالت المرأة بصوت خفيض.
فأجاب أمير بسرعة:
“نحن نبحث عن الأخت ماري حِنـَّة..”
“ومن أقول لها أنكم تكونون؟”
“نحن من طرف الفاتيكان، أقصد الأب جان لوي فرانسوا من طرف المطران فالليني بروما..”
“أرجوك انتظروا لدقائق.”
ثم دخلت، وأغلقت الباب من ورائها.
بعد لحظات، انفتح الباب من جديد، وخرجت امرأة جديدة، أصغر قليلا من المرأة الأولى، سمراء البشرة، بشوشة الوجه، جميلة القسمات. قابلتنا بابتسامة عريضة، وهي تمد يدها لتسلِّم على الأب فرانسوا بحرارة، وكأنها تعرفه. وبدوره، اغتبط هو حتى أنه مد يسراه ليهز كف الراهبة بكلتا يديه، وهو يقدم نفسه ـ بصعوبة ـ باللغة الإنجليزية:
“الأب جان لوي فرانسوا من أبرشية باريس، تحت رئاسة المطران قداسة الأب ’أندريه الثالث والعشرين‘ راعيها ومرشدها، أطال الرب في خدمته المباركة.”
فردت الراهبة على الفور بالفرنسية:
“مرحبًا بك في القاهرة، أيها الأب الموقر. لقد اتصل بي المكتب البابوي، وأعلموني بقدوم قدسكم.”
مال أمير برأسه نحوي، وترجم لي كلماتها. ثم بادر فسألها باللغة الفرنسية أيضًا:
“وهل أعلموك أيتها الأخت المباركة، عن قدوم شخص آخر، يدعى كانديد، يا ترى؟”
فردت بدون تردد:
“بالطبع، وقد وصلوا قبلكم، هو وعائلته، وساعدتهم في الحصول على غرف بفندق ’شيراتون النيل‘ ليلة أمس.”
فنظر أمير إلى الأب فرانسوا، مستحثًا إياه أن يلتقط الخيط، ففهم رسالته وعقب:
“هل لكِ أن تساعدينا في الحصول على غرف بالفندق نفسه أيضًا. لقد وصلنا لتوّنا إلى القاهرة، والمركبة التي استأجرناها ما تزال تنتظرنا بالشارع، كما ترين.”
ثم أشار نحو العربة.
ردت الأخت ماري حِنـَّة:
“بدون شك، اسبقوني إلى السيارة، وسوف أطلب الإذن، وألحق بكم على الفور.”
حين عدنا إلى العربة، وجدنا السائق متذمرا من تعطله وهو ينتظرنا. جلست في المقدمة بجانبه، وأومأت إليه مبتسما، ثم قلت:
“سوف توصلنا إلى فندق ’شيراتون النيل‘، ولك مني المائتي جنيها التي طلبتها كاملة. فقط، انتظر قليلًا حتى تلحق بنا راهبة من هنا. لم تقل لي، ما اسمك؟”
“اسمي حودة، يا باشا!”
“اسمك الأصلي حودة ولا محمود؟”
“لا، بل حودة..”
شرح أمير لزياد وسيسي ما كان من أمر لقائنا بالأخت ماري حِنـَّة، ثم علق متأثرا:
“مما يعني أننا في خلال دقائق، سوف نلقى صديقنا كانديد بالقاهرة، بعدما طفنا العالم من شرقه إلى غربه، ونحن نبحث عنه!”
وبعفوية علَّق حودة السائق، وهو يصفق بكلتا يديه:
“الله أكبر! كانديد باشا بنفسه شرّفنا في مصر!”
ثم التفت نحوي متسائلًا بصوت خفيض، كأنه لا يبتغي الإعلان عن جهله بتلك الشخصية المرموقة:
“أهو لاعب كرة شهير، أم ممثل عالمي؟ فكلهم يحبون مصر والأهرامات كثيرا!”
التفتُّ نحو سيسي لأترجم لها، وكذلك سمعني الأب فرانسوا، فانفجرنا مقهقهين، وانتشرت البشاشة فملأت العربة كلها، وشملت حودة أيضا.
بعد أن انسابت موجة الضحك، قلت لحودة:
“لا هو لاعب ولا ممثل؛ كانديد رجل صادق، جاء من آخر الدنيا ليبشّر بالحب بين الناس!”
فرد حودة على الفور:
“أعوذ بالله! هذا فسق يا عم الحاج!”
