في لبنان، لم نعد نختار ماذا نكتب، المواضيع هي التي تختارنا.
فالتفجيرات والكوارث لا تعتقنا. لم يمر العام على تاريخ انفجار 4 آب الكارثي حتى فُجعنا بكارثة جديدة في 15 من آب الحالي. جريمتا تفجير إرهابيتان مارستهما السلطة، أو لنقل أوصلتنا إليهما سياساتها الإجرامية. صار لنا موعدان مع الغضب والحزن ورفض العفو أو النسيان. واحد في 4 آب والثاني في 15 منه.
أي بلد هذا الذي يعيش على وقع التفجير والعنف والموت والانتحار والجرائم والسرقات والتهريب على أنواعه؟ وكل ذلك برعاية ما نسميه « سلطة » بعد أن انهارت الدولة!؟
سلطة أمر واقع، ولو إنها منتخبة. مجموعة ناس وصلوا إلى السلطة بصناديق اقتراع، صحيح لكنه اقتراع مغشوش ومزوّر ومفروض بالرغم من الآلاف من اتباعهم من الأزلام والمحاسيب، مع تلك التي حصدوها بالاستقواء وشراء الضمائر، هناك مئات الآلاف لا يريدونهم.
التزوير يبدأ من تلفيق قانون الانتخاب المفصّل على قياسهم، وصولاً إلى التزوير العلني. أي التزوير الحقيقي في الصناديق. لكن الغش الأصلي في « السلبطة » على إرادات الناس. من إثارة عصبيات الطوائف وتنمية النعرات على اختلافها، عبر تخويف اللبنانيين من بعضهم البعض، إلى غسل الأدمغة. كمثل الفيديو المتداول مؤخراً، حيث يتوجه الخطيب نحو جمهوره حرفياً: “الله ريّحنا من التفكير، ما تفكر السيد بفكر عنك“!! هكذا توظف العقائد والإيديولوجيات والبروباغندا. أما الأعداء: فالقتل والاغتيال؛ مروراً بشراء الضمائر بكرسي يوفر السرقة والنهب والخدمات لتجديد الزبائنية، لكن لا سلطة لهؤلاء تسمح لهم بالتأثير في مصائر الوطن الفعلية.
هل يمكن لدولة ليس فيها أبسط مقومات السيادة أن تسمح بوجود ما يوجد تحت الأرض اللبنانية؟ بلد يعوم على كل ما هو قابل للانفجار!؟
أنفاق عسكرية مجهزة ومبردة تسمح بالإقامة مع معدات طبية وأجهزة رصد ومعدات حربية على أنواعها يضاف إليها الصواريخ وقواعدها، تقطع البلاد طولاً وعرضاً، تحفر الجبال وتعشعش تحت القرى والمدن. على الأرجح أن ثمن الأسلحة التي فيها يكفي لتموين وإطعام وطبابة ما يفوق الخمسة أو ستة ملايين من سكان هذا البلد الذي أصبح متوسط الأجور فيه لا يتعدى 35 دولاراً. فأصبح اللبناني الفخور مجرد متسول على عتبات بلدان العالم.
بعد أن أغرقوا اللبناني في العتمة الشاملة لفقدان الوقود، وجد نفسه يعيش على بحر من النفط والوقود. أخفوا الوقود في خزانات لا تتوفر فيها أدنى شروط السلامة أو الأمن، وُضعت تحت الأرض وفوقها، في المدن والبلدات وبين المنازل دون مراعاة أمن السكان أو اتخاذ تدابير حماية. النفط نفسه المستورد من أموال اللبنانيين وودائعهم.
بلد وصل إلى درجة أن الاطباء يُجرون بعض عملياتهم على ضوء هواتفهم، ويموت فيه الأطفال لنقص دواء مضاد لعقصة عقرب أو عضة كلب وتجرى عملية لطفلة من دون بنج!! وأقفل مصنع السيروم الوحيد لنقص الفيول.
