تربطني علاقة صداقة وقرابة مع عائلة طرابلسية . ابنتهم متزوجة من شاب من الضاحية الجنوبية من آل سليم.
وكانت الصبية التي تعمل في بيروت مع الامم المتحدة قد تعرفت على الشاب وتقدم للزواج منها منذ اكثر من سنتين.
واذا كان من الطبيعي ان يسأل الأهل عن واقع الشاب الاجتماعي حفاظا على مصلحة ابنتهم كما يرونها عادة، الا ان هذه المرة كثرت الاسئلة وتمددت، ذلك ان المسافة بين الضاحية الجنوبية والحاضرة الشمالية كبرت وكأننا اصبحنا امام عاصمتين لبلدين مختلفين.
قد يتفاجأ المرء بحجم الزيجات المختلطة مذهبيا وحتى طائفيا في طرابلس، سواء الزيجات من داخل المدينة ام من خارجها.
وهي زيجات لا تقتصر فقط على مرحلة النهوض المدني والديمقراطي والاجتماعي في الستينيات والسبعينيات والتي اخترقت النسيج الطلابي، خصوصا في الجامعة اللبنانية التي تقاطر اليها الشباب والصبايا من كل المحافظات، بل تمتد الى عمق النسيج الطرابلسي بكافة فئاته وطبقاته، وبعض هذه الزيجات ادخلت الى المدينة عددا لا بأس به من السيدات الاوروبيات، مضيفة فسحة ولو صغيرة الى التنوع الطرابلسي الضارب في جذور المدينة المتوسطية العريقة.
والمفاجأة ربما تعود بالنظر للصور النمطية التي دأبت بعض الفئات والمنصات الإعلامية على إعطائها للفيحاء، علما ان نزار قباني اطلق عليها لقب قارورة الطيب.
والفيحاء دفعت في تاريخها المديد أثمانا مضاعفة منذ ارهاصات لبنان الكبير، مرورا بالاستقلال ولاحقا بالنكبة ومن ثم بالحروب العبثية بنكهاتها اللبنانية والفلسطينية والسورية، بما فيها مرحلة التوحيد الاسلامي الظلامية المدعومة ايرانيا والاطباق السوري الحاقد على طرابلس، وصولا لسيطرة حزب الله على البلد وانعكاساته على المدينة، التي شكلت الخزان الرئيسي لثورة الأرز ضمن شعار لبنان اولا، دون ان تتنازل عن انتمائها العروبي الذي شكل حبل صرتها الرئيسية بعد تفكك الامبراطورية العثمانية. و نذكر على سبيل المثال دور ابنها القائد فوزي القاوقجي مع الأمير فيصل، ثم في قيادة جيش الانقاذ ضد الجيش الصهيوني في حرب ١٩٤٨.
وطرابلس لعبت في عهد الخلافة العثمانية دورا رئيسيا سياسيا واقتصاديا وثقافيا قبل ان يتصاعد دور بيروت مع التغييرات الجيوسياسية الهائلة منذ القرن التاسع عشر.
ومع ان طرابلس خسرت جزءا مهما من تنوعها على مر الأزمات والأحداث، الا انها بقيت تحتفظ بنسبة من الجاذبية، خصوصا لكثير من الاداريين الملحقين الذين فضلوا “التوطن“ في المدينة الجميلة والتي نادرا ما تستعمل كلمة غريب، فاتحة ذراعيها لكل محب وقلبها لكل عاشق ، ومكتباتها وتكاياها لكل باحث وساحاتها لكل متظاهر. حتى كاتب هذه السطور والذي له اقرباء واصدقاء وطلاب من الطائفة الشيعية، لم يكن يدري الا متأخرا ان عدة الاف من هذه الطائفة مسجلون في سجل النفوس الطرابلسي ممن توطنوا فيها مع الزمن واحبوها، ومن عائلات بارزة كعلام وصادق والضيقة والقائمة تطول، دون ان ننسى خيوط نسيج طرابلس المسيحية التي تضفي عليها رونقها الخاص.
في كلية العلوم(كلية حسن مشرفية) في الحدث وفي بداية سبعينيات القرن الماضي بدأنا نتعرف على اهل الضاحية، سكانا اصليين ومقيمين، جنوبيين وبقاعيين. معظم زملائي الطلاب الطرابلسيين سكنوا في حارات الضاحية وتخالطوا مع سكانها الطيبين. انا فضلت السكن في بيروت، ما سمح لي ان اتعرف في الكليات الأخرى على مزيد من منوعات العائلة اللبنانية، خصوصا ان عددا كبيرا من رفاقنا اليساريين، كانوا من سكان الضاحية الجنوبية، وشاركنا معا في دعم بعض حراكاتها الشعبية والعمالية، كاضراب معامل الغندور والذي سقط فيه شهداء من المنطقة على يد قوى الامن.