“ليس الحب كما تخيلتَه يا حودة، بل هو محبة وتآخ!”
فاطمأن حودة وانفرجت أساريره مجددا. وهنا جاءت الأخت ماري، ففتحت باب العربة وصعدت وجلست إلى جوار سيسي، ثم قالت للسائق أن يتجه بنا إلى الفندق.
وفيما كانت العربة تتهادى في شوارع القاهرة المكتظة، تتوقف كثيرا، وتسير قليلا، ملت إلى حودة أسأله:
“ما رأيك أن تلازمنا خلال زيارتنا كلها، من الصباح حتى المساء؟”
“عيناي لك يا باشا!”
اتفقت معه على السعر، وحذرته من عاقبة التراخي في الأداء. كما نبهته إلى احتمالات السفر الطويل إلى خارج القاهرة.
درت بجذعي إلى الخلف موجها كلامي إلى الأب فرانسوا:
“اتفقت مع السائق على مرافقتنا الدائمة، في مقابل مبلغ معقول، ما رأيك؟”
“رائع!” قالها والابتسامة العريضة تعلو صفحة وجهه.
في الفندق حجزنا أربع غُرف، بالطابق الثاني والعشرين. شاركت أمير في غرفة، بينما سكن الأب فرانسوا، وسيسي، وزياد في حجرات مستقلة. تأكدنا من وصول الكل إلى غرفهم، وساعدَت الأختُ ماري، سيسي، على التأقلم مع أثاث غرفتها. اتفقنا على التلاقي بالمطعم، بعد نصف ساعة. أوّل ما فعلناه حين دلفنا إلى الحجرة الخاصة بنا، هو الولوج إلى الشرفة الصغيرة الملحقة، والاستمتاع لدقائق بمنظر النيل الخلاب، من ذاك الارتفاع الشاهق. اغتسلنا في عجالة، ثم انطلقنا إلى المطعم بالطابق الثاني. داخل المصعد، نظر أمير إليَّ والبهجة تشرق من عينيه وهو يقول:
“أنا لا أكاد أصدق عودتنا إلى مصر. بل وقرب لقائنا المرتقب بكانديد هنا! هل تتخيل احتمال أن نجده يتعشى معنا في المطعم، بعد دقائق من الآن؟”
كنا أوّل الوصول. جلنا بأرجاء المكان طبعا، باحثين عن كانديد. ثم اخترنا منضدة عريضة مقابلة للنافذة المطلة على النيل، أو بالحري على طريق الكورنيش المكتظ، الموازي للنهر العظيم. خلال دقائق توافد الباقون، فجلس الأب فرانسوا بجوار أمير من ناحية، وزياد من الناحية الأخرى، بينما اتخذت المرأتان المقعدين إلى جواري.
شرع الأب فرانسوا يتحدث بالفرنسية إلى ربيبيه المجاورَين، فقال وناظراه مشدودان عبر النافذة الزجاجية العملاقة، نحو نهر النيل، وحركة العربات والناس أمامه:
“أوه! ذا النهر الأزلي، الغامر، الذي تبصره عيوننا الآن! أيمكنكم التخيل بسريان هذا الشريان بجسد هذه الأرض الطيبة، منذ آلاف السنين! تجري مياهه بالرتابة الأزلية نفسها، ثم تذهب بعيدا ولا تعود أبدا. والناس من حوله ـ مثلنا تماما ـ يعاينونه لحظات، أو أياما وسنينا، ولكنهم يذوون كذلك، ثم يرحلون، ثم يأتي أناس غيرهم، ملايين تجيء ثم تذهب. إنما تلك الأرض هي الأرض، لم تتغير، وذاك النهر هو النهر؛ النيل الخالد، لم يتحول لآلاف السنين، لم يتبدل، ولن يتبدل إلى الأبد!”
فوجئنا بامرأة أجنبية، تأتي إلى منضدتنا، تشتعل عيناها الزرقاوان دهشة، ومع ذلك فها هي تبتسم خجِلة، بينما ترفع عن وجهها خصلة من شعرها الأسود الناعم، ثم تقول بالفرنسية:
“عذرا! لم أتمكن من الامتناع عن التنصت إلى حديثكم بالفرنسية، فتوقفت، وكنت آتي ببعض القهوة إلى منضدتي، إذ انتظرت كثيرا حتى يأتي لي النادل بالمزيد من القهوة، ولكنه لم يأت! أوه، القهوة هنا رائعة! عفوا، فأنا لم أقدم نفسي، يا للوقاحة! اسمي سوزان لاكروشيي، وأنا موفدة من جامعة باريس إلى مصر، لدراسة الأقليات الدينية هنا، وهو موضوع فرعي لرسالة الدكتوراه التي أعدها عن الأقليات في الشرق الأوسط. لكنني لم أسمع أحدا يتحدث الفرنسية، بتلك اللهجة الباريسية، منذ أكثر من عام الآن، فاعذروني على تطفلي!”
