حُفظت في ذاكرتي المُعتمة كتيراً من الأكاذيب التاريخية.
فى 30 سبتمبر عام 2000، كنت اجلس بجوار والدي أُنهى فروضي المنزلية استعدادًا لبدء إسبوعى الدراسي عندما كان يُتابع هو عن كثب، غاضبًا، ومُحاطًا بهالة دخان سيجارته المتطاير، أحداثَ “إنتفاضة الأقصى الثانية“. لم اهتم بمشاهدة هذه الفوضى فى عالم بعيد عن مُخيلة طفلة، حتى ظهر فجأة وسط كل تلك الفوضى مشهدٌ أثار إنتباهي: خلف برميل إسمنتي، كان ثَمَّة رجلٌ يشيح بنظره نحو الموت القريب منه خلفه طفلً يحاول حمايته، وصوت صراخهما متداخل مع صوت طلقات رصاص متبادل… ثم بعد ثوانٍ من الضبابية يظهر الطفل مجددًا منبطحًا على وجهه، وصوت مُعلِّق « قُتل الطفل برصاص جيش الإحتلال »! لم أفهم مصطلح « جيش الإحتلال » حتى فسّره والدي قائلًا « دول اللي سارقين فلسطين مننا وبيقتلوا الأطفال »!
تابعت لمدة ساعات هذا المشهد مرارًا على القناة الأولى المصرية حتى نشرة التاسعة مساءً التى أفادت بإن الطفل المقتول يُدعى « مُحمد الدُرة » البالغ من العمر أحد عشر عامًا، وأن والده المُصاب هو جمال الدُرّة. حُفر الاسم و الصورة فى ذاكرتي، بل أصبح رمزًا لي في “الإستشهاد” من أجل “فلسطين“. وكان سببًا فى اهتمامي بالقضية الفلسطينية وتزايدت أسئلتي لوالدى الذى كان بمثابة نافذتي المعرفية. ذهبت فى صباح اليوم التالي إلى المدرسة لأجد أن الجميع شاهد ما شاهدته وأن مقتل « الدُرة » حديث جميع الأساتذة والطلبة. بل طُلب من إحدى الطالبات أن تصدح بأغنية « زهرة المدائن » فى الإذاعة المدرسية، وطلبت معلمة الرسم فى منتصف اليوم الدراسى أن نرسم علم فلسطين، ومن يستطيع رسم مشهد قتل « الدُرة » سيحصل على علبة ألوان خشبية مكأفاة. كنت منذ الصغر مُرهفة المشاعر، وما شاهدته على التلفاز أثّر في وجدانى بشكل جعلني، فى الكِبَر، أرفض تصديق أن الولد ربما كان ضحية شعبه وأننا، أنا والكثيرين من جيلي، كنا ضحية إبتزاز عاطفى على مدى سنوات لدعم منظمات بعضها مُصنفة الآن “جماعات إرهابية“.
بعد عدة أيام دشّنت آنذاك كافة المدارس على مستوى جمهورية مصر العربية حملة جمع تبرعات، لدعم الشعب الفلسطينى بتوجيه من الحكومة المصرية مع إذاعة الأوبريت المصرى الذى ضم نخبة من الفنانين “القدس حترجع لنا” للتأثير فى الوجدان وكسب المزيد من التعاطف. اتذكر أن والدي اعطاني عشرة جنيهات للتبرع فى الصندوق المخصص لهذا الغرض. اذكر أيضًا أنه اندلعت مظاهرات فى كافة نطاقات « المحروسة » مُنددة بما حدث فى الإنتفاضة الثانية، نقلها التلفزيون المصرى مع الإشادة بروح التضامن الجماهيرية. كانت كل هذه المظاهر كافيةً لتجعل من مقتل « الدُرة » أيقونة ثورية وبطولية لجيل التسعينيات، بل شكلت دافعًا اساسيًا فى مناصرة القضية الفلسطينية والتمسك بالدفاع عن فرضيتها، حتى لو كانت تلك الفرضية مشوبةً بالكثير من التضليل وغياب الحقائق وإستغلال الآخرين عاطفيًا.
لم يهتم أحد آنذاك بأي رواية أخرى حول مقتل « الدُرة » بل تم تمجيد ذكراه فى العالم العربي والإسلامي، وظل القاتل الوحيد فى ذاكرة الثائرين، ربما على غير حق، هو “جيش الإحتلال“. تعاقبت السنوات والإنتفاضات ولم نرَ أى طرف فى نطاقنا العربي يتحدث عن القاتل الفعلي أو حتى ينفي الرواية الوهمية التى تم تداولها حول قصة القتل. ظل الأمر فى غياهب الذاكرة سببًا رئيسيًا فى كراهية وعداء أجيال من كافة دول المنطقة العربية لإسرائيل، وظلت صورة الطفل المقتول محفوظة على رفوف ذاكرة أجيال.
