كريم سجادبور باحث أول في مؤسسة كارنيغي للسلام الدولي، تركّز أبحاثه على الشؤون الإيرانية والسياسة الخارجية الأميركية في الشرق الأوسط. كتب سجادبور مؤخرًا مقالًا مهمًّا في مجلة « ذي أتلانتيك » حدّد فيه الأسس اللازمة لاتّباع نهج أميركي واقعي أكثر حيال إيران. أجرت “ديوان” مقابلة معه في أوائل نيسان/أبريل لمناقشة مقاله، وتلمّس معالم العلاقة الراهنة بين واشنطن وطهران، فيما تسعى إدارة بايدن إلى إعادة الولايات المتحدة إلى الاتفاق النووي المُبرَم مع إيران.
مايكل يونغ: كتبتَ مؤخرًا في مجلة ذي أتلانتيك مقالًا بعنوان “كيف تربح الحرب الباردة مع إيران“. ما الفكرة الرئيسة التي تقدّمها؟
كريم سجادبور: حاولتُ الإشارة إلى أبرز العبر التي استخلصتها على مدى عقدين من التفكير في إيران والسياسة الأميركية تجاهها. فخلال الربع الأول من حياتي المهنية عشتُ بين طهران وبيروت، ثم أقمتُ في واشنطن العاصمة.
تتطلب أي استراتيجية أميركية فعالة حيال إيران إجراء تقييم صريح عن طبيعة الجمهورية الإسلامية من خلال التطرّق إلى أسئلة ثلاث رئيسة هي: هل الجمهورية الإسلامية قادرة على إجراء إصلاحات يُعتد بها؟ وهل باستطاعتها التخلّي عن النهج المعادي لأميركا الذي يُعتبر جزءًا من إيديولوجيتها الثورية؟ وما احتمال أن تغيّر سياساتها الإقليمية الراسخة، بما في ذلك موقفها من وجود إسرائيل وسعيها إلى إنشاء ميليشيات إقليمية مثل حزب الله؟
في بداية حياتي المهنية، كنتُ واثقًا من أن الإجابة على كل هذه الأسئلة هي “نعم”. لكن، مع مرور الوقت وصلتُ إلى خلاصة معاكسة مفادها أن الجمهورية الإسلامية، على غرار الكثير من الأنظمة الثورية، عاجزة عن التغيير الجذري على الأرجح، ولا سيما اليوم بعد أربعة عقود، وذلك لجملةٍ من الأسباب.
والسؤال الذي يطرح نفسه هو: كيف ينبغي أن تقارب الولايات المتحدة نظامًا إيرانيًا يحتاج أميركا خصمًا له، لكنه أساسي لعدد من قضايا الأمن القومي الأميركي؟ كتبتُ أن الأمر “يتطلّب أن تتحلّى الولايات المتحدة بمرونة لاعب جمباز ودقّة جرّاح كي تتمكّن من التعاون مع إيران عندما يكون ذلك ممكنًا، والتصدّي لها عند الضرورة، واحتوائها بمساعدة الدول الحليفة”. لكن إذا اكتفت الاستراتيجية الأميركية بالتركيز فقط على الطموحات النووية والإقليمية لطهران، غافلةً عن الطموحات الديمقراطية للشعب الإيراني، فإنما هي تتجاهل الدروس التي قدّمتها نهاية الحرب الباردة.
يونغ: نقلتَ في مقالك عن الرئيس الإيراني الأسبق محمد خاتمي قوله إن المرشد الأعلى الإيراني آية الله علي خامنئي أخبره أن “إيران والثورة بحاجة إلى العداء مع الولايات المتحدة”. هلّا تشرح مقصد خامنئي، وهل يمكن برأيك الحديث عن تطبيع العلاقات بين واشنطن وطهران على ضوء تصريح كهذا؟
سجادبور: أخبرني خاتمي بذلك خلال اجتماع خاص في أوسلو في العام2008 . فاجأتني صراحته معي، وكذلك صراحة خامنئي معه. يرى خامنئي أن خصومة إيران مع الولايات المتحدة ركنٌ إيديولوجي من أركان الثورة، وجزءٌ لا يتجزأ من هوية الجمهورية الإسلامية. فثقافة “الموت لأمريكا” لا تخدم المصالح القومية لإيران، أي المصالح الاقتصادية والأمنية للشعب الإيراني، بل تخدم مصالح خامنئي الضيقة الأفق، إذ يدرك جيدًا أن البيئة المغلقة هي الطريقة الفضلى للحفاظ على نفوذه، لذا يحتاج إلى خصم خارجي كذريعة للإخفاقات الداخلية والقمع.
