يوم 25 فبراير عام 1994 وأثناء صلاة الفجر في المسجد الإبراهيمي بمدينة الخليل بالضفة الغربية، قام الدكتور (باروخ شتاين) وهو طبيب إرهابي إسرائيلي يهودي من أصل أمريكي (من مواليد بروكلين بمدينة نيويورك) بالدخول على المصلين بالمسجد، وهم سجود، وبدأ بإطلاق النار من مدفعه الرشاش فقتل 29 شخصا وجرح حوالي 150. وقام باقي المصلون بالقبض عليه وقتلوه في الحال.
وكانت هذه واحدة من أسوأ الجرائم الإرهابية في تاريخ الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي! وكان موعد رحلتنا قد جاء بالصدفة في أعقاب هذه الجريمة، ولم نستطع تغيير موعد الرحلة لأننا كان ولا بد لنا من حضور الاجتماع الذي يقدم شروط مناقصة مشروع غزة إلى المقاولين المتنافسين. لذلك كان ولا بد وأن نسافر في تلك الأجواء المتوترة.
وركبنا أنا والمهندس (كمال) سيارة جيب وتوجهنا من القاهرة في اتجاه قناة السويس. وعند الضفة الغربية لقناة السويس شاهدنا مدخل « نفق الشهيد المهندس أحمد حمدي ». وتم أطلاق إسم أحمد حمدي على هذا النفق، لأن أحمد حمدي إستشهد عند قناة السويس عندما كان يقود قوات سلاح المهندسين المصري التي قامت بوضع الكباري فوق قناة السويس والتي عبرت عليها قوات الجيش المصري الثالث.
و« نفق الشهيد أحمد حمدي » تم بناؤه أسفل قناة السويس بطريقة الحفر المثقبي بالتعاون بين شركتي « كاجيما اليابانية » و« شركة المقاولون العرب » (بمنحة من اليابان مقدارها حوالي 60 مليون دولار).
وكان التفتيش والأمن عند « نفق أحمد حمدي » شديداً، وكأنك تدخل دولة أخرى غير مصر! وكل ذلك خوفا من هجمات إرهابية في سيناء،.وهذه من أكبر الأعراض الجانبية للإرهاب، أن المجرمين الإرهابيين يقومون بجريمتهم، ونعاني نحن جميعا من آثار جريمتهم من تفتيش وإجراءات أمنية شديدة في المطارات وعبر الحدود وغيرها.
المهم عبرنا أسفل قناة السويس بسلام ودخلنا قارة آسيا، صحراء سيناء ممتدة أمامنا على مد البصر، والطريق وقتها لم يكن على أفضل ما يكون، ولكني سمعت أن الطرق في سيناء قد تحسنت كثيرا. ولم نرَ على مرمى البصر سوى إستراحات ومنازل بدائية، وتعجبت كيف ترك المصريون لألاف السنين بدون تعمير هذه الصحراء الممتدة والتي تبلغ مساحتها 60 ألف كيلومتر مربع وهي حوالي ضعف مساحة فلسطين وإسرائيل ولبنان مجتمعين! وأحد الأسباب الأساسية في نجاح إسرائيل في اكتساح صحراء سيناء خلال أيام، وربما ساعات، خلال 11 سنة فقط (1956 و 1967) هي أنها صحراء جرداء ولا يوجد بها عمران أو كثافة سكانية تقاوم أي عدو في حالة الغزو.
وعندما قطعنا هذه المسافة الكبيرة من شرق قناة السويس وحتي مدينة « رفَح » المصرية، شكرت من كل قلبي كلا من الجيش المصري الذي عبر قناة السويس في 6 أكتوبر عام 1973، وشكرت أيضا الرئيس السادات بطل الحرب والسلام بدون منازع، والذي لولا مبادرته لكانت صحراء سيناء اليوم أرضا خصبة لمئات المستوطنات الإسرائيلية.
