رغم ان اشارات الانهيار الاقتصادي والمالي تعود لسنوات، الا انها تضاعفت كثيرا بعد عقد ما سمي بالتسوية الرئاسية التي اعقبت سنوات الفراغ الرئاسي.
هذه التسوية وما سبقها من اتفاقات ومصالحات ولقاءات جرى تبريرها بانها اتفاق الضرورة لوقف مسار الانهيار الاقتصادي الذي زاده الفراغ الرئاسي انحدارا، وقد وصفت بالمغامرة، وكثر هللوا لها بانها تعبير عن حكم الاقوياء في طوائفهم، بينما اطلق عليها معارضوها صفة المقامرة، على قاعدة ان المؤمن لا يلدغ من الجحر مرتين، مذكرين “بمآثر” الرئيس المنتخب والمفروض من الحزب المدجج بفائض القوة المسلحة.
اطلت “اعترافات” الانهيار على شكل زلات لسان من المسؤولين، رؤساء ووزراء، خصوصا منذ استقالة رئيس الحكومة من الرياض وعودته عنها لاحقا، مصحوبا بتعهدات سياسية لا يقوى عليها، وبالاعداد لمشاريع « سيدر » مع فرنسا واوروبا وبمشاركة خجولة اميركية وخليجية.
ومع ان اقرار خطة « سيدر » رافقها تعهدات اصلاحية ادارية ومالية، الا ان الممارسة كانت عكسية، مما زاد من العجزين التجاري والمالي، وفاقم من استنزاف البنك المركزي والمصارف التجارية بالاغراءات احيانا، وبالقرارات الحكومية والاكراه احيانا. وهذا ما ساهم بجعل كلفة تثبيت الليرة تتضخم.
هذا المسار تحول مع ارتفاع العجز وانسداد الافق الاقتصادي والسياسي وصولا للانعزال مع اطباق حزب الله على الحياة السياسية، الى دعم غير مباشر لاستمرار نمط حياة اللبنانيين وفساد وتخلف حكامهم، ومن اموال المودعين، خصوصا انها ترافقت مع الانتخابات النيابية الخالية من الدسم السياسي والمشبعة برشاوى السلاسل والبواخر والصفقات والتوظيفات العشوائية الزبائنية على ايقاع قانون انتخابي مذهبي.
شكلت سنة ٢٠١٩ سنة اعتمال الانهيار وتحوله الى واقع انفجاري مع استمرار هجرة الرساميل والودائع والاستثمارات، الخليجية والعربية عموما، خصوصا مع تحول الانقسامات والصراعات داخل الحكومة الى حالة مرضية رافقت نقاش الموازنة المفترض انها اصلاحية لتلبي متطلبات سيدر. وقد تحول النقاش الى مسلسل جدلي مزعج، ذكرنا بتصريح الوزير باسيل لمحطة السي ان ان، بان لبنان ممكن ان يعلم حكومات الغرب كيف تدير مالية الدولة دون موازنة، كما ذكرنا بجواب الوزير سيزار ابو خليل لمسؤول « «سيمنز » القادم مع المستشارة ميركل، ردا على العرض الالماني، بانه ابتدع وسائل تقنية جديدة لحل مشكلة الكهرباء سريعا، ما جعل هذا المسؤول يتمنى عليه تدريب مائة تقني الماني.
ظهر قيح الانهيار في ايلول ٢٠١٩ على شكل ارتفاع في سعر الصرف وهروب او تهريب ودائع معينة وبعض القيود على سحوبات التجار، بينما كان رئيس الدولة بوفده الفضفاض الى الامم المتحدة يتكل على الوزير باسيل في البحث عن لقاءات وهمية تخفف عنه وطأة الانعزال التي يعاني منها الجنرال المتكئ على ذمية مار مخايل، الا ان الانفجار انتظر قرار وضع بضع سنتات على مكالمات الواتس اب لتنطلق انتفاضة الغضب في ١٧ ت١.
لن نعود الى السرديات والتحليلات التي رافقت تلك المرحلة الزاخرة بالمعاني، الا اننا نكرر بان قصور الانتفاضة عن تحديد مصدر وطبيعة الازمة السياسية جعلها تطوش في مظاهر الانهيار الاقتصادي والمالي والنقدي وتداعياته المعيشية، خصوصا بعد انفجار ازمة القطاع المصرفي، وهو الذي كان يشكل الركيزة الأساسية للاقتصاد اللبناني.ورغم انه وقع ازمات قاتلة لبعض المصارف سابقا، الا ان ما حصل للودائع في الازمة الحالية بدا سورياليا، خصوصا انه ترافق مع اذلال اكثرية المودعين في موازاة تسهيلات لأصحاب النفوذ والمساهمين وعدم وضع قانون كابيتال كونترول من قبل السلطة الحاكمة، والتي اصبحت اكثر تسلطا وتسلبطا وقمعا بعد استقالة الحريري وتشكيل حكومة واجهة برئاسة حسان دياب.
لم يكن صعبا ابلسة المصارف وتوجيه الغضب نحوها ونحو المصرف المركزي ورئيسه، بموازاة تضخيم شعبوي لأزمة الامن الغذائي والجوع القادم، ساهم في تغذيته بعض المحاضرين الجوالين على خيم المنتفضين المتعطشين لسماع “اصحاب الاختصاص”.
