عادت ميانمار مجددا إلى دوامة الصراع بين العسكر والمدنيين على إثر الانقلاب الذي قاده الجيش في مطلع الشهر الجاري ضد الحكومة المنتخبة ديمقراطيا التي تقودها من خلف الكواليس “اونغ سان سو كي” زعيمة الرابطة الوطنية من أجل الديمقراطية التي فازت فوزا كاسحا في إنتخابات نوفمبر الماضي مقابل فوز هزيل لحزب التضامن والازدهار المدعوم من الجيش، وبالتالي فشله في الحصول على ما يعتقد العسكر أنه نصيبهم العادل من المقاعد في البرلمان والمجالس المحلية.
ويذكرنا المشهد في ميانمار بما اعتدنا عليه في الخمسينات والستينات في العراق وسوريا زمن الانقلابات العسكرية المتتالية .. جنود مدججون بالرشاشات الاوتوماتيكية يحرسون المواقع الاستراتيجية، وضباط بملابس الكاكي تزين صدورهم النياشين النحاسية يشكلون مجلسا للقيادة ويعلقون العمل بالدستور، وبيانات من الإذاعة تبشر بعهد جديد من المن والسلوى، ورموز من “العهد البائد” معتقلون خلف القضبان أو مطاردون. ربما الفارق الوحيد بين الأمس واليوم، هو سرعة تدفق المعلومات حول خلفية الانقلاب وقادته.
والحقيقة أن هذا البلد الآسيوي سيء الحظ وقع مرة أخرى فريسة لجشع العسكر وعشقهم للسلطة، بعد أن ظن الكثيرون أن الضغوط الدولية نجحت في الحد من غلوائهم وشراستهم في عالم مختلف لم يعد فيه مكان للبيان رقم واحد أو إعلان الأحكام العرفية. والحقيقة الأخرى أن الذين قاموا بالإنقلاب ليسوا سوى امتداد لأولئك الذين أدخلوا ماينمار أو بورما في نفق شديد البؤس والقتامة منذ أن قام الجنرال ني وين في عام 1962 بانقلابه ضد أول حكومة ديمقراطية منتخبة بقيادة رئيس الوزراء الأسبق “أونو”، واتبع نهجا سياسيا واقتصاديا غريبا مزح فيه بين الأفكار الماوية والتوجهات الستالينية، فكان نتاج تلك “العبقرية” التخلف المرير الذي ساد مختلف أوجه الحياة في بلد كان يـُنتظر أن يتحول إلى سنغافورة أخرى بعد استقلالها عن بريطانيا بالتزامن تقريبا مع استقلال الهند.
وكما جرت العادة في مثل هذه الأحوال، لم يجد عسكر ماينمار ما يبررون به انقلابهم سوى أن انتخابات نوفمبر 2020 شابها التزوير، وأن المادتين 417 و418 من دستور البلاد (وهو دستور صاغه جنرالات الجيش بأنفسهم في عام 2008 لضمان سيطرتهم على مقدرات ميانمار) تمنحان الرئيس سلطة إعلان الطواريء بعد التنسيق مع مجلس الدفاع والأمن الوطني، وتجيزان نقل السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية إلى القائد العام لخدمات الدفاع، وهو الجنرال “مين أونغ هلاينغ”. ولأن الرئيس “ويت مينت” لم يعلن حالة الطواريء تمّ اعتقاله، فقام نائبه “مينت سوي” بالمطلوب، فكافأه الانقلابيون بتنصيبه رئيسا صوريا للبلاد.
والأخير لمن لا يعرفه من الجنرالات الدمويين ومن قادة الجيش المخضرمين الأوفياء، وكان من أقرب المقربين للجنرال “تان شوي” الذي حكم ميانمار بقبضة حديدية بين عامي 1992 و 2011، وهو الذي جعله عضوا في المجلس العسكري الحاكم وعينه قائدا للعاصمة، وبصفته تلك أشرف في 2002 على اعتقال عائلة الديكتاتور الأسبق ني وين، وإبادة رئيس المخابرات السابق الجنرال “خين نيوت” في 2004، وسحق ثورة الرهبان البوذيين عام 2007. أما القائد الفعلي للبلاد الآن فهو هلاينغ الذي خلف الزعيم السابق “تان شوي” في قيادة الجيش عام 2011 وكان قبل ذلك رئيسا للأركان، وهو مدان دوليا بسبب قيادته لأعمال الإبادة الجماعية والاغتصاب والحرق بحق أقلية الروهينغا في ولاية راخين الشمالية.
إن الدافع الحقيقي وراء الإنقلاب هو مخاوف كبار الجنرالات من أن الساسة المدنيين المنتخبين سيحاولون استغلال فوزهم بـ 396 مقعدا برلمانيا من أصل 476 مقعدا لإحداث تعديلات دستورية تقلص سلطة الجيش المتمثلة في سيطرته على ربع جميع النواب وثلاثة وزارات رئيسية (الدفاع والداخلية وشؤون الحدود). وبسبب مخاوفهم هذه، لم يكتفوا باعتقال رئيس البلاد، بل احتجزوا أيضا مستشارة الدولة “اونغ سان سوكي” وزعماء حزب الرابطة الوطنية وممثليها في الولايات، علاوة على نشطاء بارزين مؤيدين للديمقراطية.
توقع جنرالات ميانمار أن العالم بأسره ــ عدا الصين التي لطالما كانت داعمة وحامية لهم ــ سوف يواجه انقلابهم بالتنديد أو الاستنكار، وهو ما فعلته الولايات المتحدة واستراليا وبريطانيا والهند واليابان ودول الاتحاد الاوروبي، علاوة على الأمين العام للأمم المتحدة. أما شريكات ميانمار في منظومة « آسيان » فقد اكتفت بالدعوة إلى ضبط النفس واعطاء الأولوية للأمن والسلام، معتبرة أن ما حدث أمر داخلي، وذلك تطبيقا لمبدأ معمول به في المنظومة هو عدم تدخل الدول الأعضاء في الشؤون الداخلية لبعضهم البعض.
وربما لهذا السبب، استبق الانقلابيون ردود الأفعال الخارجية بوعد حول إجراء انتخابات عامة جديدة ونزيهة خلال عام واحد.
وإذا صدقوا في وعدهم، فإن المتوقع على نطاق واسع هو أن يعملوا خلال هذه المدة على وضع نظام جديد للإنتخابات، بحيث يعتمد التمثيل النسبي بديلا عن نظام الأغلبية، حيث أن حزب الرابطة الوطنية استفاد من نظام الأغلبية في تحقيق الفوز في انتخابات 2015 و 2020، بسبب عدم وجود حزب ينافسه لجهة التنظيم والجماهيرية والقدرة على التحشيد، بينما نظام التمثيل النسبي يحسن من فرص الأقليات والأحزاب الصغيرة للفوز، وهذا الأخير هو ما يريده العسكر بسبب هامشية الحزب المحسوب عليهم. هذا علما بأنه بعد انتخابات 2020 حاول بعض الأحزاب الصغيرة مناقشة التحول إلى نظام التمثيل النسبي لكن حزب الرابطة الوطنية رفض ذلك.
*أستاذ العلاقات الدولية المتخصص في الشأن الآسيوي