تعالج أجزاء الكتاب مشكلة هيمنة الطوائف التي فقدت محركها الديني الذي كان سبب نشأتها، وصار عامل محركها الأساسي العصبية وأصبحت غايتها السلطة. وصارت تُخضع الديني لمصالحها وغاياتها السياسية.
واعتمدت في ذلك مؤسسات كرستها كيانات سياسية تتوحد مقابل بعضها البعض، بالرغم من واقع انقساماتها الداخلية، وتتصارع فيما بينها بعد أن تمسك زمام أمور الطائفة والهيمنة عليها للوصول إلى السلطة باسمها.
وهذا ما جعله يستنتج أن المواطن اللبناني “مكبّل”؛ فمع أن الدستور يتوجه إلى اللبنانيين “كمواطنين”، يظل السؤال مطروحا إلى أي حد تحققت فعلاً هذه المواطنية.
يعدد بعض الشروط، سواء الأيديولوجية، التي يشير إليها “باللبنانوية” غامزاً من قناة ميشال شيحا وغيره، كما الاجتماعية والاقتصادية، التي ساهمت ببروز الفرد. لكن حقوقه فيما يخص الوظائف العامة الرئيسية السياسية والإدارية (والتي وسّعها العهد الحالي لتطال أصغر الوظائف)، تظل رهن انتمائه لمجموعة طائفية. كذلك الأمر فيما يتعلق بالأحوال الشخصية. فَصِلةُ المواطن بالدولة في لبنان لم تكن مباشرة في يوم من الأيام، بل تمر عبر العلاقات الطائفية المرتبطة بالنظام السياسي؛ ويمكن القول عبر زعاماتها المتحالفة فيما بينها للسيطرة على هذا النظام وتشغيله بما يتناسب مع مصالحها الخاصة. وتجعل الفرد نفسه ممزقا بين نظامين متعارضين للقيم واستراتيجيات العمل المختلفة العائدة لهما. وهو الآن يدفع ضريبة ارتهانه لهم.
يعيد ذلك إلى أنها دولة “غير مكتملة”، حيث بقي الاختلاف على تحديد هوية لبنان، حتى لحظة الاتفاق على ميثاق 1943 بين بشارة الخوري ورياض الصلح تحت شعار “لا غرب ولا شرق”. فتخلى المسلمون عن الوحدة العربية وقبلوا لبنانيتهم، وتخلى المسيحيون عن الالتحاق بفرنسا وقبولهم بعروبة لبنان.
رغم ذلك اندلعت الحرب الاهلية، على خلفية شعور المسلمين بالظلم؛ إذ كلما اقتربوا من اللبننة كان مسيحيو السلطة يتجاهلونهم ولا يقومون بأي إصلاحات. وهذا ما حصل مع الحركة المطلبية الطلابية والحركة الوطنية المعارضة حينها. ما رمى بهؤلاء في أحضان المقاومة الفلسطينية المسلحة التي كانت أُعطيت الحق باستخدام الجنوب كمنطلق لكفاحها المسلح ضد إسرائيل في اتفاق القاهرة بتواطؤ لبناني مسيحي وتشجيع شعبي مسلم.
نجد المؤلف الذي كان ينتمي إلى تيار الحركة الوطنية، ينحاز إليها ضمنياً، ويغفل انتقاد مسؤوليتها عن الحرب من خلال دعم منظمة التحرير غير المشروط على حساب السيادة. كما يتبنى خطابها اليساري في نقده للنظام الليبرالي “المتوحش”. بينما كان اقتصاد لبنان قبل انفجار الحرب من أقوى الاقتصادات مع صفر دين عام ووفّر نمطاً من العيش المشترك الهني، والتعليم العام بكفاءة عالية.. لم تكن المشكلة حينها في نمط الاقتصاد السائد، بل في عدم إعادة توزيع الثروة والاعتناء بإنماء المناطق.
الأمر الذي كان حققه فؤاد شهاب بنجاح واستعاد الولة المناطق الخارجة عن كنف الدولة ووضع أسس المؤسسات الرقابية التي حفظت توازن لبنان إلى أن قُضي عليها جميعها مؤخراً. واستطاع بمساعدة عبد الناصر، في اجتماع الخيمة الشهير على الحدود، تحييد لبنان.