شكل هذا الجو الضبابي المفخخ الارضية الشعبوية لقرار وقف دفع اليورو بوند حتى دون soft landing اي دون تفاوض مع اصحاب السندات على اعادة الهيكلة، رغم كل التحذيرات، من وكالات التصنيف ومن اقتصاديين جديين، من تداعيات هكذا قرار على سعر الصرف والقطاع المصرفي، نتيحة انهيار الثقة، وانعكاسه على العلاقة مع المصارف المراسلة وعملية الاستيراد.
وقد استبطن هذا القرار، الذي دفع له من الخلف حزب الله والفريق العوني، حجز الاموال عمليا في مصرف لبنان للاستهلاك !!
لطالما هوجم رياض سلامة على اتباع سياسة ريعية بتغطية العجز وبتثبيت سعرالليرة(وهي سياسة الحكومة) خصوصا ممن تسببت سيطرتهم على البلد، وعزله عن مجاله الحيوي وضرب مؤسساته الدستورية، باضعاف الاقتصاد ورفع كلفة تثبيت الليرة. ومع ذلك فان الضغط على الحاكم لاستنزاف ما تبقى من اموال لم يتوقف.
ثم كيف يوفق المعارضون على تنوعاتهم والثوريون من كل الضفاف بين الدعوة للحفاظ على ما تبقى من اموال المودعين (الذين اجبروا على « هيركات » تلقائي مستمر مند انفجار الازمة) وبين الواقع على الارض، حيث سكت الجميع عمليا رغم بعض الندب واللطم والانسلاخ، عن اكثر من سنة ونصف من هدر المليارات بنزف لم يطال منها الفقير والمستحق سوى النزر القليل، فضاع معظمها في التهريب المحمي من حزب الله في الداخل والخارج وخصوصا الى سوريا، ولجيوب بعض التجار الجشعين، كما للطبقة الميسورة وباقي المقيمين غير اللبنانيين، علما ان الهدر والفساد والسرقة لم تتوقف.
ويعود الحديث ليدور من جديد عن البطاقة التمويلية وترافقه مفردة الارتطام في حال توقف الدعم بسبب من الوصول لحافة الاحتياطي الالزامي، علما انه ليس دعما بل نزفا لانه لا يأتي من مالية الدولة بل من اموال المودعين عمليا.
لا شك بان الانسداد السياسي والحكومي، وتراجع فكرة حكومة المهة المستندة على المبادرة الفرنسية سيجعل فكرة الارتطام اكثر تداولا، خصوصا بعد الارتباك الفرنسي.
ومع تأكيدنا على العلاقة الخاصة والتاريخية التي تربط فرنسا بلبنان والرغبة الفرنسية الدائمة والحارة بمساعدة اللبنانيين، فاننا لن نؤخذ بمشهدية قصر الصنوبر الانتقائية، والتي يعتورها ايضا تحييد فرنسا للاحتلال الايراني لبلاد الارز وان بواسطة فريق لبناني، علما ان حليفه العوني هو من يعطل حكومة المهمة وبحماية منه.
اما تشجيع المعارضة الشعبية، فكان يمكن ان يكون اجدى لولا ساهمت فرنسا بعد الانفجار المجرم بدعم حركة الغضب التي اعقبت هذا الانفجار، خصوصا ان شعاراتها طاولت سلاح حزب الله والقضية السيادية بشكل صارخ للمرة الاولى.
يوجد خلافات اساسية ضمن المجموعات والجبهات المعارضة في لبنان، ومع ذلك يمكن الاتفاق على بعض القضايا. فرغم انه لا يختلف اثنان على ان الانهيار الاقتصادي مرتبط بالانهيار السياسي والسيادي، الا انه يمكن التعاون والضغط لفرملة الارتطام، اذ ان الفوضى الاجتماعية لن تفيد اي جبهة معارضة، علما انها تأخرت كثيرا بعد ان استنزفت السلطة مليارات الدولارات واخترقت مظاهر الانهيار جميع القطاعات والمرافق والمؤسسات. وهذا يتطلب ان تأخذ قوى الاعتراض والتغيير على عاتقها مهمة وضع تصور لكيفية المزاوجة بين وقف استنزاف المصرف المركزي وسرقة اموال المودعين وتخفيف اثار الانفجار الاجتماعي، وفي الدرجة الاولى وقف معادلة رشوة مواطنين من اموال مواطنين اخرين وما يرافقها من تهريب وسرقة وهدر وإذلال.
ومع ان الجميع بات يقر على ان الخطوة الاولى هي في تحرير جزء من الودائع، فان الشيطان يكمن في التفاصيل، وفي لبنان يوجد انصاف الهة وفائض من الشياطين. واذ رمى مؤخرا رياض سلامة ببيانه الذي ستدور حوله مبارزات الشياطين، فلماذا لا تتقدم ملائكة المعارضة وترمي بفائض من الخبراء الأقوياء في الحلبة وتحشد حولها جمهورا ينخرط دفاعا عن حقوقه وعن قطاعاته الحيوية وفرص عمله في مواجهة سلطة الشياطين التي ستتابع عملية الرشوة والابتزاز والسلبطة ببطاقة تمويلية او بغيرها، مستعملة كل اساليب السلبطة حتى عصر اخر فلس عند الارملة وربما وصولا لسبائك المعدن الاصفر. حينها سينهار كل شيء وتصبح اعادة النهوض أضغاث احلام والصوملة امر واقع. وربما ينقلب المثل من “هنيال اللي عنده مرقد عنزة بلبنان” الى “هنيال اللي عنده قرايب بالغربة حتى لو بفنزويلا” واللي ما عنده حدا بالغربة يلتحق بالركب المشرقي والقرض الحسن.