انتظرنا أمام البوابة الخشبية الموصدة، المطلّة على ساحة القديس بطرس، وقد خلت من الجمهرة التي كانت تعج بها قبل نحو ساعة زمن. وقف أربعتنا ذاهلين من تأثير لقائنا بالبابا فرانسيس. كم كانت بساطته وهو يلقانا، نحن الغرباء عنه، وهو رئيس الكنيسة الكاثوليكية جمعاء، أكبر مؤسسة دينية في العالم، وهو الذي يتلاقى مع رؤساء الدول وملوكها.
من منَّا كان يحلم بمثل ذلك اللقاء، ونحن نغادر الإسكندرية، ونطير وراء حلم، أو فكرة عجيبة طرأت لهذا الأمير الذي يقف أمامي الآن مضطربة نظراته، متهيجة قسماته، حتى شعر رأسه انتصب كالقنفذ، من بعد أن فشلنا ـ مرة أخرى ـ في العثور على ضالتنا المنشودة. وبالفعل، لم تمض سوى لحظات حتى انفجر أمير صائحًا:
“ما معنى كل هذا؟ لماذا تبحث عن الحيّ بين الأموات؟ نحن ما جئنا إلى هنا إلا لنعثر على الحيَّ بين الأحياء! ووجدناه بالفعل، وأبصرناه جميعا، واقفا بالشرفة، إلى جوار البابا، وإلى جانبه كانت ليدي كوناجوند. ثم ماذا؟ صعدنا إلى الغرفة ذاتها التي تطل منها الشرفة، خلال لحظات. ثم اختفى كانديد، وليدي كوناجوند، وبقي البابا المعظم ليسألنا: لماذا تبحث عن الحيّ بين الأموات؟ هل يتفضل أحدكم بتفسير ما حدث؟ توشك رأسي أن تنفجر!”
“اهدأ يا أمير، أرجوك!” أجبته مشفقا.
وهنا انفتحت البوابة، وخرج الأب فرانسوا منها، وقد اعتلت وجهه ابتسامة رائعة. لاحظ على الفور اضطراب أمير، ولم تكن حالة زياد أفضل بكثير، فبادر قائلًا:
“لقد تقابلت مع المطران “فالليني”، الذي بقي بالغرفة العلوية، من بعد انصراف قداسة البابا ليعتكف. فسارعت بسؤاله عن كانديد. فأجاب بأنه تركه بصحبة قداسة البابا، بعد انتهائه من الصلاة. وقال إنه حضر إلى الساحة ليأتي بنا، ثم إنه كان بصحبتنا حين صعدنا إلى الغرفة، حيث فوجئ مثلنا باختفائه عن الحجرة حين عاد إليها. ولكنه دعاني إلى أن أنتظر، بينما خرج هو ليسأل السكرتارية، لعل أحدهم ينبئنا بالخبر اليقين. وفعلًا عاد بعد برهة، ليخبرني بأن قداسة البابا اقترح على كانديد الذهاب إلى صحارى مصر، حيث الأديرة العتيقة التي أعلمه بأنّ مؤسسها الأول هو الراهب المصري الأنبا أنطونيوس، منشئ نظام الرهبنة في العالم أجمع، فربما وجد هناك ضالته من المؤمنين بحق.
طلبت منه الإذن بالسفر إلى مصر، فوافق قداسته على الفور، وأشار بأن أتوجه إلى دير راهبات مصر الفرنسيسكانيات، بحي كلوت بك، بالقاهرة، واسأل هناك عن الأخت “ماري حِنـَّة”، التي أوصى قداسة البابا كانديد بالذهاب إليها، وهي سوف تساعدنا على زيارة الأديرة المصرية، والعثور على كانديد. ثم باركني بالصلاة، وها أنا ذا جئت لأبلّغكم بما جرى.”
بوغتنا ـ بالطبع ـ بتلك الأنباء.
كانديد توجه ـ أو يستعد للتوجه ـ إلى مصر؟
أنعود بعد كل ما كان، إلى نقطة البداية في رحلة بحثنا؟ ومع ذلك فقد شعرت بنوع من الراحة، لأنني اشتقت بالفعل للعودة إلى بلدي، بعد تلك السفرة الطويلة.