باختصار، طالما أن خامنئي على قيد الحياة، لن يجري تطبيع العلاقات بين الولايات المتحدة وإيران. وأعني بالتطبيع فتح سفارة أميركية في طهران وسفارة إيرانية في واشنطن العاصمة. وهذه ليست حجة ضد خفض التصعيد مع إيران، لكن علينا أن نكون واقعيين حيال ما يمكن إنجازه.
يونغ: تجادل بأن الصيغة الأمثل للتعامل مع إيران تستند على “احتوائها والتصدّي لها والتواصل معها”، بشكل يشبه إلى حدٍّ ما النهج الذي اتّبعته الولايات المتحدة مع الاتحاد السوفياتي سابقًا. هلّا تفسّر ذلك؟
سجادبور: من المهم السعي إلى إرساء قناة اتصال رسمية خاصة مع الجمهورية الإسلامية، وإن استُخدمت فقط للتعبير عن الهواجس المشتركة أو تحديد “الخطوط الحمر”. فقد كانت مثل هذه القناة قائمة بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي في عزّ الحرب الباردة. صحيحٌ أن هذه القناة لن تحقّق السلام بين طهران وواشنطن، لكنها قد تساعد في تجنّب نشوب النزاعات.
ولا شك أن الولايات المتحدة ستضطر أحيانًا إلى التصدّي للاستفزازات الإيرانية. فإذا شنّت إيران أو وكلاؤها هجمات على طاقم العمل الأميركي أو شركاء الولايات المتحدة في الشرق الأوسط ولم تلقَ ردًّا من واشنطن، قد يزيد ذلك طهران جرأةً فتعتقد أن بإمكانها فعل ما تشاء من دون محاسبة. لذا، يكمن التحدي الماثل أمام الولايات المتحدة في مواجهة إيران بهدف ردعها وليس بهدف إثارة تصعيد جديد.
وسيتمحور جزء كبير من السياسة الأميركية تجاه إيران حول احتواء مطامحها النووية والإقليمية. ولا يمكن لواشنطن تحقيق ذلك بشكل أُحادي، بل تحتاج إلى التعاون والدعم النشط من حلفائها الدوليين وشركائها الإقليميين.
يونغ: تأتي أيضًا على ذكر نقطة أساسية مفادها أن من غير الواقعي للولايات المتحدة فتح النقاش حول ملفات منع انتشار الأسلحة النووية، والأمن الإقليمي، والحقوق المدنية الإيرانية كلها في إطار عملية تفاوضية واحدة، وهو الأسلوب الذي قد تعتمده إدارة بايدن في سياق إعادة إحياء الاتفاق النووي. ما الذي تقترحه بديلًا عن ذلك؟
سجادبور: أشعر بأن إدارة بايدن لا تريد توسيع نطاق المفاوضات النووية مع إيران لتشمل سياسات طهران المحلية والإقليمية. وأعتقد أنها اختارت مقاربة حذرة، وأن التحدي يكمن في كيفية التوفيق بين هذه الأولويات الثلاث بدلًا من التركيز على أوجه التناقض في ما بينها. حين وقّع الجانبان على خطة العمل الشاملة المشتركة، أي الاتفاق النووي مع إيران في العام 2015، شعر العديد من الناس الذين كانوا قلقين من مطامح إيران الإقليمية ومن القمع الذي تمارسه محليًا، بأن هواجسهم تمت التضحية بها على مذبح الاتفاق النووي. لذا، ينبغي صياغة استراتيجية حيال إيران تكمّل بموجبها هذه الأهداف بعضها بعضًا بدل أن تكون متناقضة.