فى منتصف العشرينات من عمرى، وهى ليست ببعيدة، قررت أن أراجع كافة مواقفي العدائية تجاه الآخرين، وقررت البحث عن الأسباب والتمحيصُ بها بعدما كنت أفضل الهروب من تكذيب موقف راسخ فى عقلي. لم تعد ذاكرتى الوثنية التى قدست كل زيف، ككل أبناء المنطقة، تخشى مواجهة الحقيقة لتحطم الثوابت الفكرية غير الصحيحة. راجعت أولًا المقطع المصور القصير بواسطة مصور قناة فرانس 2، طلال أبو رحمة، الذي بثته القنوات وقت الحادثة نقلاً عن قناة فرانس 2. اتضح أن الجهة التى اطلقت النار غير واضحة وغير معروف هوية القاتل فى هذه الثواني المعدودة التى بُثت والطفل ليس عليه أى آثار دماء فى لحظة إعلان قتله… كانت رؤية صادمة لي!
بحثت أكثر حول التقارير والمقالات التحقيقية الصحفية التى نُشرت حينها وجدت أنه فى بادئ الأمر اعلنت « قوات الدفاع الإسرائيلية » تحملها لمسئولية قتل الطفل، ثم بعد التحريات تراجعت وحملّت المسئولية للمسلحين الفلسطينين الذين تبادلوا إطلاق النيران مع الجانب الإسرائيلي فى غزة. تداولت عدداً من الصحف العالمية وعلى رأسها « نيويورك تايمز » هذه التقارير فى تحقيقات صحفية، وأضافت صحف أخرى مثل الجارديان أنه تم التلاعب بالمادة الإعلامية التى تم بثها على قناة فرانس 2 وتناقلتها باقي القنوات العالمية والمحلية.
وفق دعوى قضائية قدمها فيليب كارستني عام 2004 ضد المراسل شارل إندرلان والمصور أبو رحمة لإتهامهما بالتلاعب بالأدلة ــ ما عُرف لاحقًا بـ Pallywood أى التلاعب بوسائل الإعلام على الطريقة الهوليوديةــ، تم إعادة تمثيل المشهد لتحديد مواقع إطلاق النيران صوب « الدُرة »، الأب والأبن، من خلال رسم تخطيطي لمفترق نتساريم الذي وقعت به الحادثة فى قطاع غزة. تبين أن « جيش الدفاع الإسرائيلي » كان موقعه أبعد من أن تتسبب طلقاته بمقتل الطفل، وأن طلقات المسلحين الفلسطينين ربما كانت أقرب لقتل الدرة.
في كلتا الحالتين، الشريط الذى تم بثه عن الحادثة، وكان وعي ومشاعر جيل كامل ضحيةً له، لم يوضح كل هذا ولم ينقل مشهد القتل!
على الجانب الآخر، بعد تعافي جمال الدُرة من إصاباته، رسم من مقتل أبنه بطولة لنفسه وأصبح يجول بها فى القنوات الفضائية العربية والمصرية لكسب التعاطف. ما زال جمال الدُرة يظهر فى كل عامٍ على الشاشات متوشحًا بكوفية تحمل ألوان العلم الفلسطينى ساردًا قصة حول مقتل أبنه وعن إصابته التي لم ير منها شيئًا؛ فهو لم يكن واعيًا ليرى من قتل أبنه!
فى كل الأحوال، قُتل الطفل مُحمد الدُرة! لكن، بالأدلة التى غابت عن الوعي العربي، فإنه ربما لم يٌُقتَل برصاص جيش الدفاع الإسرائيلي. كانت هذه هي الكلمات التى افقت بها من وهم “القضية الفلسطينية” وصدمة تحطيم الأيقونة الوهمية لتلك القضية. حرّكت هذه الحقيقة التى اكتشفتها، والتي لم يُخبرنى والدي بها رغبة داخلية لدي، كإحدى ضحايا الإبتزاز العاطفي، للبحث أكثر عن إسرائيل وإعادة تقييم موقفي بشكل أعمق لفهم الواقع الإسرائيلي الحقيقي الذى لا ينقله لنا أي من إعلامنا المصري أو العربي، بعيدًا عن كافة الإدعاءات التى تم تصويرها فى الدراما والسينما لتُكمل الصورة الذهنية الكارهة لجنس بشري ليس بينى وبينه عداء؛ فأنا من وطن بينه وبين إسرائيل إتفاقية سلام حتى وإن كان الحبر الذى استُخدم فى صياغة بنودها لم يُفارق الورق الذى كُتبت عليه، ولم تطبق على المستوى الشعبى أو الجماهيرى بين الطرفين.
مع إقتراب الذكرى الواحدة والعشرين لمقتل الدُرة، اروي تلك القصة عن مشاعرى وقت الحادثة كإحدى أبناء جيل التسعينات، ومشاعرى الآن بعد كل هذه السنوات من التضليل، لسببين. الأول، أننى عندما سألت زميلات الدراسة الجامعية مؤخرًا عن ما هو سبب دعمكم للقضية الفلسطينية، كانت الإجابة دون تفكير أو تردد هي « مشهد قتل مُحمد الدُرة على يد الإحتلال »! أما السبب الثانى فيكمُن فى محاولة لدفع آخرين من هذا الجيل للبحث عن الصورة التى ما زالوا يستخدمونها كأيقونةٍ ثوريةٍ مصاحبةٍ لعدد من الشعارات الوهمية وأن يتكشَّفوا الحقائق بذواتهم؛ فنحن الآن فى عصر الشبكة العنكبوتية التي تُتيح كافة الأدلة التى تمنحننا فرصة عدم قبول أنصاف الحقائق وأن نملأ ذاكرتنا المُعتمه بنور البحث عن معرفة الحقيقة!