لكنّ كلمات زياد نبهتني إلى أننا أصبحنا فرقة، ولم نعد ثنائيا، كما كنَّا حين تركنا مصر. فقد قال متصايحًا:
“رباه! كم كنت أتمنى أن أزور مصر! كانت زيارتها حلمًا لديَّ منذ أيام الصبا، وها أنا أزورها برفقة أصدقاء، بل إخوة لم أكن أحلم بصحبتهم إليها!”
وعقبت سيسي، التي كانت التزمت الصمت لوقت طويل:
“بالفعل، زيارة مصر أمل راودني أنا أيضا، ولكني لم أتوقع أن يتحقق. أما الآن، فأنا على أتم الاستعداد لأن أستنفد كل ما أملك، حتى أذهب إليها بصحبتكم!”
لكنّ الأب فرانسوا أعلن بثقة، والغبطة تكاد تقفز من بين شفتيه:
“لا يا سيسي، واسمحي لي أن أدعوكِ هكذا بلا ألقاب، لكن هذه الرحلة ستتكلف بها الكنيسة. أنتم ضيوفنا من الآن فصاعد، ومكتب قداسة البابا بصدد حجز تذاكر السفر بينما نحن نتحادث الآن، لكنني أرجو أن تسلّموني جوازات السفر، لكي يتم استخراج تأشيرات الدخول عبر السفارة المصرية هنا.”
وبالفعل، أعطيناه جوازات السفر، فعاد واختفى من جديد عبر البوابة الخشبية، ولبثنا نحن في الساحة الخالية، منتظرين عودته.
كانت عيناي معلقتين بأمير، متابعتين ردود أفعاله، إذ كنت أدرك بحكم العشرة الطويلة، تأثير تلك التغييرات المباغتة فيه. كنت أشفق من أن تجلب إليه نوبة من نوباته المجنونة. لكن لحسن الطالع، ظل أمير متماسكًا، بل كدت أجزم أنّ ظل فرحة ما كاد أن يلفّ به، منذ علم بقرار عودتنا لنبحث عن كانديد في مصر. ولِمَ لا، فحب أمير لبلده، لا يقل بأيّ قدر عني، وهو الذي اختبر الغربة لسنوات هاجر خلالها إلى أمريكا، ثم عاد، ليبحث فيها عن ذاته فوق أرض وطنه. بل وشارك أمير في ثورة أبنائها ضد الظلم والقمع، ولم يثنه عن مواصلة العصيان سوى توجّه المتظاهرين نحو أسلمة الحركة الشعبية حينذاك. على أيّ حال، فما فعله أمير وقتذاك، أكثر بكثير مما عملته أنا، حتى ولو كنت انشغلت بمرض ثريا، ثم رحيلها.
رجع الأب فرانسوا متهللًا وهو يعلن الانتهاء من حجز أماكننا على متن شركة “أليطاليا” بعد ظهر الغد. ثم أعلن أنّ الأب “بيدرو جيوفاني” ـ أحد الأبوين اللذين كانا بصحبتنا في مطعم متحف الفاتيكان صباح اليوم ـ يدعونا للعشاء في مطعم عائلي بروما، متخصص في تقديم الأسماك والمأكولات البحرية، لا يرتاده سوى أهل روما، إذ ليس معروفًا للسياح الكثيرين الذين يتوافدون على المدينة. وأعلمنا بأنه عرف أنّ رئيس الطهاة هناك مصري الأصل.
ابتسمت، وأنا أرمق أمير بغمزة، معناها أن لا بد من أنه سكندري الأصل. وتبسم هو بدوره، فانتابني ارتياح لكونه قصيّا عن إحدى نوباته الخبلة.
افترقنا حتى نذهب إلى الفندق أوّلا، لنستريح قليلًا، ونبدل ثيابنا، ووعدَنا الأب فرانسوا بإرسال سيارة لتصحبنا إلى المطعم في تمام السابعة، إذ لم يكن يعرف عنوانه.