هب الأب فرانسوا واقفا، ومد يده نحو المرأة ليسلم عليها، ثم أحنى رأسه قليلا وهو يقول محييا:
“وأنا الأب جان لوي فرانسوا أحد رعاة ’كاتدرائية ساكريكير‘ بباريس. وهؤلاء أصدقائي من بودابست، وبيروت، والإسكندرية. ولكنك لم تقولي لنا، ماذا تفعلين هنا في الفندق، هل ترسل جامعة باريس طلابها للإقامة بـ ’شيراتون‘ هذه الأيام؟”
فانطلقت السيدة مقهقهة، وهي تميل بجذعها النحيل إلى الخلف، حتى كاد فنجان قهوتها أن يندلق، ثم قالت:
“معك كل الحق أيها الأب فرانسوا، وأهنئك على قوة ملاحظتك أيضا. في الحقيقة أنا أقيم في شقة متواضعة جدا بوسط المدينة. لكنني تلقيت مكالمة تليفونية بالأمس، من ملحقنا الثقافي بالسفارة الفرنسية هنا، أعلمني خلالها بأنّ ثمّة سائحا فرنسيا يطلب معلومات عن الرهبان الأرثوذوكس في مصر. وبالفعل اختاروني حتى أمدُّه بتلك المعلومات، لمَّا أدركوا أنها في صميم تخصصي. لكن العجيب في الأمر، أنّ الملحق قال لي إنّ الرجل الفرنسي صاحب الطلب اسمه كانديد فولتير، وهو أحد نزلاء الفندق هذا!”
صمتت قليلًا وهي تضحك بموسيقية محبّبة، ثم راحت تكمل:
“ألا توافقني على أنّ في المسألة لغزا يا عزيزي؟ كانديد فولتير؟ مما دفعني إلى الاستفسار أكثر من الملحق الثقافي الذي رد ببرود قائلًا إن تلك كانت المعلومات لديه، وقد تلقتها عنه السكرتيرة، قبل حضوره إلى السفارة. لكنني أتيت على أيّ حال في الصباح، وسألت عن كانديد هذا في مكتب الاستقبال، ولدهشتي وجد الموظف بالفعل نزيلًا يحمل الاسم نفسه ، وإن لم يبد تعجبه من تشابه الأسماء مع الشخصية الروائية المعروفة التي ظهر وكأنه لم يسمع بها من الأصل. على كل، لقد أعلمني الموظف بمغادرة كانديد الفندق قبل مجيئي، إذ سأله في وقت سابق عن كيفية الذهاب إلى المتحف المصري. وعلى الفور، تركت الفندق، واتجهت إلى المتحف المصري، إذ كنت في حاجة على أيّ حال، إلى رؤية بعض الأعمال الخاصة بدراستي. لكنني انتهيت، بعد مرور ساعتين، إلى الاقتناع بأنني لن أفلح في العثور على شخص ما، لمجرد أن اسمه كانديد فولتير، في حين أنني لا أعرف شكله! وفعلًا، عدت من جديد لأنتظر وصول فخامته، عبر رحلته التاريخية من القرن الثامن عشر إلى هنا!”
ثم عزفت قهقهَتها مجددا، وهي ترفع كفها اليسرى لتغطي به ثغرها الضاحك.
بالطبع كان لكلامها موقع السحر على أمير وزياد، ثم بقيَّتنا، حين انتهى الأخير من ترجمة ما قالته إلى اللغة الإنجليزية. فبادر أمير، وهبّ ليسحب مقعدا خاليا من منضدة مجاورة، ثم دعاها إلى أن تجالسنا، معلِما إياها بأننا ننتظر كانديد فولتير مثلها.
