ظهرت أعرق الحضارات البشرية حول أنهار العالم القديم، ومنها حضارتا بلاد الرافدين ووادي النيل قبل حوالي خمسة آلاف عام. وإذا كانت الحضارة الأولى قد تركت لدينا عملاً أدبياً رائعاً هو أسطورة جلجامش، فقد تركت الحضارة الثانية أوابد عظيمة هي الأهرامات. لا يعني ذلك أن ثمة اختلافاً جوهرياً في طبيعة الحضارتين، فسواء بهذه الأسطورة أو بتلك الأوابد، عبّرت الحضارتان المذكورتان عن نقلة نوعية من العهد الأمومي إلى الحضارة الذكورية، التي بات سر تقدمها الإشكالي يقوم على فكرة الخلود ووهمها..
يعدُّ البحث عن الخلود الفكرة المشتركة الأهم في هاتين الحضارتين، وهو يشكل فحوى وهدف مغامرة جلجامش مع صديقه أنكيدو، وغاية الفراعنة من وراء بناء الأهرامات لتحمي مدافن عظمائهم، مع حاشيتهم ومقتنياتهم، من أجل حياة ما بعد الموت. كما يشكل الإيمان بالحياة الأخرى القاسم المشترك بين الحضارات الذكورية جميعها، والتي تمثل فكرة الخلود في الجنة أو جهنم في الديانات الإبراهيمية أحد تجلياتها، علاوة على فكرة التقمص والعيش حيوات متتالية في حضارات وادي السند، التي تأثرت بها بعض المذاهب والجماعات في منطقتنا.
لكن، لماذا لم يتبدَّ الجانب المادي من حضارة بلاد الرافدين كما في حضارة وادي النيل؟ هل لأن الأوابد التاريخية بُنيت من الطوب وليس من الحجارة الكبيرة، فاندثر معظمها وبقي بعضها فقط، مثل حدائق بابل المعلّقة والمسلّات؟ مع ذلك، تكفي هذه الشواهد لتشير إلى طبيعة الحضارة كحضارة ذكورية، بخاصة المسلات، حتى لو لم يتم اكتشاف الألواح الطينية التي كُتبت عليها ملحمة جلجامش في منتصف القرن التاسع عشر.
وليس ثمة أبلغ من المسلات في التعبير عن الحضارة الذكورية، فهي رموز “قضيبية” واضحة الدلالة، ليس فقط في ما يتعلق بشكلها، إنما بكونها رموزاً مستمرة في ناطحات السحاب الحالية والتنافس على بناء الأعلى منها، والانطلاقة الجامحة من أجل اكتشاف الفضاء الخارجي.
وبالمقارنة مع العهد الأمومي، يبدو رمز الحضارة الذكورية، المسلة، ضعيفاً من حيث صلته بالأرض، بينما تبدو رموز العهد الأمومي قصيرة ومضغوطة ووثيقة الصلة بها، كما في التماثيل التي تم اكتشافها للآلهة – الأنثى، فثمة تضخيم للخصوبة يتمثل بأحجام الأثداء والحوض، للدلالة إلى الخصب والولادة المتجددين.
ولا نجد في العهد الأمومي أثراً يُذكر للذكر، فدوره عابر، كملقح أو مخصب، وتشهد النتيجة الحمل على أنه كان قد “مرّ من هنا” وحسب، ليعود إلى خلفية المشهد من جديد، فمهمته مؤقتة، كحراثة الأرض، في حين يحتاج الدور الأمومي لوقت طويل لتظهر نتائجه، بما يحاكي دور الأرض في نمو المواسم ونضجها.
كما يبدو أثر ضيق مساحة ارتكاز رمز الحضارة الذكورية جلياً على المستوى السلوكي، المتمثل بحالة من القلق الوجودي يتم التعبير عنها بالسعي المحموم لتحقيق الإنجازات، والذي وجد تصريفه أيضاً في الأديان، كتصعيد آخر للرغبة في تحقيق الخلود على نحوٍ جماعيّ. لكن ذلك كله لم يفض إلى تغيير جوهري في طبيعة الإنسان وسلوكياته، والتي تتحدد بظروف الحياة والمصالح المرتبطة بها.
وعلى المستوى الفردي، يبدو رجل الحضارة الذكورية ضعيفاً ومضطرباً أمام المرأة في بداية علاقة الحب، حين لا يكون بوسعه ممارسة السلطة الممنوحة له أو أن ليس ثمة فائدة تُرتجى من ذلك، بينما تبدو المرأة ثابتة وواثقة من نفسها بصورة تدعو للدهشة. ربما كانت مثل هذه اللحظات من بقايا العلاقة بين الجنسين في العهد الأمومي، حين كان الرجل – الصياد يرتمي مع فرائسه عند قدميها، قبل أن يبني ممالكه ويحدد ممتلكاته، كما فعل صديقنا جلجامش في مدينته أوروك.
