(الصورة: أطفال يهود في مصر في النصف الأول من القرن العشرين لا يختلفون شكلا عن باقي المصريين)
ذكرت من قبل اني قد تعرفت على مهندسة فلسطينية من سكان القدس اثناء اول اجتماع مع هيئة المعونة الامريكية في مدينة غزة. وعندما طلبت منها ان تقدمني الى بعض المقاولين والموردين الفلسطينيين أخبرتني بأن زوجها له مكتب مقاولات في القدس وأعطتني رقم تليفونه وقالت لي بأنه يستطيع مساعدتي بشكل أفضل، وشكرتها.
وبعد ان فزنا بمشروع الإسكان في غزة، ذهبت مرة في زيارة للقدس، وعندما كنت هناك اتصلت بمكتب المقاول الفلسطيني، زوج مهندسة هيئة المعونة الامريكية. فردّت على التليفون فتاة تقول: شالوم! بدلا من ان تقول: آلو (كما كنّا نقول في مصر) او السلام عليكم (كما يقولون الآن في مصر). وكانت اول مرة في حياتي اسمع تحية: “شالوم” في التليفون، وكنت على وشك ان ارد عليها قائلا: “شالوم ورحمة الله وبركاته”، ولكني قلت لها: “هاي، هل تتكلمين الإنجليزية؟”. فردت بالإيجاب، ولاحظت من لهجتها الإنجليزية انها في الغالب عربية، فسألتها مرة أخرى ان كانت تتحدث العربية، فردت بالإيجاب وفي هذه المرة ردت بلهجة مصرية، وسألتها بالمصري : “أنتي مصرية؟ وبتعملي ايه في القدس؟” فقالت لي: “دي حكاية طويلة، لما تيجي مكتبنا احكي لك”. وكانت مفاجأة كبيرة لي أن اجد فتاة مصرية في القدس، وكنت في غاية التشوق لكي أعرف قصتها.
وبالفعل ذهبت لمكتب المقاول في القدس والدي ساعدني وأعطاني قائمة بالمقاولين الفلسطينيين والمورّدين الفلسطينيين والإسرائيليين. وهناك أيضا قابلت (مايسة) الفتاة المصرية التي ردت على التليفون بقولها “شالوم”، وهي فتاة ذات ملامح مصرية أصيلة اللون الخمري والشعر الأسود الفاحم والعينان السوداوان الواسعة. وكانت في حوالي منتصف او أوائل العشرينيات من العمر، وكانت في غاية السعادة ان تتعرف على شخص مصري في القدس، وأصرت على دعوتي على طعام العشاء في بيتهم بالقدس حيث تقيم مع والدتها. فقبلت الدعوة شاكرا، وأعطتني عنوان بيتهم، وفي موعد العشاء أخذت معي باقة ورود وركبت تاكسي إسرائيلي أعطيته عنوان البيت وأخذني الى منطقة مرتفعة من الجبال حول القدس وبها بنايات كثيرة يبدو انها بنيت من فترة ليست بالبعيدة. وكان بيتهم عبارة عن شقة بالدور الثاني من عمارة مكونة من أربعة طوابق، وكانت شقة صغيرة جدا، ورحبت بي (مايسة) وعرفتني بأمها وكانت ملامحها خليط من ملامح مصرية على أوروبية. وبعد السلام والتحية جلسنا في غرفة جلوس صغيرة وأنيقة يتوسطها جهاز تليفزيون صغير، وعلى طاولة صغيرة بجانب جهاز التليفزيون وجدت مجلات مصرية: آخر ساعة، المصوّر، صباح الخير، الإذاعة والتليفزيون!!
فلم أتمالك نفسي وقلت: ياه انتو بتجيبوا المجلات المصرية دي منين؟
فقالت الام: بتيجي عن طريق مورّدين فلسطينيين في القدس واحنا بنشتري منهم.
