الانقسام الأوروبي في أزمات شرق المتوسط وعدم قدرة أوروبا على تنظيم حوار مع روسيا بالإضافة إلى عدم توحيد الموقف من خطط الصين تهمش الاتحاد الأوروبي أكثر وتفقده عناصر قوته الاقتصادية ووزنه.
أقرت رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لاين، ولو بشكل موارب، بالفشل الصارخ لاستراتيجية التطعيم الأوروبية ضد فايروس كورونا المستجد. ولا يقتصر الأمر على التأخر في السباق العلمي لإنتاج اللقاحات أو في إدارة الأزمة بل يؤكد انكشاف الاتحاد الأوروبي لعدم تمتعه باستقلال ذاتي صناعي في المجال الطبي ومجالات أخرى، ويكثر التساؤل عن فعالية هذا القطب التجاري والاقتصادي في عولمة تنافسية غامضة المعالم في هذه المرحلة.
وكان الكثير من الأقطاب الأوروبيين يلقون باللوم على الترامبية لتبرير الخلل البنيوي في الأداء الأوروبي، واليوم مع إدارة جو بايدن واحتدام التجاذب داخل الثلاثي الأميركي – الروسي – الصيني وفي حقبة ما بعد البريكست، يبدو الاتحاد الأوروبي إمبراطورية من دون عظمة ومن دون آفاق إذا لم تحصل إعادة تقييم لدوره واستنهاضه وهذا يفترض اتضاح المسار المستقبلي للصلة مع وراء الأطلسي وانتظار الانتخابات الرئاسية الفرنسية والانتخابات العامة الألمانية في العام القادم.
دفعت بلدان الاتحاد الأوروبي ثمنا باهظا بشريا واقتصاديا جراء جائحة كورونا منذ بدايات 2020 وتكبدت أكثر من 580 ألف ضحية، وكانت من أخطر بؤر تفشي الوباء بعد الولايات المتحدة. ونظرا إلى عدم استباق الأزمة الصحية وعدم توافر المستلزمات الطبية وعدم المسارعة للتضامن مع الدول الأكثر تضررا مثل إيطاليا وإسبانيا، تحرك الاتحاد الأوروبي واستثمر أموالا هائلة من أجل تأمين اللقاحات وتعاقد بسرعة على تأمين 2.575 مليار جرعة وتعهد بالمساهمة في إيصال اللقاح إلى الدول الفقيرة. لكن عند البدء بالتطعيم في أواخر ديسمبر الماضي، أخذت تنكشف الثغرات والتأخر الكبير ليس فقط بالقياس مع الصين أو الولايات المتحدة بل مع دول مثل الإمارات العربية المتحدة وإسرائيل، والأدهى كانت خسارة أول معركة ما بعد البريكست مع لندن. مقابل رهان حكومة جونسون على إكمال التلقيح آخر هذا الربيع، تبدو دول الاتحاد الأوروبي متأخرة وأتى الجدل حول تداعيات لقاح أسترازينيكا ليعقد الموقف أكثر.
وحسب آخر الإحصاءات يمكن أن تكلف عملية إعادة الاحتواء الصحي والاقتصادي ما بين 7.5 و16 مليار يورو. ومن الجلي تعثر المفوضية الأوروبية بغموض أساليبها وطغيان البيروقراطية لهيكلية بروكسيل حيث كانت هناك نقاشات طويلة تتعلق بالمسؤولية القانونية للمختبرات. كما تعثرت المفاوضات بسبب رغبة المفوضية في تأمين أفضل الأسعار للقاحات القادمة، بينما لعبت الولايات المتحدة وإسرائيل ورقة “مهما كان الثمن”. وكان ذلك نتيجة عدم توقع وتنبه الاتحاد الأوروبي لاندلاع “سباق جرعات اللقاح” والقيام بدور استباقي فيها.