كانت الضاحية الجنوبية تتشكل من بعض القرى والبلدات المحاطة بالبساتين قبل ان تجمعها الطرقات والكتل الخرسانية، وتستقطب القادمين من بقية المحافظات المهمشة للاستفادة من الطفرة النهضوية البيروتية، بعضها على شكل عمالة رخيصة، مما شكل قوة دفع اضافية لنشوء حركة المحرومين ولاستقطابها طائفيا على حساب الاستقطاب السياسي اليساري والعروبي الذي غلب عليها زمنا طويلا.
ليس من مهمة هذا المقال الصغير رصد التغييرات الديمغرافية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي طبعت جميع المناطق اللبنانية خلال نصف قرن من الزمن الصعب. ومع ذلك يمكن الاشارة الى ان الضاحية الجنوبية شهدت تحولات كثيرة على كل الصعد، حيث تبدو الآن وكانها عاصمة دويلة حزب الله الذي يلقي القبض على الحركة السياسية الرئيسية لدولة لبنان الكبير . كما يمكن الاشارة الى ان العاصمة الشمالية شهدت تحولات كثيرة جعلت منها، ومع تكاثر المظلوميات عاصمة المظلومين.
ورغم كل التغييرات التي شهدتها المنطقتين، فانه لا يصعب ملاحظة القواسم المشتركة الكبيرة التي تطبع اهالي المنطقتين، وفي الواقع فهي تطبع اللبنانيين في كل المناطق. لذا فقد استطاعت انتفاضة الغضب اللبناني الشبابي في ١٧ تشرين ان تخترق جميع المناطق والفئات والاجيال، قبل ان يبدأ الثنائي الشيعي باستيعابها وقمعها في البيئة الشيعية اولا، ومن ثم ارسال فرق السلبطة الجوالة للبطش والتكسير في وسط بيروت ، واختراق بعض المجموعات في باقي البيئات وحرف الانتفاضة السلمية باتجاه عناوين فرعية وتبديد الحشود ببعض اعمال العنف، بمشاركة احيانا من بعض الاجهزة.
واذا كانت جريمة انفجار المرفأ المروعة وملابساتها المتكشفة تباعا تشكل ذروة الاجرام بحق بيروت واهلها وكل لبنان سنة ٢٠٢٠، بموازاة تعطيل تشكيل حكومة مهمة فرملة الانهيار ، فإن سنة ٢٠٢١ استهلت باختراق المتظاهرين السلميين والموجوعين في طرابلس التي لقبت بايقونة الإنتفاضة باتجاه حرق وضرب ما تبقى فيها من مرافق ومقومات، تمهيدا لتعطيل ريادتها ورميها في فوضى اجمالية. تبع ذلك اغتيال المفكر والباحث والناشر والموثق والناشط السياسي والاجتماعي لقمان سليم في استعادة لترهيب اللبنانيين في البلد المخطوف. وسبقها جرائم قتل جو بجاني والعقيد ابو رجيلي وقبلهما داغر وسكاف. ويصاحب هذه الجرائم جريمة الافلات من العقاب، كما صاحبت جرائم اغتيال رفيق الحريري ورفاقه وكثير من الشخصيات السيادية التي ساهمت في ثورة الارز.
واذ تتوجه اصابع الاتهام للطرف القادر والمسيطر والمحرض والمستفيد، ويدان احد اعضائه في المحكمة الخاصة بالحريري دون ان يسلم، يجيبك الممانعون بفظاظة “لماذا لا ننتظر نتائج التحقيق“ حتى باتت هذه العبارة وكانها وسيلة قتل اضافية، علما “ان القاتل معروف لان يديه ما زالت تقطر دما“ على ما قالت الروائية رشا الامير شقيقة الشهيد.