وأضافت (مايسة) بعد ان أمسكت جهاز الريموت كنترول وقامت بتشغيل التليفزيون: “لأ وإيه… كمان عندنا القناة الفضائية المصرية”!
ووجدتني في غاية الحرج عندما سألوني عن رأيي في بعض المسلسلات التليفزيونية المصرية، واعتذرت لاني لا أشاهدها حيث أني أعيش في أمريكا.
وقالت الام: “أكيد سمعت عن مسلسل « رأفت الهجان » »؟ دي البلد كلها هنا بتشوفه، سواء يهود أو عرب.”
وكذبت عليهما وقلت: “شفت بعض حلقات منه، مسلسل جميل”، وحاولت ان أغير الموضوع بسرعة حتى لا يظهر جهلي التليفزيوني اكثر من هذا، وسألت الام: انتو إيه اللي جابكم إلى القدس؟
فردت الام: “دي حكاية طويلة”.
فقلت: “وانا نفسي اسمعها”.
فبدأت تحكي حكايتها، وقد اكتسى وجهها بلمحة حزن، وتحشرج صوتها في البداية:
“احنا كنّا من سكان الإسكندرية، وأبويا كان إيطالي وامي مصرية اسكندرانية، وكنا ساكنين في حي محرم بك. ولما كنت في المدرسة ما كنتش احس اني مختلفة عن باقي البنات لاني يهودية، وكان عندي صاحبات كتير مسلمات ومسيحيات وقلة من اليهود. اتجوزت في سن صغيرة من شاب مصري مسلم بعد قصة حب، رغم معارضة اهلي وأهله، وبعد سنتين من الزواج ربنا رزقنا بمولودة (مايسة)، وبعدين وبسبب الحروب بين مصر وإسرائيل حسيت ان معاملة الناس في الإسكندرية بدأت تتغير ناحيتي لما يعرفوا اني يهودية، والامر زاد جدا بعد انتشار الحجاب واللي جه معاه التطرّف الديني. وكنا بنسمع كل يوم جمعة من ميكروفونات المساجد شتيمة اليهود، وان اليهود أحفاد القردة والخنازير، ومكانش نقدر نعترض. ووجدت ناس كتير بدأت تعاملني وكأني إسرائيلية ولست مصرية! والمفاجأة الكبيرة كانت من جانب أهل زوجي اللي معاملتهم لي ساءت جدا، وأخذوا يضغطوا على زوجي علشان يطلّقني، وبالفعل طلقني. وبعدين خِفت انه ياخد مني بنتي الطفلة (مايسة) سواء بالمحكمة او باتصالاته، فقررت الهرب بها الى أوروبا بعد ان وضعت اسمها على جواز سفري الإيطالي (طلعت الجواز الإيطالي عشان أبويا كان إيطالي)، وسافرت بها الى النمسا. وهناك لقينا مركز لاستقبال اليهود من كل أنحاء العالم، وبعدين يتم إرسالهم الى إسرائيل بعد لما يخلصوا كل الأوراق. وبالفعل قعدنا هناك في مركز الاستقبال حوالي ثلاثة أسابيع ثم سافرت انا (ومايسة) الى إسرائيل وبمجرد وصولنا الى مطار تل ابيب من النمسا تم إعطائنا بطاقة أقامة دايمة على جواز السفر. وقالوا لنا بعد كام شهر تأخذوا جواز سفر إسرائيلي، وجينا على القدس وسكنّا في هذه الشقة الصغيرة.
وتأثرت جدا لهذه القصة، التي لمست فيها صدق السيدة أم (مايسة)، هذه السيدة التي اضطرت للهرب من بلدها ومعها ابنتها ولم ترتكب أي جريمة سوى انها يهودية! وبالرغم من ذلك، فلا زالت تعيش في بلد المهجر، إسرائيل، جسداً ولكن روحها وانتماءها لا يزالان في مصر. وقالت لي أيضا أنها عند زيارة الرئيس السادات التاريخية للقدس كانت تعمل في مكتب لشركة سياحة في « فندق الملك داوود » بالقدس، وهو نفس الفندق الذي نزل فيه السادات، وكانت تقول لزملائها في العمل وهم في انتظار تشريف السادات للفندق: « رئيسنا سوف يصل اليوم من مصر »! اعتبرت أن السادات هو رئيسها، وليس مناحم بيجين!