وفعلا، حضر الأب بيدرو جيوفاني في الموعد، وجلس بجوار سائق الحافلة الصغيرة، التي خاضت بنا شوارع روما المتلألئة. أما عن الأب بيدرو، فكان شابا نضرا، ممتلئا لحما وشحما وبهجة، ينضو عنها ملامحه الرائقة، وفمه البسَّام. وصلنا نحو السابعة والنصف، إلى شارع ما، في قلب العاصمة الإيطالية. استعرت حرارة الجو، وملأت رطوبته الهواء من حولنا، حتى التصقت أقمصتنا بأجسادنا، وكأننا نمرق داخل حمام بخار، بينما ترجلنا في حارات ضيقة، لا تستطيع السيارات أن تمرق عبرها، إلى أن وصلنا إلى الطعم. حين بلغناه، كانت الساعة حوالي الثامنة إلا ربعا، وكان المطعم خاويا إلا منا. لم تكن تلك علامة تنبئ بجودة الطعام الذي يقدمه، إذ لم يكن المكان مكتظًا بالزبائن، كما عهدنا. لكن استقبلنا النادل ببشاشة، وهو يدعونا إلى مائدة طويلة، عند جانب الحائط الأبعد من المدخل، بدا وكأنها معدّة خصيصًا لنا.
اتخذ كل منا مقعده، واتخذت الكرسي المجاور لسيسي. ملت إلى أذنها وهمست:
“لا يوجد في المطعم كله سوانا!”
فابتسمت، وإن لم تعقّب.
جلس الأب “بيدرو جيوفاني” إلى صدر المائدة، بينما اتخذ الأب فرانسوا المقعد المواجه، وقعد أمير وزياد بمواجهتنا ـ سيسي وأنا.
طلب الأب بيدرو زجاجتين من النبيذ الأبيض، معلقًا بأنه أكثر مواءمة للمأكولات البحرية. اندهشت حين عاد النادل بالنبيذ، وشهدت القسيسين يحتسيان النبيذ معنا. وقام أمير بسؤالهما نيابة عني:
“هل يُسمح للكهنة بشرب النبيذ هنا؟”
فضحكا معًا، ورد الأب فرانسوا قائلًا:
“النبيذ في إيطاليا، كما هو الحال في فرنسا، وكثير من البلدان الأوروبية، لا يعد مسكرا، ولا يتطلب إذنًا خاصًا لاحتسائه. فشرب النبيذ أثناء تناول وجبة العشاء بالذات، يعد مرادفا لشرب الماء عند بقية الشعوب. حتى الأطفال هنا يحتسون النبيذ مع الطعام، ثم إن القليل منه يصلح المعدة!” وقهقه ضاحكا.
سألَنا الأب بيدرو مبتسمًا عن الجو في القاهرة الآن، فأجابه أمير:
“الحرارة شبيهة بها هنا في روما، وإن كان الهواء الرطب قد يصير أحيانا محملا ببعض الغبار أيضا. وقد يحوِّل هذا المزيج، ذلك العرقَ الذي تصببناه ونحن في طريقنا إلى هنا ـ خلال المشوار القصير إلى المطعم قبل قليل ـ مع التراب، يمكنه أن يجعل ياقة عباءتك البيضاء هذه، تميل إلى السواد، فقط لا أكثر!”
فضحكنا جميعا.
سرعان ما ابتدأت العائلات تتوافد إلى المطعم، وزخرت المناضد بالزبائن تباعا، حتى امتلأت عن آخرها، نحو الساعة الثامنة، وهنا توجه النادل إلى الباب الزجاجي، فأوصده، معلنا امتناعه عن استقبال روّاد جدد.
لم نطلب أطباقا بعينها، إنما جاء النادل أوّلا بصحون شوربة الأسماك، وتركنا لدقائق. ثم أتى ومساعدوه بأطباق الجمبري المطعّمة بأوراق الريحان الطازجة، ثم صحون السباجيتي المخلوط بقطع بلح البحر المقلية. أكلناها بنهم، فلقد كان المذاق من أشهى ما مر بي، رغم كوني إسكندرانيا، اختبرت أروع مطاعم الأسماك بالثغر. دار حديث رائق أثناء تقديم مختلف صنوف الطعام، أدركنا خلاله أنّ جد الأب بيدرو جيوفاني، كان يحيا بالإسكندرية في النصف الأول من القرن الفائت، ثم عاد إلى إيطاليا في أواخر الخمسينيات. كان يحكي عن جده بودّ وحميمية، وعما رواه له من حكايات عن الإسكندرية، التي لم تنتهِ أبدا، حتى اغرورقت عيناه، وهو يروي لنا عن أيام الجد الأخيرة، حين وافته المنية في بلدته الصغيرة التي تدعى “كييتي” في شمال إيطاليا.
