كثرت اعداد الجرحى جراء كلمة #نصرالله في “يوم الجريح”. فقد طالت تعليماته وإنذاراته جميع المسؤولين، السياسيين والماليين والامنيين، حيث حدد لهم جميعا مهامهم، مهددا باللجوء الى تدخلات مباشرة من حزبه اذا لم ينفذوا ما هو مطلوب منهم. وشملت هذه التعليمات والانذارات، رئيسَي الحكومة، المستقيل والمكلف، حاكم مصرف لبنان والقوى الامنية، فضلا عن الذين يلجأون الى قطع الطرق، منهيا كلمته بأنه اذا اصبح الانهيار او الجوع حقيقيا فسيلجأ الى وسائله الخاصة والى خيارات كبيرة.
وحده رئيس الجمهورية نجا من تعليماته، ربما لان نصرلله يعلم بالممارسة، ان الرئيس لا يحتاج الى تعليمات ليقوم بما يجب ان يقوم به.
تصرَفَ نصرالله كأمين عام لحزب شمولي اصيل، فقد شملت تدخلاته المجالات كافةً. وكان لافتا كالعادة، تغيّرُ نبرته عندما انتقل من الشأن المذهبي الى الشأن الوطني. فعند كلامه عن “الجريح المقاوم”، او عن ائمة الشيعة ومعاناتهم وجروحاتهم، بدا عاطفيا متعاطفا، وتعاطفنا معه، لكنه عندما انتقل إلى الكلام عن المسائل الوطنية، لبس لباس المحلل، وراح يتعاطى مع المشكلات ببرودة لافتة، متناسيا ان شعبه كله مجروح وجروحاته تنزف دما وقهرا نتيجة سياسات الطبقة السياسية التي يصر على ان يكون هو حارسها الامين. وكان لانتفاضة ١٧ تشرين حصتها من صواريخه الدقيقة، فأصابها مباشرة في القلب. لقد طعن في هويتها، وفي أهدافها ووسائلها.
فبالنسبة اليه، الشعب الذي تحرك ابتداءً من ١٧ تشرين ٢٠١٩، رجالا ونساء، عمالا وطلابا، شبانا وشابات، كهولا واطفالا، انما تحرك بدفع من السفارات. يبدو ان نصرالله لم يعد قادرا، بعد ارتهانه هو والطبقة السياسية اللبنانية للخارج، على تصور بشر يتحركون بملء اراداتهم.
لم يرَ نصرالله في انتفاضة الشعب اللبناني سوى “سبب” من اسباب الازمة الوطنية اليوم، معتبرا اياها أحد الاسباب التي عدّدها. ولم ينتبه نصرالله انه بذلك يقلّد منتقديه، الذين يعتبرون المقاومة سببا للازمة، في حين انها بحسب رأيه نتيجة للاحتلال الاسرائيلي. فالامر نفسه ينطبق على #الانتفاضة، التي هي نتيجة لسياسات الطبقة السياسية التي ينتمي اليها نصرالله ويحميها بسلاحه. وليست مصادفة ان تطرح الانتفاضة شعار “كلن يعني كلن” وتصرخ في الشوارع مطالبة بحكومة انتقالية مستقلة. وبدل ان يتفهم نصرالله دوافع هذا الشعار او يراعيه على الاقل، ولو مسايرة لشعبه المتألم، ها هو يصر على حكومة تكنو – سياسية يتمثل فيها “كلن يعني كلن”. وهذه ممارسة، اقل ما يقال فبها، انها سادية في حق شعبه.
مواقف نصرالله تتجاهل، لا بل تنقض، مطلبين لدى بعض مجموعات الانتفاضة، لا سيما تلك ذات النزعة “اليسارية” التي تؤيد حزبه، او تراعيه. مطلب سياسي وآخر مالي إقتصادي. فبعض المجموعات تطالب بإسقاط “النظام السياسي الطائفي”، معتبرة إياه سببا رئيسيا في توليد الازمات الدورية. في حين ان نصرالله لم يُدرِج النظام الطائفي من بين الاسباب التي عددها والتي تقف وراء الازمة الحالية.
موقف نصرالله هذا، مفهوم.
اولا لأنه نصرالله يريد إبقاء النظام القائم الذي يعطل نفسه بنفسه ويسمح له بإدارة اللعبة السياسية من خارجها، تماما كما كان يفعل النظام السوري عندما كان يهيمن على لبنان بجيشه. وليس توزيعه للتعليمات على اركان النظام المتصادمين أبدا، وإلتزامهم بها، الا مثالا صارخا على كيفية إدارته للعبة. وإذا اراد نصرالله تغيير النظام فبغرض تعديل موازين القوى المذهبية داخله، وليس أكثر.