وقالت لي بأنها كانت في غاية السعادة لعمل العلاقات بين مصر وإسرائيل لانها تستطيع الان ان تزور مصر في أي وقت تريده، وأن ابنتها (مايسة) تستطيع رؤية والدها التي لم يسبق لها ان استمتعب بوجوده الى جانبها.
…
وقامت بتجهيز طعام العشاء، وكان في معظمه أكلات مصرية اسكندرانية، ودعيت للأكل في المطبخ حيث لم يكن لديهم غرفة طعام مستقلة. وكان المطبخ صغيرا جدا وكان يتسع لطاولة طعام دائرية صغيرة تتسع بالكاد إلى ثلاثة أشخاص.
وقالت (مايسة) بلهجة أعتذار: معلهش المطبخ صغير جداً.
فردت الام بقول لا زال يرن في أذني حتى اليوم: “الوِسع في القلوب“!
…
وبعد تناول طعام العشاء، جاءت الام بطبق من البقلاوة والكنافة النابلسية. وقبل وخلال وبعد طعام العشاء لم نتحدث في السياسة او المشاكل بين إسرائيل وفلسطين لان الأجواء كلها كانت أجواء تفاؤل بقرب إنهاء النزاع وذلك في أعقاب « إتفاقية أوسلو ».
وبعد الانتهاء من تناول “الحلويات” قامت أم (مايسة) بالتحدث تليفونيا إلى بعض الأصدقاء باللهجة المصرية قائلة: « احنا عندنا واحد مصري جاء لزيارتنا من مصر”. وبعد أقل من ربع ساعة، رن جرس الباب وفتحت (مايسة) الباب ووجدت رجل وامرأة في منتصف السبعينيات من العمر. وفوجئت بالرجل يتجه مباشرة ناحيتي ويأخذني بالأحضان وكأنني الإبن العائد من سفر طويل، وكذلك فعلت زوجته، وكانوا يتكلمون باللهجة المصرية.
وقال لي الرجل: احنا ما بنصدّق نلاقي أي شخص أو أي شيء من ريحة مصر.
وأضاف أيضا: معظم صداقتنا هنا ومعارفنا مع يهود مصريين، وكأننا لم نترك مصر!
وقال لي أيضا: احنا بعد حرب ١٩٥٦ بدأت الحكومة تعاملنا وكأننا جواسيس، وللأسف وصلت الدعاية السيئة ضد اليهود ألى أفراد الشعب العاديين والذين اعتبرونا خواجات وأجانب! ووصل الامر الى الإهانات اللفظية وأحيانا وصل الامر الى القبض على بعض اليهود والتحقيق معهم لمجرد انهم يهود. ووصل الامر الى حد لا تُطاق معه المعيشة. حتى أولادنا الصغار في المدارس الذين لا يعرفون أي شيء كانوا يرجعون البيت يبكون لان زملاءهم في المدرسة اخذوا يعايرونهم بأنهم « يهود » وأنهم « جواسيس » حتى بدون ان يفهموا معنى كلمة « جواسيس »! ووصلت الإهانات الى حد ان بعض جيراننا اصبحوا يقولون لنا: « إنتوا ليه عايشين هنا، ليه ما تروحوا بلدكم إسرائيل »! وكانت دي اكثر الإهانات ايلاما، ولما اصبح الامر لا يطاق خِفنا على سلامة أولادنا في المدارس من الأذية الجسدية بعد الأذية النفسية.
وبعد ١٩٥٦ حدث الخروج الثاني لليهود من مصر، وتركنا بيوتنا ووطننا واضطررنا للهجرة القسرية إلى إسرائيل.