ثم أتى النادل، وهو يحمل فوق يسراه صينية عظيمة، وكنت أعتقد انتهاء الوجبة الشهية، فإذا به يخفض الصينية إلى مستوى عيوننا، فرأيت سمكة عملاقة، تتصاعد منها أبخرة الطهي، محاطة بقطع من البطاطس والطماطم والبقدونس والبصل. لكنّ العجيب أنّ النادل أمسك بملعقة وسكين بين أصابع يمناه، ثم صار يُخلي السمكة من قشرها وأشواكها، بينما هو يحملها بيسراه، معلقة هكذا فوق رؤوسنا. وفي خلال دقائق معدودات، كان قد انتهى من جراحته الدقيقة، ثم شرع يقدّم لنا قطع السمك المتماسكة، مع بقية الخضروات فوق أطباقنا تباعا.
وفي نهاية العشاء، قدموا لنا أطباقا من السلطة، المطعمة بقطع من المأكولات البحرية كذلك، إلا أنني ـ وكذلك أمير وسيسي ـ لم أستطع أن أمسها، إذ كانت معدتي قد امتلأت عن آخرها بكل الأطباق السابقة. أما عن الأبوين، وزياد أيضا، فاستمروا يلتهمونها إلى النهاية.
اقتربت الساعة من الحادية عشرة، ولكن من الغريب أن أحدا من الرواد حولنا لم يترك المطعم، بطول الأمسية. حتى الأطفال كانوا يجرون حول المناضد من حولنا، رغم تأخر الوقت. فهمت من الأب بيدرو، أنّ تلك كانت عادة الإيطاليين في تناول طعامهم، متمهلين، متخيرين، متذوقين، بينما هم يتجاذبون شتى الأحاديث إلى أن ينتهوا تماما، ثم ينصرفوا إلى بيوتهم.
وفي نهاية الأمسية، خرج الطباخ المصري، ليحيّينا. شكرناه بحرارة على جَودة طهيه، وبالفعل أدركنا من كلامه أنه كان إسكندريًّا مثلنا، هاجر إلى روما قبل نحو عشر سنوات.
تلقى الأب فرانسوا مكالمة هاتفية، فابتعد قليلا عن منضدتنا، حتى يستطيع التحدث، بدون أن يقلقنا، حين كنا نتكلم مع الطباخ السكندري.
بينما نحن في الحافلة الصغيرة، في طريقنا إلى الفندق، إذا بالأب فرانسوا يسألنا بجدية:
“أود أن أتطرق إلى أمر حساس بعض الشيء.”
التفتنا نحوه متطلعين، فإذا بوجهه وقد انطرحت عنه البشاشة المعهودة، ثم أضاف:
“بالطبع، أنتم لا تتابعون الأخبار المتنامية، التي تصلنا، بينما أنتم مشغولون بأحداث رحلتكم المباركة. لكنّ الشر ما يزال يجتاح العالم من حولنا. لقد حدث شيء خطير اليوم.”
توقف عن الكلام لبرهة، ثم خفض وجهه نحو أرضية الحافلة، في ظلمة الليلة المحيطة، وتكلم بصوت ملؤه الشجن:
“تلقيت مكالمة الليلة، تفيد باختطاف كاهن فرنسي، من داخل كنيسة في شمال فرنسا، بالقرب من بلدة تدعى “روان”، وقد قام باختطافه رجلان اثنان ينتميان إلى داعش. من المؤسف أن أقول إن هذا الكاهن، البالغ من العمر أربعة وثمانين عامًا، قد مات متأثرا بطعنات سكين أودت بحياته. قلبي حزين للغاية لما حدث، وأصلّي أن ينيح الرب روحه، ويسكنه فردوس النعيم. ولكني أود أن أسألكم الليلة، كيف هي الحالة الأمنية في مصر الآن، ونحن على أعتاب زيارتنا لهذا البلد العريق. أرجوكم أن تجيبوني بكل صراحة، هل هناك.. أعني لكاهن فرنسي مثلي..”