لم يخترع شهاب نظاماً جديداً، بل حكم كرجل دولة نزيه ومسؤول ومحب لوطنه، من خلال آليات النظام السياسي نفسه، المشكو منه!!
ولقد أشار الكاتب إلى إصلاحات شهاب وممارساته ودورها في تعزيز الاندماج الاقتصادي والاجتماعي للمسلمين في الكيان اللبناني، الأمر الذي شجع تنامي طموحاتهم السياسية. لكن ورثة شهاب انقلبوا على سياساته وتجاهلوا مطالب المسلمين.
المشكلة إذاً ليست في النظام السياسي، بل رجاله وفي تطبيقهم المنحاز والزبائني وتبعيتهم للخارج.
فالتعديلات التي حصلت في دستور الطائف، والتي يشرحها بتوسع، لو طبقت لما وصلنا إلى هنا ولما احتاج المؤلف لوضع شرطه للإصلاح، قيام دولة قادرة وعادلة بعد القيام بالإصلاح السياسي ومركزيته، من أجل جمهورية ثالثة، تتحقق في العمل في تنفيذ أحكام الطائف التي لم تنفذ بعد. الآن لم يعد يكفي تنفيذ ما لم ينفذ، المطلوب أكثر من ذلك، المطلوب تقويم الممارسات التي شوهت دستور الطائف وكرست أعرافاً غير قانونية وغير دستورية.
المطلوب “الاستقلال الثالث” بحسب أنطوان مسرة.
من هنا ما يطالب به السياديون في ثورة 17 أكتوبر وما ورد في مبادرة بكركي من تحرير الشرعية وتطبيق دستور الطائف وقرارات الشرعية الدولية، كشروط للبدء باستعادة سيادة وحياد الدولة ووقف الانهيار.
لأن الشرط الثاني الذي وضعه هو “تصحيح اختلالاته بالاستناد إلى تعزيز دور مؤسسات الدولة وتحسين أدائها، مع احترام التوازنات الطائفية التي تعكسها بنى المؤسسات الكبرى للدولة”، دون أن يشير إلى توفير شروط السيادة. أن أي مس بالدستور في ظل هيمنة طرف يمتلك سلاحاً خارجاً عن شرعية الدولة مرفوض.
ثم إن استعجال إصلاح الطائف “بانتظار بروز ميزان داخلي يسمح بوضع لبنان على طريق فعلي لتجاوز الطائفية”؛ يجعل المشكلة تقنية يمكن معالجتها بانتظار تغير ميزان القوى. بينما اختلال ميزان القوى نفسه هو لمصلحة القوى الحاكمة التي تعمل على ديمومته لتمكين سلطتها بفضل قوة ضاغطة تعتمد على سلاح خارجي. ومعنى ذلك إغفال دور اللبنانيين، بانتظار تغير الظروف الخارجية! مع أن تجربة انتفاضة 2005 علمتنا أن وحدة اللبنانيين السياديين هي التي سمحت بالضغط الداخلي، الذي لاقاه الضغط الخارجي لإخراج السوري.
لا تكمن المشكلة في “هشاشة النظام السياسي اللبناني”، بل في موقعه كوطن صغير محاط بجيران طامعين ومحكوم من “طبقة سياسية” لم تطبق الدستور مرة واحدة بالروح المسؤولة وبالمواطنية التي أكد عليها المؤسسون الأوائل، وفي طليعتهم ميشال شيحا!!
يعلق « ريمون آرون » على ما يظهره « توكفيل » من بعض التشاؤم حيال إمكانية استمرار وجود أمم صغيرة لا تملك قوة الدفاع عن نفسها، إنه موقف يثير بعض الغرابة، بحيث نتساءل ماذا كان سيقول كاتبه أمام العدد الكبير من الأمم الصغيرة التي تبرز وغير القادرة على الدفاع عن نفسها؟
إن الأمم الصغيرة تكون قادرة على البقاء إذا ما توفرت لها الحماية اللازمة من النظام الدولي. من هنا مطالبة البطريرك بالمؤتمر الدولي .
monafayad@hotmail.com