وعند وصولنا لمدينة « رفح » ورؤية سور السلك الشائك الفاصل بين مصر وإسرائيل على بُعد خفق قلبي بشدة، وتذكرت العداء التاريخي بين مصر وإسرائيل. وقلت لنفسي: كيف تجرأت ووافقت على القيام بتلك المهمة؟ ولكني تذكرت مرة أخرى الرئيس السادات وشجاعته التاريخية في سبيل السلام الذي حقّق “سلام الشجعان” بجد، ولم يتنازل عن شبر من أرض مصر، وحاول أن يخلق علاقات طبيعية بين مصر وإسرائيل/ ولكن أعداء السلام قتلوه. فقررت المضي في المهمة وعبور الحدود إستلهاماً لذكرى السادات.
وعبرنا جانب الجوازات المصري بدون مشاكل تذكر. ولكن المشاكل بدأت عندما وصلنا لنقطة التفتيش الإسرائيلية! فقد كانت نقطة الحدود الإسرائيلية على أعلى درجات الطوارئ والإستعداد بسبب الخوف من رد فعل على الجريمة الإرهابية في مسجد الحرم الإبراهيمي. وإفترضوا أن كل من يعبر الحدود الإسرائيلية هو إرهابي، حتى لو ثبت العكس. وفوجئت بأن ضابط التفتيش الإسرائيلي أخذني إلى غرفة منفصلة وحدي وأخذ يمطرني (بخليط من العربية والإنجليزية) بكافة الأسئلة الممكنة وغير الممكنة. ثم أخذ يفتش بدقة ورذالة متناهية كل قطعة في شنطة سفري. حتى معجون الأسنان لم يسلم من التفتيش. فكان الضابط يضغط على إنبوبة معجون الأسنان وقام بشم رائحة المعجون لكي يتأكد بأن معجون الأسنان الخاص بي ليس مادة متفجرة. كل هذا قبلته على مضض.
ولكن الضابط طلب مني أن أخلع ملابسي بإستثناء ملابسي الداخلية! في البداية رفضت، ولكنه أصر وقال لي بعربية مكسرة: « إذا لم تخلع ملابسك للتفتيش، فعليك أن ترجع إلى مصر”. أخيراً، خلعت ملابسي وأنا أشعر بإهانة شديدة لم أشعر بها من قبل في حياتي. وكان الضابط الإسرائيلي يتعامل معي بفوقية عجيبة، وبلغ من وقاحته أنه بعد إنتهاء عملية التفتيش المهينة قال لي بقرف شديد: “ممكن تعدي الآن”! وترك ملابسي وحاجياتي الشخصية مبعثرة على طاولة التفتيش ولم يحاول وضعها مرة أخرى في شنطتي كما يفعل الضباط في البلاد المحترمة. وأخذت أشتمه (في سري طبعا)!
وقررت تقديم شكوى شديدة. وبالفعل، إتصلت برئيسي الأمريكي (بيتر) فور وصولي للفندق في القدس، وحكيت له المعاملة المهينة التي عوملنا بها على الجانب الإسرائيلي، وقلت له أنني لن أحضر هنا مرة أخرى وعلى استعداد للإستقالة من الشركة إذا كانت هذه سوف تصبح طريقة المعاملة من الجانب الإسرائيلي. وقام (بيتر) على الفور عن طريق مكتب الشركة في ولاية نيوجيرسي بإرسال خطاب إحتجاج شديد اللهجة إلى « هيئة المعونة الأمريكية » بوزارة الخارجية الأمريكية وصورة من الخطاب إلى السفير الأمريكي في تل أبيب. وقال في الخطاب ما معناه أنه إذا كانت هذه هي طريقة تعامل ضباط التفتيش الإسرائيليين مع موظفي الشركة فإننا نعتذر عن المشروع.
وكان رد فعل الجانب الأمريكي والجانب الإسرائيلي سريعا. فوصلتنا رسالة اعتذار من مدير الجوازات على الجانب الإسرائيلي، وطلب مني أن أزوره في مكتبه عند عبوري المرة القادمة لكي يقدم اعتذاره شخصيا.
وقد حدث هذا بالفعل عندما عبرت الحدود الإسرائيلية مرة أخرى. فقد قابلت مدير الجوازات الذي أنهى إجراءات الدخول وأنا جالس في مكتبه، وإعتذر لي شخصيا عما حدث، وبرر تصرف الضابط الإسرائيلي بحالة التوتر التي كانت موجودة وقتها بسبب جريمة الحرم الإبراهيمي.
“ذكرياتي في فلسطين وإسرائيل”: الحلقة الثانية “اتفاقية أوسلو”