المرة الاولى التي استرعى فيها الشهيد لقمان انتباهي، وفي الواقع انتباه جميع اللبنانيين، هي حين كشف في تصريح صحافي في ايار ٢٠٠٨ شبكة الاتصالات الخاصة التي كان حزب الله قد شرع بتمديدها، وتبعه ما كشفه وليد جنبلاط عن كاميرات المطار ومن ثم قرارات حكومة السنيورة في وقف هذا العبث في سيادة الدولة، وما تبعها من اجتياح حزب الله واتباعه للعاصمة بيروت وبعض الجبل في يوم اسود من تاريخ البلد، قتل فيه مائة شخص واحرقت فيها مقرات اعلامية وغير اعلامية، واعتبره السيد نصرالله يوما مجيدا، وكان قد سبقه احتلال وخنق وسط بيروت وحصار السراي في اعقاب حرب ٢٠٠٦، وصولا لاتفاق الدوحة وتداعياته الكارثية المستمرة فصولا.
رغم اعجابي بجرأة لقمان سليم، خصوصا انه من عائلة شيعية معروفة، لم اتوقع ان يكون ما زال يسكن في منزل العائلة في قلب الضاحية الجنوبية، ويقوم بكل هذه النشاطات الثقافية والاجتماعية والادبية والتوثيقية الناضحة بالانسانية مع ثلاثي السيدات المميزات سلمى ورشا ومونيكا، رغم التحريض والتهديدات “بالمجد لكاتم الصوت “”وبهيا بنا الى تل ابيب“ “وبشيعة السفارة“ “وبتحسسوا رقابكم“وبحرق خيمة الحوار في العازارية. وهذه التهديدات لم تخفه، ربما معتقدا، ان العمل في الضوء يعرقل القتل في العتمة، وان دفعته لكتابة رسالة تحذيرية لسلطة لبنانية وهمية، والتي جعلت البعض يتذكر “قصة موت معلن“ لغابرييل غارسيا ماركيز، وجعلت آخرين يعتبرون اغتياله اعداما من سلطة حزب الله. وللدلالة على ان العجز او التجاهل متمدد دوليا، فان الجريمة حصلت في منطقة مشمولة بحماية قوات الامم المتحدة من خلال قرار ١٧٠١.
في سنة ٢٠١٤، وكانت طرابلس، القريبة من الفوالق السورية المتحركة، بالكاد قد خرجت من جحيم عشرات الجولات القتالية التي حولت المدينة ساحة رسائل دموية، للتغطية على امعان حزب الله بالتدخل الى جانب بشار الاسد في قمع الثورة السورية، اتصلت بي زميلة عزيزة طالبة استقبال لقمان سليم ومساعدته في ابحاث توثيقية متعلقة بطرابلس. واذ شكرتها على اختياري للقيام بهذا الدور، فقد قضيت مع لقمان وبشغف بضع ساعات تناولنا فيها مواضيع متنوعة، خصوصا حول المجتمع الطرابلسي وتنوع نسيجه الاجتماعي وتوزعه في الحارات والاحياء. كما استعرضنا ميزات طرابلس المهنية والثقافية، فضلا عن التحولات السياسية والاقتصادية والاجتماعية خلال المحطات المختلفة التي مرت فيها المدينة منذ تأسيس لبنان الكبير. وقد اهداني الراحل بعض المنشورات التوثيقية والتي تكشف عن عمق وصلابة وجدية ومهنية العاملين عليها. لم نلتق ثانية الا في “المبادرة الوطنية“ خلال الانتفاضة، وان تابعنا تواصلنا عبر المنشورات والرسائل الالكترونية.
لقد حكي الكثير عن دلالات ورمزية لقاء الوفاء في حديقة منزل العائلة في الضاحية الذي وصف بمعقل للانسانية والطيبة والكرم وبمركز ابحاث وارشفة وبحركة ثقافية مشتعلة، حيث تحلق ناشطون ومثقفون وكتاب وصحفيون وسفراء بارزون ورجال دين حول ضريح لقمان، واحاطوا بالعائلة في مشهد يكاد يكون سورياليا. وتذكر كلمة الام الصابرة على الألم بكلمة غسان تويني في وداع ابنه جبران، وقد اضفت الكلمات الدينية والتراتيل مسحة جمالية في العيش المشترك. ورغم رمزية المشهد، فان دلالاته ازعجت مقاولي التوحش، فارادوا صنع مشهدا بديلا باعتذار الشيخ الخليل والتنصل من الأب المرتل. وقد بدا المشهد، مبتذلا وتحريضيا، خصوصا حين نعت احد الممانعين المتأنقين على احدى الشاشات المشاركين بلقاء الوفاء للقيم بالعملاء، اذ يبدو أن ارشيف لقمان سليم سيبقى يقض مضاجعهم رغم فائض القوة.