ثانيا، لان نصرالله يعرف من موقعه المؤثر في المسار السياسي العام، ان هذا النظام لم يعد طائفيا بل مذهبي، ويشكل عنصرا في نظام مذهبي اقليمي، تديره إيران ويشمل الى جانب لبنان، سوريا والعراق. وهذا ما يفسر قول وزير الدفاع الايراني حديثا، ان الاحتجاجات في لبنان والعراق موجهة ضد إيران. كما ان هذا النظام، الذي تريد بعض المجموعات تغييره، لم يعد “سياسيا”، بل اصبح يشتغل بفعل الممارسات العنيفة، من حروب وإغتيالات وتهديدات، على مستوى الاقليم ككل.
هناك مطلب آخر ينقضه نصرالله وتطرحه بعض مجموعات الانتفاضة، على المستوى الاقتصادي والمالي، الا وهو عدم التعامل مع صندوق النقد الدولي. وهو مطلب كان نصرالله يتبناه سابقا. لكنه عدّل في موقفه في كلمته الأخيرة، فاتحا المجال امام “المفاوضة” مع صندوق النقد الدولي حول ما يمكن ان يطرحه لحل الازمة. وموقف نصرالله أكثر واقعية من موقف مجموعات الانتفاضة التي تعجز حتى الآن عن طرح بدائل عملية لمعالجة الانهيار المالي والاقتصادي. وبهذا تكون هذه المجموعات قد اصبحت كليا خارج إطار التأثير في السياسات المالية والإقتصادية، التي كانت ولا تزال حكرا على اركان السلطة الفاسدة. ففي حين التحقت هي، عن قصد او عن غير قصد، بالاتجاه “الممانع” الرافض لصندوق النقد الدولي، قرر زعيم “الممانعة”، الانتقال الى خيار المفاوضة. تماما كما حصل بالنسبة إلى ترسيم الحدود البحرية مع اسرائيل.
لم تعد مجموعات الانتفاضة، مجتمعة، قادرة على اتباع سياسة المراوحة، التي اعتمدتها بعد سقوط حكومة الحريري، وعجزها عن فرض قيام حكومة انتقالية مستقلة، بسبب معارضة قوى السلطة وفي مقدمها “حزب الله”. فبدل أن تسمي الأشياء بأسمائها، وتضغط على الكتل النيابية لتسمية شخصية مستقلة، وعلى عون لتكليف رئيس حكومة مستقل، ومن ثم تضغط على دياب (آنذاك) لتأليف حكومة مستقلين، راحت تحركاتها تتشتت يمنة ويسرة، تارة في وجه المصارف، وتارة أخرى قي وجه مصرف لبنان، وطورا من خلال ترداد شعار “كلن يعني كلن”، الذي كان يصلح عندما كان الحريري يترأس حكومة وحدة وطنية، لكنه بات اليوم، يساهم في تمويه المسؤوليات الدستورية في مجال معالجة الازمة، ويعجز عن تسمية من يعطل ممارستها، من داخلها ومن خارجها.
أفترض انه بعد كلمة نصرالله لمناسبة “يوم الجريح”، سيكون بإستطاعة مجموعات الانتفاضة ان تضع اصبعها على الجرح، ولو كلاميا، في مرحلة اولى. ذلك ان النزول الى الشارع اصبح أكثر تعقيدا وخطورة، بعدما طالب نصرالله القوى الامنية بالعمل على فتح الطرق والا اضطر حزبه إلى اللّجوء الى وسائله الخاصة. الخطورة ستتعاظم، اذا قررت مجموعات الانتفاضة تنظيم مسيرات تتوجه الى الاماكن التي تُتَخَذ فيها قرارات الاستجابة لما تطالب به، اي حكومة انتقالية ومستقلة. فهذا يستوجب التوجه الى بيت الوسط للضغط على الحريري للإعتذار عن التشكيل، والى كتل مجلس النواب لحضها على تسمية شخصية إخرى مستقلة، والى قصر بعبدا للضغط على عون لتكليف شخصية مستقلة لتأليف الحكومة.
وإذا كانت مجموعات الانتفاضة تخاف من تدخل القوى الامنية او “حزب الله” لمنع الضغط على الرئيسين، او على مجلس النواب، فعليها ان تكون مستعدة في حال حصول ذلك، لرفع شعارات ضد هذين الطرفين، والا عليها ان تتحمل مسؤولية تعبئة الشارع وفي الوقت نفسه التقاعس امام مواجهة التحديات.
أسوأ ما يمكن ان تقوم به الانتفاضة هو الاستمرار في رفع مطلب حكومة انتقالية مستقلة، وفي الوقت نفسه تنظيم مسيرات عشوائية في اتجاه أماكن لا تُتخذ فيها القرارات بشأن تأليف الحكومة. فهذا يخلق فُصاما في الوعي الشعبي بين ما تطالب به الانتفاضة وما تفعله على الارض، ويصبح التحرك مجرد فشة خلق تزيد الإحباط لاحقا وتلجم عملية التراكم النضالي.