وسكت قليلًا، ثم أضاف: “ما هي نسبة الخطورة؟”
انعقدت ألسنتنا. لم نكن نعلم شيئا عما حدث، كما توقع الأب فرانسوا. دارت في رأسي الأفكار.. وتوالت مشاهد قتل المسيحيين.. وحرق منازلهم.. بل وإحراق الكنائس بشتى أنحاء مصر.. وبالأخص في بلدان الصعيد.. من بعد الثورة الثانية ضد حكم الإسلاميين.
تبادر إلى ذهني أنّ دير الأنبا أنطونيوس أبي الرهبان ـ المزمع زيارته كما أشار قداسة البابا إلى كانديد ـ يقع في جنوب مصر. صحيح أنه متواجد بقرب شاطئ البحر الأحمر، بعيدا عن محافظات مصر الجنوبية المتاخمة لنهر النيل، حيث الأحداث الإرهابية، لكنّ شمال فرنسا بعيد عن تجمعات داعش بالمثل. هل أقول له إن مصر بلد آمن، وقد سرقوا سيارتي من أمام بيتي، ولم تستطع الشرطة حمايتي، حين التجأت إليها؟ هل أدَّعي أمان بلدي، وأنا الذي حبست نفسي أسيرا بها، ألوذ بحيطان شقتي، فامتنعتُ عن الخروج منها لسنوات، حتى جاءت مكالمة أمير، فخرجت بعدها من بيتي، ومن الإسكندرية، ومن مصر كلها؟
التفتُّ نحو أمير، مستعطفًا إياه أن يرد سؤال الأب فرانسوا عني. لكنّ حال أمير لم تبدُ أحسن من حالي. بل لاح مرتبكًا، متحيرا، مهفوتا، وترأرأت عيناه سريعًا بيننا، فأدركت أنه بلغ حافة الانهيار.
وكيف لا؟ فالمسكين كان واحدًا من ضحايا تفجير كنيسة القديسَين بالإسكندرية، في فجر الأول من يناير عام 2011، حين كُسِرت ساقه، بضعة أسابيع قبل أن ألقاه لأوّل مرة، بعد الثورة مباشرة. ثم إن أباه قُتل غرقًا إذ دفعوا سيارته إلى ترعة، فمات. كان جرمه الرهيب هو إنشاء كنيسة، بتحويل مبنى يملكه في الصعيد إلى كنيسة. ومن قبله، ذبح الإسلاميون جده، صاحب متجر الذهب، وسرقوا مصوغاته. ألم تؤد كل تلك المصائب التي ألمَّت به إلى ما هو عليه؟
وجَبَ عليَّ ـ إذن ـ أن أرد عنه، وبإسراع، وإلا جن جنون أمير ابني على الملأ. فما كان مني إلا أن قلت:
“الإرهاب الدموي يحارب العالم بأسره، يا أبي القس. وكما هو الحال في فرنسا، فإن مصر من البلدان التي تعاني من ويلات تلك الحرب الكاسرة. ولا تنس أنّ هذا هو أساس رحلتنا للبحث عن كانديد، اعتقادًا منا ـ وخاصة أمير ـ بأنّ هذا هو السبيل الأمثل لتخليص هذا العالم من شرِّ الإرهاب. ولا يفوتنّك أنّ مصر ـ يا عزيزي ـ ما تزال تحتضن أكبر عدد من المسيحيين في الشرق الأوسط، رغم كل شيء.”
تنهد الأب فرانسوا، وقد رفع رأسه من جديد، وهو ينظر نحونا، وقد لمعت عيناه وسط الظلام السائد داخل الحافلة الصغيرة، القاطعة شوارع روما، ثم قال:
“إذن فلنصلِّ لأن تباركنا العذراء المقدسة، وتبسط يديها الطوباويتين من حولنا، لتحافظ علينا هنا، وهناك، وفي كل مكان.”
ثم أغمض عينيه، وأحنى رأسه، وراح يصلِّي.