الحقيقة ان مقابلة الرجل السبعيني وزوجته أثر في نفسي كثيرا، لانه رغم مرور حوالي أربعين عاما على اضطرارهم لترك مصر الا أنه لا يزال يتشوق لرؤية أي شيء من ريحة مصر، ولذلك أردت ان اعرف المزيد عن تاريخ اليهود وكيف جاءوا، ومن أين جاءوا الى مصر.
…
وحسب القصص المقدسة في العهد القديم، وفي القرآن، فان النبي يعقوب عليه السلام هو أبو بني إسرائيل، وابنه يوسف عليه السلام هاجر الى مصر وكان أمينا على خزائن مصر في السبع سنوات السمان وفي السبع سنوات العجاف. وأيضا في قصص الكتب المقدسة أن النبي موسى عليه السلام تربى في بيت الفرعون، وان عصاه تحولت الى حية أكلت ثعابين حواة الفرعون، ثم اخذ قومه الى خارج مصر بعد ان شق بعصاه البحر، وفي سيناء تكلم الى الله الذي أعطاه الوصايا العشر وهي أساس الديانة اليهودية.
…
وفي كتاب سيجموند فرويد (« موسى والتوحيد »)، يعتقد فرويد أن النبي موسى كان مصرياً وتربى تربية مصرية وانه لم يكن عِبرانيا، بل ويعتقد أن موسى تعلّم في نفس المعبد الذي تعلّم به الفرعون اخناتون (صاحب ديانة التوحيد)! وأورد فرويد مقاطع من «كتاب الموتى » (الكتاب الفرعوني الشهير) وأورد نصوصا شبيهة بها في العهد القديم.
…
اما في الآثار الموثقة المصرية القديمة، فيعتقد بعض علماء الآثار أن أول ذكر لبني إسرائيل كان موجودا على اللوحة الجرانيتية الموجودة بالمتحف المصري للفرعون مرنتباح. لوحة مرنبتاح المعروفة أيضاً بـ بلوحة انتصار مرنبتاح ، وهي لوحة تذكارية لملك مصر مرنبتاح الذي حكم مصر بين 1213 – 1203 قبل الميلاد. وهي لوح سميك من حجر الجرانيت تذكر انتصار الملك أمنحتب الثالث على الليبيين وحلفائهم، بينما تتحدث الأسطر الثلاثة الأخيرة من 28 سطرا عن حملة أخرى في كنعان (بلاد بني إسرائيل) والتي كانت جزءا من المملكة المصرية في ذلك الوقت. وقد اكتشفها المؤرخ الإنجليزي “فلندرز بيتري” في طيبة -الأقصر حالياً- عام 1896 بعد الميلاد.
والفرعون مرنتباح هو الابن الرابع عشر لرمسيس الثاني وحكم بعد ابيه لمدة عشر سنوات، والجملة الأخيرة التي ذكرت في لوح مرنتباح يعتقد بعض العلماء انها اول وثيقة تذكر فيها كلمة “يسرائيل”.
وكان هناك لليهود خروج أخر من بلاد كنعان الى ارض بابل، وهناك تم اضطهادهم وهاجر الكثير منهم الى مصر. واليهود الذين طُردوا من بابل الى مصر شكلوا اكبر نسبة من اليهود المصريين، وتم أيضا هجرة العديد من يهود أوروبا الشرقية والوسطى الى مصر.
والغرض من هذا التاريخ المختصر هو ان أوضح بأن لليهود علاقة وثيقة بمصر ترجع لآلاف السنين، ولم يكونوا أغرابا في مصر، ولكنهم كانوا جزء من نسيج الوطن، ولم يكونوا جواسيس او خونة ولكن للأسف تمت معاملتهم على انهم جواسيس وخونة.
“ذكرياتي في فلسطين وإسرائيل”: الحلقة الثانية عشر، ياسر عرفات أمر بطردنا من فندق فلسطين