مرة أخرى، يبرهن القادة الأوروبيون عن عدم القدرة على الاستجابة الجماعية للأزمة ويبدو أن شعار “في الوحدة قوة” لم يكن ناجعا وفق هذه الصيغة عكس ما تمناه الذين أسسوا الفكرة الأوروبية على أساس الوصول إلى تقاسم التنمية والنمو. انطلق هؤلاء من مقولة أن الدول الأوروبية القديمة ستصبح صغيرة مع التطور الجيوسياسي، ومن ناحية المساحة والسكان والناتج المحلي الإجمالي، وستكون في لحظة ما خارج التاريخ. وبالتالي فإن الخلاص يكمن في إنشاء “قوة أوروبية”، لتصبح الكيان الوحيد القادر على التأثير في عالم الغد وطي التناحر الأوروبي الداخلي المزمن وبناء السلام والاستقرار والازدهار.
وبعد الحرب الباردة في نهاية التسعينات والوحدة المالية عبر اليورو والتوسيع الكبير عام 2004، لا يزال من يراهن على الاتحاد الأوروبي بالرغم من نكسات ما بعد 2016 والبريكست، أنه القوة المطلوبة لمواجهة عولمة تتميز اليوم باحتدام التنافس الصيني الأميركي. لكن استمرار غياب البعد السياسي الموحد وفقدان الاستقلالية الاستراتيجية والعسكرية، بالإضافة إلى عدم النجاح في إدارة الأزمات وآخرها أزمة جائحة الفايروس التاجي، أخذ يبدد الآمال حول أداء الاتحاد ومستقبله ووزنه في معادلة القوة الجديدة في العالم.
راهنت غالبية الدول الأوروبية على رحيل إدارة دونالد ترامب ووصول إدارة بايدن. من الناحية النظرية تكلم الطاقم الجديد من واشنطن على تعزيز التحالفات لكن ذلك لصالح وجهة النظر الأميركية. ولوحظ عدم تغير موقف واشنطن بين إدارة وأخرى إزاء خط السيل الشمالي للغاز الروسي نحو ألمانيا، ولم يهتم الجانب الأميركي كثيرا باقتراحات الأوروبيين أو مخاوفهم حيال مستقبل الاتفاق النووي مع إيران ومن الواضح تفضيل المعنيين وراء الأطلسي بالمعالجة الثنائية المباشرة حسب التوقيت الأميركي. والأدهى أنه مع مجابهة بايدن – بوتين الأخيرة وجلسة ألاسكا الحامية بين الأميركيين والصينيين، بدا وكأن القوى الأوروبية موجودة خارج المعادلة التي هي قيد التبلور لإعادة تشكيل النظام الدولي.
وتجدر الإشارة إلى أن “دليل استراتيجية الأمن القومي” الذي أصدرته حديثا إدارة بايدن تناول أوروبا لماما عندما حدد أن “الوجود العسكري الأقوى للولايات المتحدة سيكون في منطقة المحيطيْن الهندي والهادئ، وأوروبا، من أجل ردع أعدائنا والدفاع عن مصالحنا”.
وفيما تركز هذه الوثيقة على أن الصين باتت “التحدي الجيوسياسي العالمي الأهم في القرن الحادي والعشرين” وعلى أن “التهديد” الذي تفرضه روسيا المصرة “على تعزيز نفوذها العالمي، والقيام بدور يتسبّب في حالة من الفوضى على الساحة العالميّة” تم تجاهل الإشارة إلى الدور الأوروبي المنتظر إلى جانب التوجهات الأميركية.
إن الانقسام الأوروبي في أزمات شرق المتوسط والضعف أمام سياسات أردوغان، وعدم قدرة أوروبا على تنظيم حوار مع روسيا لتقنين العلاقات وعدم العودة إلى صراعات قديمة، بالإضافة إلى عدم توحيد الموقف من خطط الصين وطموحاتها، تهمش الاتحاد الأوروبي أكثر وتفقده عناصر قوته الاقتصادية ووزنه داخل حلف شمال الأطلسي والمؤسسات الدولية. بعد كشف أزمة جائحة كورونا المستور من الضعف الأوروبي، لا بد من التدارك كي لا تتزعزع الفكرة الأوروبية في زمن الهويات القاتلة وعودة نمو الأفكار القومية والوطنية.