في صباح اليوم التالي، ومن بعد نوم مضطرب، تركنا الفندق. أمام المدخل، لقينا الحافلة الصغيرة ذاتها ، حيث جلس الأبوان فرانسوا وبيدرو يستقبلاننا ببشاشة وبِشر. ساعدنا السائق في رص الحقائب في مؤخرة المركبة، إلى جوار حقيبة متوسطة الحجم خمنت أنها تخص الأب فرانسوا. حينها، أدركت أنّ الأب بيدرو جيوفاني لن يسافر معنا، إذ لم ألمح له حقيبة. وفي الحقيقة، لقد تحرجت من سؤاله ليلة الأمس، خاصة بعد حديثه الحميمي حول جده، وذكرياته عن مدينتي، الإسكندرية.
توجهَت العربة بنا إلى المطار عبر المدينة، ثم إلى الطرق السريعة. وظللت موجها نظري إلى النافذة، تنتابني مشاعر متناقضة؛ فها أنا أودِّع شوارع روما، وسلسلة الجبال البعيدة عند الأفق، حينما اقتربنا من المطار. كأنني أشيِّع شخصًا تعرفت عليه، وتوثقت صداقتنا، فصار قريبًا لديَّ، ولكنّ ذهني ـ مع ذلك ـ صار يعبُره، وأنا أتفكر مغتبطًا في لقاء الحبيب المأمول. كنت أشعر بالتعب، من بعد تلك السفرة المديدة، التي ألقت بكاهلها فوق جسدي العجوز. لذا بتّ متطلعا، أكثر من أيّ وقت، إلى العودة لبلدي.
في مطار ليوناردو دافنشي، وهو اسم مطار روما الدولي، تولى الأب بيدرو مسألة التذاكر، وعيَّن شابًا حمل حقائبنا فوق عربة، وأوصلها إلى السير المتحرك. ثم اتجهنا نحو مكتب الجوازات، وبسرعة تراقص خاتم الضابط فوق جوازات السفر. استدار الأب بيدرو نحونا، فأعطانا الجوازات، وسلًم علينا بقبضة يد دافئة، متمنيا لنا رحلة سعيدة.
حين حان موعد الصعود إلى متن الطائرة، وجدت الأب فرانسوا يهبّ واقفًا، قبل أي شخص آخر، وهو يشير إلينا أن نتبعه.
كانت تلك أوّل مرة في حياتي أسافر ضمن الدرجة الأولى. استقبلني المقعد الرحب فاحتضنني بلدانته، وطراوته، ثم سرعان ما جاءت المضيفة، وهي تحمل فوق ابتسامتها الواسعة، فوطًا ساخنة، لنمسح بها وسخ الحياة القاسية، التي تركناها لتوّنا، ولنستعدّ للدخول إلى جنة الغنج، ونعيم الدلع. ملتُ نحو سيسي التي جاورتني، فلقيتها مبتهجة، منتشية، تكاد أن تطير من فرط الغبطة، لكأنها استعادت بصرها.
المنضدتان اللتان امتدتا أمامنا، اكتستا بمفارش بيضاء، حريرية الملمس. وتسابقت كاسات الشامبانيا، والعصائر، وأطباق الفواكه، والنبيذ، إلى التلاقي معنا، دونما مشقة أو سؤال. ثم توالت أطباق الطعام الساخن، نأكلها بشوك وسكاكين من الفضة الخالصة، وكاسات من الكريستال البراق، ثم المزيد من النبيذ.
قلت لسيسي مازحًا:
“لو أنّ الكتب السماوية اكتفت بوصف مثل هذا النعيم، مكافأة للصالحين منَّا، لانتظم الناس في الصلاة والصوم بلا انقطاع ليلا أو نهارا!”
أما هي فقهقهت ضاحكة. ثم أضافت ساخرة:
“ولكنّ تلك الكتب السماوية عينها، هي أوّل من يحرض ضد راكبي الدرجة الأولى، في أول الأمر. بل ويقولون باستحالة دخولهم إلى فردوس النعيم ذاك الذي تزعمه!”
« البحث عن كانديد »: الجزء الرابع عشر، الفصل الثالث عشر