يونغ: تعتبر بعض الدوائر في الولايات المتحدة أن إدارة بايدن ليست سوى نسخة أخرى من إدارة أوباما في تعاملها مع الملف الإيراني. بما معناه أنها تسعى، من خلال إعادة إحياء الاتفاق النووي، إلى دوزنة موقفها من إيران في المنطقة والاعتراف بمصالحها الإقليمية، على حساب حلفاء واشنطن مثل دول الخليج وإسرائيل. هل من مؤشرات تدلّ على ذلك؟
سجادبور: تجدر الإشارة إلى أن إيران تحتّل على قائمة أولويات إدارة بايدن مرتبة أدنى مما كانت عليه خلال إدارة أوباما، إذ يمكن فهم رغبة بايدن في تكريس وقته ورصيده السياسي لتطبيق أجندة طموحة على المستوى المحلي، وليس على مستوى الشرق الأوسط.
علاوةً على ذلك، ثمة فارق مهم آخر. فقد أملت إدارة أوباما أن يسهم الاتفاق النووي في تغيير السياسة الإيرانية وشكل العلاقة التي تربط واشنطن بطهران. فقد كتب مدير وكالة الاستخبارات المركزية الأميركية في إدارة أوباما جون برينان، في مذكراته التي نشرها في العام 2020 بعنوان Undaunted: My Fight Against America’s Enemies, At Home and Abroad (بلا هوادة: معركتي ضد أعداء أميركا، في الداخل والخارج) أن أوباما اعتبر الاتفاق النووي “ضروريا ليس فقط لإرساء الاستقرار الإقليمي بل أيضًا لتعزيز نفوذ الإيرانيين المعتدلين، ولا سيما الرئيس حسن روحاني ووزير الخارجية محمد جواد ظريف”. لا أعتقد أن بايدن وكبار مستشاريه يتوهّمون أن السياسات الإيرانية الداخلية والإقليمية ستصبح أقل تشددًا بعد إعادة إحياء الاتفاق النووي، أو أن آية الله علي خامنئي يهتم بإقامة علاقة تعاون مع الولايات المتحدة.
يونغ: كتبتَ أن على حلفاء واشنطن الإقليميين عدم السماح لإيران بدعم وكلائها وانتهاك سيادة بلادهم. فيما قد تستطيع بعض الدول القيام بذلك، تُعتبر دول أخرى مثل لبنان أو العراق أو اليمن أو سورية عاجزة عن ذلك أو ببساطة لا تريد القيام بذلك. ما الحل برأيك لهذه المعضلة؟
سجادبور: تمتلك الدول التي ذكرتها، أي لبنان والعراق واليمن وسورية، حكومات ضعيفة أو مُنهكة، فضلًا عن مجتمعات تزداد استقطابًا على نحو مطّرد وترى في إيران إما حليفًا لا غنى عنه أو تهديدًا وجوديًا. وقد أثبتت طهران، من خلال زرع الميليشيات في المنطقة، أنها أكثر براعة من أي دولة أخرى في الشرق الأوسط في ملء الفراغ القائم في السلطة.
كتبتُ أن “اضطرابات العالم العربي تسهّل تحقيق الطموحات الإيرانية التي تتغذّى بدورها من هذه الاضطرابات”. بما معناه أن الطريقة الفعالة الوحيدة لكبح النفوذ الإيراني تتمثّل في إعادة بناء المؤسسات الحكومية العربية والتخفيف من حدّة الاستقطاب المجتمعي، لكن تنفيذ ذلك صعب للغاية، وسيستمر على الأقل لأجيال مقبلة ويتطلّب قيادة دبلوماسية من جانب الولايات المتحدة وشركائها الدوليين والإقليميين.
لكن الوضع ليس ميؤوسًا منه كما قد يبدو للوهلة الأولى. أولًا، يبرز راهنًا استياء متنامٍ من النفوذ الإيراني، حتى داخل الطائفة الشيعية في العراق ولبنان. ثانيًا، تملك دول الخليج موارد لا تملكها طهران تسمح لها الدخول في منافسة لاستمالة العرب في الدول التي تتمتع فيها إيران بالنفوذ. ثالثًا، تُعتبر أوروبا جهة مستقبلة للاجئين بعد أزمة اللجوء التي ساهمت بها إيران وحلفاؤها الإقليميون، وقد ترغب في تغيير هذا الوضع القائم. أخيرًا، تتمتّع الصين بعلاقات اقتصادية أعمق مع السعودية والإمارات من إيران، وهي تسعى إلى إرساء الاستقرار في الشرق الأوسط لضمان التدفق الحر للموارد من المنطقة. علاوةً على ذلك، التزمت الصين بدعم الجهود التي تقودها الولايات المتحدة لاحتواء طموحات إيران النووية، وأعتقد أن ثمة حاجة إلى إطلاق مبادرة دبلوماسية عالمية مماثلة بقيادة واشنطن لمعالجة الوضع الأمني في الشرق الأوسط، بما في ذلك طموحات إيران الإقليمية.