أبدت سوزان اندهاشها من معرفتنا بكانديد، فاستجابت على الفور لدعوتنا إياها إلى مجالستنا. اغتنمت سيسي الفرصة، فقررت المشاركة في الحديث، فبادرت من وراء نظارتها السوداء، إلى شرح قصتها من بعد لقائنا بها أمام الفندق ببودابست، ثم سفرتنا، ورؤيتنا المقتضبة لكانديد في المعبد اليهودي في براج. ثم قصت عليها تعقبنا إياه، إلى فيينا، ثم رحيلنا إلى ألمانيا حيث شهدته “نادية خوري”، المرأة السورية بائعة الكباب، في مدينة “مُنستر”. ثم حكت عن رحلتنا بعدها إلى باريس، حيث التقينا بالأب فرانسوا الذي كان قد التقى بالفعل بكانديد داخل “كاتدرائية ساكريكير”. وهنا التقط الأب فرانسوا طرف الحديث، فشرح لها ما كان من لقاء كانديد بعدها براهبة دير ” شارع دو باك”، وسؤاله إياها عن المؤمنين الحقيقيين، ذلك السؤال الذي أدى به ـ وبنا ـ إلى روما. ثم قص لها عن لقاء كانديد ـ ولقائنا ـ بالبابا فرانسوا الذي أفضى من بعده لوصولنا إلى القاهرة. وفي النهاية أضاف زياد أيضا قصة لقائه بنا في إسطنبول، وكيف تقبلنا الشيخ القوني، قبل أن نرتحل إلى بانكوك أوّلا، ثم إلى كوالالمبور ثانية، قبل أن نعود إلى أوروبا حيث لقينا مجددا عند محطة القطار بفيينا.
لم تعلق السيدة سوزان ولو بكلمة، أثناء ذاك السيل المنهمر من التفصيلات الآتية من كل صوب تجاهها. كانت تلك التفصيلات تحكي عن تتبع أشخاص، بدوا لها في كامل قواهم العقلية، ذوي خلفيات ثقافية وأصول متعددة، ومع ذلك فهم يروون بكل جدية، وبدون أيّ شبهة سخرية، أو استهزاء بقدراتها العقلية، ورغم كل ذلك، فهم يحكون عن رحلة وهمية، طافوا خلالها بشتى ربوع الأرض، سعيا وراء شخصية خيالية، هي في الأصل بطل لرواية أسطورية، اخترعها في القرن الثامن عشر الروائي الفرنسي الساخر فولتير، والتي درستها بصفوف مدرستها قبل سنوات، ضمن العديد من الكتابات التاريخية من الأدب الفرنسي والعالمي. انقلبت ضحكاتها المجلجلة التي بادرتنا بها أولا، إلى نظرات شك وريبة باتت تلقيها إلى كل منَّا، وكأنها تنتظر أن يعلن أحدنا، في أيّ لحظة، عن كون الأمر مقلبا أو دعابة اختلقناها باتفاق مسبق بيننا، قبل أن نلتقي بها.
بالطبع، لم يحدث هذا، بل أشار الأب فرانسوا نحونا ـ أمير وأنا ـ وهو يعلن:
“في الحقيقة، الفضل في وصولنا إلى ما وصلنا إليه، يعود إلى هذين الرجلين. فهما اللذان آمنا بفكرة سامية، ولم يدّخرا الجهد ولا العزيمة من أجل تحقيقها.”
وهنا بدأت سوزان تستعيد جأشها، من بعد إدراكها جدية المسألة المطروحة، فسألت:
“لكن يا أبي، مسألة البحث عن شخصية روائية، كيف تعقلون هذا الأمر؟ كيف؟ ألا يمكن أن يكون هذا الشخص ـ مثلًا ـ مدَّعيا أو منتحلا للشخصية الروائية الشهيرة؟”
فرد الأب فرانسوا:
” بدا لي الأمر على هذا النحو أنا أيضا، ولكني تقابلت معه وجها لوجه يا عزيزتي. الرجل يتحدث عن أشياء، ويسأل سؤالات كشخص لا يمتّ لهذا العالم الذي نسكنه بصلة. ومظهره، وحتى بقية الأشخاص من حوله، ليدي كوناجوند، وبروفيسور بانجلوس، و…”
فقاطعته سوزان على الفور، ضاحكة:
“ليدي كوناجوند، وبروفيسور بانجلوس أيضًا شرّفانا بالحضور!”
“بل وحتى أخوها البارون، وكاكامبو أيضا! لقد تقابلوا برمتهم أمام أعيننا، مع قداسة البابا في الفاتيكان!”
أطرقت سوزان صامتة، وهي ترشف من فنجان قهوتها، لعل الأمور تستقيم في ذهنها بعض الشيء.
البحث عن كانديد: الجزء الخامس عشر، الفصل الرابع عشر