طبعاً يقوم بالتخزين بعض المحتكرين الجشعين من التجار مصاصي الدماء؛ لكن أصل فقدان النفط ومشتقاته التهريب المبرمج والمحمي لآلاف الشاحنات التي تنقل الوقود الى سوريا تحت رعاية السلطات المختصة وتشجعيها. وينبري « السيد » بكل أريحية بالحل السحري: استيراد النفط الإيراني!! يا سيدي إبقَِ أوقف التهريب ونكون لك من الشاكرين.
صار بإمكان « غينيس » أن تخصص كتابا للبنان: أصغر بلد يتمتع بأكبر عدد من الفاسدين، مسؤولين وسياسيين وحرامية، وأكبر نسبة من الاغتيالات والقتل. بلد يعطّل فيه المسؤولون القوانين ومؤسسات الرقابة والمحاسبة كي يسرقوا بأمان. بلد نجحت فيه الطبقة السياسية بفرض منظومة من القيم اللاأخلاقية التي تحوّل الأسود الى أبيض ببجاحة منقطعة النظير.
بلد ثروات اغنيائه ومسؤوليه تجعلهم من أغنى أغنياء العالم، ومع ذلك يستمرون في سرقة مواطنيهم التائهين في الطرقات بحثا عن رغيف ودواء وبنزين ومازوت. تكفي الإشارة إلى فضيحة النفط العراقي الذي ضاع في دهاليز السمسرات.
أما ثالثة الأثافي، فما أتحفنا به رأس الدولة، الذي، بدل أن يعتذر من أهالي عكار عن مصيبة جديدة جلبتها سياسات عهده، نجده يتهم أهل عكار بالإرهاب. فـ« السُنّة » عنده دواعش.
وبدا كأنه تعلّم من وعده بالخمسة أيام لتحقيقٍ لم ينته حتى الآن بتفجير 4 آب، فذهب ليشدد على نزاهة وسرعة التحقيق في الحادثة ومسببها، مطالباً “بعدم تسييس” حادثة عكار. فبالنسبة له انفجار 15 آب هو مجرد حريق كحرائق الغابات، قضاء وقدر ليس إلا، منقطع عن السياسات التي أوصلتنا إلى جهنمه الموعودة.
في هذا الوقت يستغل حزب الله، عبر أمينه العام، رفع الدعم عن المحروقات بالإضافة الى انفجار « التليل” في 15 آب، كي يروج لاستيراد النفط الايراني “رأفة بالشعب اللبناني”. فمن ناحية يسمح له ذلك بمورد مالي يحلّ مشكلته المالية بسبب عجز إيران عن تمويله كما في السابق.
لكن الأهمّ أنه يسمح له بالتصعيد مع إسرائيل بحرب بواخر في البحار تستبدل لعبة الصواريخ التي رفضها أهل الجنوب. هذا التصعيد لخدمة إيران في مفاوضاتها النووية مع أميركا. انه اختبار قوة ونوايا شجعها عليه الانسحاب الأميركي من افغانستان. فإيران اعتادت استخدام لبنان حقل تجارب وأداة ضغط كما في 2006. ويبدو أنهم نجحوا في إقامة حوار غير مباشر مع الولايات المتحدة. فالسفيرة الأميركية اقترحت حلولاً لاستجلاب الغاز المصري والكهرباء الأردنية ضمن الأطر الرسمية. كل ذلك على خلفية تململ في البيئة الشيعية ورفض صريح لسياسات الحزب في البيئات الأخرى.
يبدو أن لعبة النفط تهدف الى إغراق اللبنانيين في دوامة تختلط فيها الأوراق، فتضيع المسؤولية فيما وصلنا اليه.
مع ذلك، سيواصل الشعب اللبناني رفضه لجميع الاحتلالات التي مرّت عليه. وستكمل فرق الثوار من المواطنين تحركاتها إلى أن يحين وقت يلتحق بهم الشعب اللبناني.
monafayad@hotmail.com