يونغ: قدّمتَ في مقالك حجة مثيرة للاهتمام مؤيدة لإعادة إحياء الاتفاق النووي، مفادها أن تحسّن الظروف الاقتصادية في إيران قد يزعزع استقرارها في حال لم تلبِّ الدولة توقعات السكان. هل يمكنك شرح التسلسل المنطقي لهذه المسألة؟
سجادبور: ذكر عالم الاجتماع الأميركي جيمس ديفيز في العام 1969 أن الانتفاضات الشعبية تحدث أحيانًا في الدول “بعد فترة طويلة من النمو الاقتصادي والاجتماعي التي تليها فترة قصيرة من الانتكاس الحاد”. بعبارة أخرى، تطرأ الاضطرابات السياسية في غالب الأحيان ليس بسبب الفقر المدقع، بل عندما يؤدي تحسُّن الظروف الاقتصادية في مجتمع ما إلى ارتفاع سقف توقعات الناس من دون تحقّقها. ويُطلق على هذه النظرية اسم “منحنى جي” (أو J-Curve) أو ثورة التوقعات الصاعدة، وغالبًا ما تُستخدم لتفسير اندلاع الثورة الإيرانية في العام 1979.
ويخشى العديد من معارضي الجمهورية الإسلامية أن تسفر إعادة إحياء الاتفاق النووي عن تخفيف العقوبات المفروضة على إيران، ما سيوطّد أركان النظام. لكن الأكثر ترجيحًا هو أن يتسبب التحسّن الاقتصادي الناجم عن رفع العقوبات الأميركية في المدى القريب بزعزعة استقرار الجمهورية الإسلامية على المديين المتوسط والطويل بدلًا من تعزيزها. وحين يزداد الإيرانيون إدراكًا بأن قيادتهم، وليس الولايات المتحدة، هي ما يحول دون توفير مستقبل زاهر لهم، ستُستخدم القومية الإيرانية، وهي الإيديولوجيا الأقوى في البلاد، ضدّ النظام وليس في خدمته.
يونغ: ذكرت في مقالك أن التاريخ ليس حليف الجمهورية الإسلامية لأنها تفتقر إلى آليات التجديد الديمقراطي. لكن الأنظمة السلطوية تبدو اليوم أفضل حالًا بكثير مما كانت عليه قبل عقد من الزمن، فلماذا يصحّ هذا الأمر حُكمًا؟
سجادبور: الجمهورية الإسلامية في وضع فريد، إذ إنها ليست سلطوية إلى حدٍّ بعيد في المجال السياسي فحسب، بل أيضًا في المجالين الاجتماعي والاقتصادي أيضًا. فهي تمضي وقتًا طويلًا وتنفق أموالًا طائلة على التحكّم بما يقوله مواطنوها، وما يرتدون ويشربون ومن يحبون وماذا يقرؤون ويشاهدون.
إيران اليوم عبارة عن نظام ثيوقراطي يحكمه رجال دين طاعنون في السن، يرأسون مجتمعًا يزداد علمانيةً باطّراد وتُعدّ نساؤه الشابات الأفضل تعليمًا. يعتمد الاقتصاد الإيراني إلى حدّ كبير على بيع النفط والغاز في وقت يتراجع اعتماد العالم على الوقود الأحفوري. وعلى عكس الصين، التي قدمت لمواطنيها قدرًا أكبر من الازدهار فيما حرمتهم من الحرية السياسية، تمارس إيران القمع السياسي والاقتصادي والاجتماعي من دون أي جانب مشرق. ومع أن القمع والتخويف قد يبقيان على هذه التناقضات لسنوات، لا يمكن أن يستمر ذلك إلى الأبد. وهنا ينطبق قول جون إف. كينيدي، بتصرّف: من يجعل الإصلاح السياسي مستحيلًا يجعل الثورة السياسية حتمية.