من جهة ثانية، فإن المدة التي تستمر فيها علاقة الحب، بعد البداية المربكة والنهاية المفجعة، كمرحلة يسودها الانسجام، ربما تعود إلى مزيج ناجح لأثر الحضارتين الأمومية والذكورية، لكن استمرار هذه المرحلة يحتاج إلى طاقة هائلة للحفاظ عليها. مثل هذه العلاقة هي ما أطلق عليها إنجلز “الحب الجنسي”، في كتابه “أصل العائلة والملكية الخاصة والدولة”، أي الحب الذي يصل إلى مبتغاه، واعتبره العلاقة الأسمى بين المرأة والرجل، وذلك في معرض قراءته لكتاب “الغصن الذهبي” لجيمس فريزر حول الدين والأساطير. ويبدو أن إنجلز كان متفائلاً في إمكانية إفساح المجال لهذه العلاقات، قبل أن تتخذ الرأسمالية أشكالاً أكثر تكيفاً، ما أبعدَ حلم إنجلز بالشيوعية – الجنة، ومثل هذا الحب، إلى خلفية المشهد أيضاً!
إن قلق الرجل في الحضارة الذكورية، حديثة النشأة تاريخياً، مرده التوق إلى علاقة متوازنة ومستقرة مع المرأة والأرض، الحالة التي لا يمكن استعادتها، فتبقى سعادته فكرة معلقة في الهواء يمكن تصعيدها في الآداب والفنون وحسب. في المقابل، يتبدى توق المرأة إلى عهدها الميمون بزيادة نسبية لحالات الاكتئاب لديها، بسبب حرمانها من السلطة والمكانة الطبيعيتين، اللتين كانتا تحوزهما.
من بين حالات الاكتئاب، يُعدُّ الاكتئاب الحاصل بعد الولادة بالغ الدلالة، وهو يضرب عرضاً بكل ما هو متعارف عليه حول العلاقة النمطية بين المرأة والأمومة، لذا، فهو يُحاط بالسرية. تصيب هذه الحالة نسبة لا بأس بها من النساء في الأسبوعين الأولين بعد الولادة، وقد تستمر عدة أشهر في الحالات الشديدة. وربما تشير إلى أن تربية الطفل كانت في العهد الأمومي مهمة جماعية ولا تخص الأم لوحدها، وفي هذه الحالات، يُعرف الطفل في الجماعة (العائلة الكبيرة) بنسبه إلى أمه، وبقي ذلك شائعاً في أريافنا حتى وقت قريب، قبل أن تظهر الأسرة “النووية”، أي الأم والأب وأطفالهما في إطار الزواج الأحادي.
لقد عبرت أسطورة جلجامش عن أوج انطلاقة الحضارة الذكورية، المتمثلة بالاستقرار في تجمعات كبيرة، في حين مثَّل أنكيدو الحالة الانتقالية بين العهدين، وقد احتفظ بعلاقاته مع المرأة في العهد الأمومي ويمكن أن يساعد صديقه جلجامش في تحقيق فكرة الخلود، كتعويض عن فقدان الأخير لهذه العلاقة، وتعويضها بالملكية.
من جهة ثانية، وبطريقة مدهشة، جاءت رواية دون كيشوت للإسباني سرفانتس، في بداية القرن السابع عشر، لتشكل استعادة متأخرة لأسطورة جلجامش، التي لم تكن الألواح التي كُتبت عليها قد اكتُشفت بعدُ. فبينما كان جلجامش يبحث عن الخلود، كان دون كيشوت يحاول العودة إلى عهد الفروسية الضائع، الذي مثَّل ذروة أخرى للحضارة الذكورية، التي حققت في هذه الفترة نجاحات لافتة تمثلت في اكتشاف عوالم جديدة غيرت وجه العالم.
بذلك تمثل رواية سرفانتس بداية انحسار الحضارة الذكورية، التي حاول دون كيشوت جاهداً الحفاظ عليها بحصانه الهزيل وسيفه المثلوم، وبمساعدة صديقه سانشو. هنا يمكن مقارنة دور سانشو بدور أنكيدو، لكن دور سانشو يتعلق ببداية أفول الحضارة الذكورية وتطعيمها بعناصر إنسانية وأنثوية، على أمل الوصول إلى حضارة جديدة قائمة على التعاون والانسجام بين الجنسين وتقديم ما هو أفضل من كليهما. عندئذٍ، يمكن أن توجد السعادة الحقيقية، لا وهمها.