ربما لم تعرف آسيا منذ رحيل المهاتما غاندي إغتيالا في يناير 1948، شخصية وقفت في وجه العنف الممنهج وطالبت شعبها مقاومته بطريقة سلمية غير سيدة ميانمار الجسورة “أونغ سان سوكي”، إبنة زعيم الإستقلال الجنرال أون سان الذي فاوض الإنجليز لنيل إستقلال بورما عام 1947. وقد درست في أفضل جامعات بريطانيا والهند حتى حصلت على دكتوراه الفلسفة، وفازت بجائزة « سخاروف » لحرية الفكر عام 1990 ثم جائزة نوبل للسلام عام 1991 فجائزة جواهر لال نهرو عام 1992 فميدالية الكونغرس الامريكي الذهبية عام 2017 وغيرها من الجوائز والأوسمة الرفيعة من كندا واستراليا والسويد واسبانيا والتشيك. وذلك تكريما لها على مواقفها في وجه نظام بلادها الديكتاتوري العسكري الوحشي على مدى ستة عقود من الزمن تعرضت خلالها للإذلال والنفي والاحتجاز القسري والتهديد بالقتل والتفرقة بينها وبين اسرتها.
وما أن كادت تقطف بعض ثمار نضالها من خلال قبول العسكر بحزبها السياسي (الرابطة الوطنية من اجل الديمقراطية) كشريك في الحكم، بعد أن فاز الأخير فوزا كاسحا في انتخابات عامي 2015 و2020، حتى وثب الجيش مجددا إلى السلطة عبر إنقلابه المفاجيء في الأول من فبراير 2021، بدعوى أن انتخابات 2020 البرلمانية شابها القصور والخلل، وأن دستور البلاد يعطي الصلاحية للقوات المسلحة بالتدخل وإعلان حالة الطواريء في حال وجود محاولة للإستيلاء على السلطة بطريقة غير قانونية. وعلى الرغم من تفاهة هذا المبرر وعدم صدقيته، دعك من تنديد العالم كله بالعملية الإنقلابية، فقد أقدم عسكر ميانمار على احتجاز سو كي ومجموعة من رموز حزبها، فانقطعت أخبارها مذاك.
والحقيقة أن هذه السيدة التي كانت أيقونة للنضال من أجل الحرية والديمقراطية ورمزا للسلام وأملا لشعبها المضطهد في حياة كريمة كبقية الشعوب المجاورة، خسرت الكثير من رصيدها ومصداقيتها! ليس لأنها تعاونت مع جلاديها في عملية سياسية مشوهة ومقيدة بقيود كثيرة منصوص عليها في دستور 2008 الذي صاغه جنرالات الجيش بأنفسهم (منها مواد تحصّن العسكر ضد المساءلة القانونية ومواد أخرى تضمن لهم نسبة من المقاعد في مجلسي النواب والشيوخ كيلا يُمرر أي تشريع دون موافقتهم)، وإنما لأنها صمتت ووقفت موقفا سلبيا من تعرض مسلمي بلادها من أقلية « الروهينغيا » للإضطهاد العرقي والديني. بل رفضت إدانة العنف ضد هذه الأقلية في عامي 2012 و2015 قائلة أنها لاتعلم ما إذا كان من الممكن اعتبار « الروهينغيا » من مواطني ميانمار. وإذا كان تعاونها مع العسكر عملا يمكن تبريره بهدف التخفيف من بطشهم تجاه مواطنيها وأنصارها العزل، فإن لا مبالاتها بقضية مواطنيها « الروهينغيا » لا مبرر ولا تفسير له إطلاقا.
اليوم تجد سوكي نفسها مجددا في قبضة العسكر الذين يعدون العدة لمحاكمتها وإطلاق الرصاصة الأخيرة عليها.
فهي تواجه سلسلة من الإتهامات التي لو أدينت فيها لبقيت البقية الباقية من عمرها في المعتقل، خصوصا وأنها تبلغ السادسة والسبعين من العمر. وتتدرج الإتهامات الموجهة إليها من تهمة استيراد وتملك أجهزة إتصالات غير مرخصة إلى تهمة مخالفة قوانين عدم إفشاء الأسرار الرسمية، مرورا بتهم فساد مثل استخدام صفتها كمستشارة للدولة (منصب يوازي منصب رئيس الوزراء) في تلقي أكثر من 600 ألف دولار بطريقة غير مشروعة والحصول على رشوة في صورة 11 كيلوغراما من الذهب.
لا يتوقع المراقبون أن تحصل سوكي على البراءة أو على حكم مخفف في هذه المحاكمة التي قد تمتد إلى أشهر. صحيح أن هناك فريقا من المحامين سيتولون الدفاع عنها، وأن بإمكان هؤلاء الإجتماع بها في أي وقت، وصحيح أن دستور البلاد ينص على أن السلطة القضائية مستقلة. لكن الصحيح أيضا أن القضاء مستقل صوريا، بمعنى أنه لا يملك إتخاذ أي قرار أو إصدار أي حكم دون مشاورة وموافقة السلطة السياسية المتمثلة في الجيش حاليا. هذا ناهيك عن أن معظم قضاة المحاكم والمحامين ومسؤولي الإدعاء تدربوا تحت يد العسكر أو كانوا يوما ما من ذوي الرتب النحاسية والبذلات الكاكية، ما يجعل محاكمة سوكي غير عادلة في مختلف الأحوال، خصوصا مع وجود سوابق بالفساد على مختلف مستويات التقاضي.
ولعل أكبر دليل على تسلط العسكر على السلك القضائي وسلك المحاماة ما حدث في التاسع والعشرين من يناير 2017 بحق المحامي البارز المسلم وعضو الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية “كو ني” الذي أردي قتيلا برصاص مجهول في مطار يانغون الدولي وقت عودته من رحلة إلى أندونيسيا لحضور مؤتمر بخصوص الديمقراطية وحل النزاعات. وقد وُصفت الحادثة في حينها بالإغتيال السياسي لأن القتيل لم يستجب لرغبات العسكر بالكف عن الترافع في قضايا العنف ضد « الروهينغيا » والإمتناع عن رفع دعاوي حول إصلاح دستور ميانمار وتنقيحه من المواد المكبلة للحريات أو تلك المحصنة للعسكر ضد المساءلة والمحاكمة.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي