تشكل قوانين الانتخابات النيابية الركيزة الاساسية من ركائز الانظمة السياسية، خصوصا التي تعتمد النظام البرلماني حيث ينُتخب رئيس الدولة من أعضاء البرلمان.
ذلك ان القانون الانتخابي يلعب الدور الرئيسي في تشكيل السلطة التشريعية، فضلا عن ان تشكيل الحكومة رئيسا ووزراء وبرنامجا يتطلب ثقة هذا المجلس. قلنا الدور الرئيسي وليس الوحيد، لأن العوامل الأخرى المؤثرة في العملية السياسية تتعلق بالطبيعة الدستورية والسياسية والاقتصادية والاجتماعية والقضائية والحقوقية والادارية للبلد المعني، كما تتعلق ايضا بالحياة السياسية الحزبية والنقابية والثقافية.
ويلعب الواقع الجيوسياسي دورا اساسيا في الحياة السياسية لكل بلد، خصوصا مع التحولات الكبرى في التنافس والصراعات الدولية.
ولبنان البلد الضئيل بمساحته وبسكانه شكّل مختبرا صغيرا للتفاعلات السياسية و الجيوسياسية، فهو كان ولفترة البلد العربي الوحيد شبه الديمقراطي حيث كان يذهب رئيس الدولة لمنزله بعد انتهاء ولايته الدستورية. ولبنان كان مزدهرا لفترة طويلة، رغم الفوضى والاعتباطية التي طبعت اقتصاده ورغم الزبائنية والفساد وسوء الادارة التي ارساها وحماها اقطاعه السياسي.
فالبلد الصغير شكل جسرا اقتصاديا وثقافيا بين الغرب النامي والشرق العربي الخليجي والنفطي، خصوصا بعد نكبة فلسطين ونشوء الكيان الاسرائيلي وتعاظم دور مرفأ بيروت التي تحولت الى مثال يحتذى و الحاضرة الاكثر جاذبية في المنطقة، مع تسرب نسبي لهذه الجاذبية خارج بيروت الكبرى، خصوصا مع اصلاحات فؤاد شهاب.
ومع أن الطائفية المتجذرة في الحياة السياسية والاجتماعية والادارية وفي الاحوال الشخصية، شكلت عائقا اساسيا امام بناء دولة المواطنة، فإن التنوع الطائفي لعب دورا غير مباشر في حماية الحريات وشكل حاجزا امام الاستبداد والانقلابات العسكرية، فضلا عن ان التنوع الانساني والبيئي والطبيعي ساهم في اغناء الحياة الاكاديمية والثقافية والاجتماعية، ما عزز الميزات الجاذبة للسياحة والخدمات.
لقد شكلت قوانين الانتخاب ميدانا رئيسيا للمناورة وللصراع السياسي بين القوى السياسية التقليدية منذ الاستقلال، حتى ان سليمان فرنجية انتخب رئيسا بفارق صوت واحد عن منافسها الشهابي الياس سركيس.
الا أن نادي البرلمان ظل عصيا على القوى والاحزاب اليسارية والعلمانية وحتى على بعض القوى المتنورة داخل الطوائف، ما ابقى ميدان فعلها الديمقراطي في الشارع.
وكان معبرا ان يردد محازبوها في المظاهرات:
“والبيه يبقى مفلس غير البيه بالمجلس
واللي اقطاعي جده بيعمل مثل ما بدو”
وعوض ان يحتفلوا باعتلاء نجمة كركلا عرش الجمال العالمي في ميامي، اكملوا هتافهم:
“تا نحمل ما عاد فينا هيدي دولة جورجينا”.
دفعت التطورات السياسية في لبنان والمنطقة قوى المعارضة الشعبية الى تشكيل حركة وطنية وصياغة برنامج مرحلي للتغيير الديمقراطي في البلد بقيادة احد اركان النظام السياسي الشهيد كمال جنبلاط، قبل ان يركب الجميع، لبنانيون وفلسطينيون وسوريون سنة ١٩٧٥مركب الحروب العبثية.
شكل اتفاق الطائف الذي اوقف الحرب الاهلية بعد ١٥ سنة على اندلاعها محطة اساسية في انجاز اصلاحات دستورية عززت العيش المشترك وفتحت افقا لالغاء الطائفية السياسية عن طريق نظام المجلسين. الا ان ثقل الوصاية السورية واستمرار الاحتلال الاسرائيلي ساهم بالتطبيق الاستنسابي لهذا الاتفاق والذي اصبح دستورا. واستعيض عن المشاركة بالمحاصصة برعاية المقاول السوري، كما شكلت قوانين الانتخاب التي حاكها فعليا النظام السوري احد وسائل سيطرة هذا النظام على البلد المحتل عمليا.
ويروى ان الثلاثي اميل لحود ورستم غزالة وجميل السيد ابلغوا الاسد بعد فرض التمديد ان اي قانون انتخابات لن يوقف المد السيادي الذي يحمله لقاء البريستول/ حريري/صفير، ما سيهدد السيطرة السورية على لبنان ويضعف جبهة الممانعة التي باتت تقودها ايران المنتشية مع الاحتلال الاميركي للعراق. ومع ان زلزال اغتيال الحريري ادى لانتفاضة الارز الهادرة واخراج القوات السورية من الباب، الا ان الوصاية ايران دخلت من الشباك عبر ميليشيا حزب الله التي بقيت مسلحة رغم تحرير الجنوب من الاحتلال الاسرائيلي سنة ٢٠٠٠.
في سنة ٢٠٠٦ كلفت حكومة السنيورة لجنة معتبرة برئاسة فؤاد بطرس لانجاز قانون انتخابات عادل وعصري. أنجزت اللجنة المشروع وقدمته للحكومة، الا ان لبنان كان على موعد مع حرب بالوكالة بين ايران واسرائيل/ اميركا بعد فشل مفاوضات النووي في فيينا. ورغم الموت والدمار الذي لحق بالبلد خرج الامين العام لحزب الله ليعلن نصره الالهي منتشيا بامتلاكه الاف الصواريخ الايرانية، ومتوعدا اللبنانيين بعصر جديد يقوم على فائض القوة المسلحة.
ومع ذلك استعادت اللجنة حيويتها وبدأت بنقاش مشروعها في البلد، ولا اعرف لماذا اختارتني انا، استاذ الرياضيات الناشط المشاغب، لإدارة الجلسة الطرابلسية الذي سيحاضر فيها عضواها نواف سلام وخلدون نجا في الكوالتي ان. بدات بمقدمة من خمس دقائق اثارت استغراب بعض الحضور، وتحولت لاحقا الى مقال بعنوان “التصويت من فوهة الصواريخ”.
وفي ذكرى قاسم سليماني قرأ السيد نصرالله تاريخ لبنان من خلال الصواريخ الايرانية، رافعا مرتبتها الاستفزازية بما يليق بالجنرال الراحل، خصوصا بمناسبة مئوية لبنان الذي يتفرد رغم الالم بميزات كثيرة، وبينها ميزاته الثقافية والفنية والتراثية حيث يشكل الرحابنة سماء لبنان الصافية وتشكل فيروز نجمته المضيئة، والتي جعلت رئيس فرنسا يستعين بضوئها للعن عصابة الظلام.
الكل مدرك ان لبنان يمر بمرحلة مصيرية واصبح ممرا للوحوش الضارية، وقد سرحت بعض هذه الوحوش في طرابلس بين المتظاهرين السلميين والموجوعين والغاضبين لتضرب مرافق المدينة الرئيسية. وطرابلس كانت قد خسرت بالحروب المتنوعة والتهميش وضغط النظام السوري الحاقد معظم مصانعها ومرافقها، كما يجري تنميطها دائما، تسهيلا لاختراقها واستثمار وجعها وغضبها لانها شكلت ايقونة المظلومين. وللاسف دائما على مرأى من القوى العسكرية التي تتأخر دائما في حماية المرافق والمؤسسات الطرابلسية، بينما تقمع بقوة اي تحرك في مناطق معينة. ومع ذلك يتمسك اهل المدينة المنكوبة بالمؤسسة العسكرية وبجميع مؤسسات الدولة وهم شكلوا خزان ثورة الاستقلال الثاني.
والكل يعرف بان البلد محتل من ايران بواسطة حزب الله، وان “ذمية مار مخايل” شكلت رافعة اساسية لهذا الاحتلال، بما فيها بعض القوى والمجموعات اليساروية والانتهازية التي تدفن رأسها في الرمال. لكنه احتلال من نوع خاص يقوم بواسطة طرف لبناني، ولا يمكن مقاومته الا سلميا، وامام سلاحه نمتلك سلاح اتفاق الطائف وهو مربض بناء الدولة الذي تحميه شهادة الآلاف من كل الطوائف والمناطق والاطياف والذي يلتف حوله اكثرية اللبنانيين.
من الطبيعي ان تبادر “المبادرة الوطنية” للدعوة لتشكيل جبهة مقاومة سيادية مستندة على الدستور والميثاق، وربما تشكل ذكرى استشهاد الحريري ورفاقه وانتفاضة ١٤ آذار قوة دفع، بما حملته من مقومات الوحدة اللبنانية ونهائية الكيان بمواجهة الوصاية والاحتلال، مع التأكيد على الانتماء للهوية العربية الجامعة والمصير المشترك امام العواصف الاقليمية والدولية العاتية.
ومع ذلك لا احد يتوقع استنساخ المرحلة الآذارية لجهة تكوين جبهة تحرير صافية، ذلك ان قوى ١٤ آذار السابقة والتي ما زالت تمتلك النكهة السيادية تخوض مواجهاتها الدفاعية الخاصة بما فيها من التباسات طائفية. وهذا يقود الى بعض الملاحظات والاسئلة المشروعة في سياق استكشاف مستويات ووسائل المواجهة.
اولا: ما هي القوى الفعلية التي يعتد بها في الدفاع عن الطائف، بعد ان شهدنا تصريحات وسياسات متناقضة، حتى من اطراف ميني سيادية في محاولة لمحاكاة بعض الشوارع الغاضبة والخائفة والمحبطة.
وكيف نلاقي مواقف البطرك الراعي ورؤساء الطوائف، وحراك رؤساء دولة ورؤساء حكومات سابقين وشخصيات معتبرة تعمل لتشكيل جبهة لحماية الدستور.
ثانيا. لم يعد موقف اللامبالاة والحياد في الصراع حول تشكيل الحكومة مبررا، وتظهيره وكأنه صراع عون حريري او سني مسيحي، بل يجب العمل على تصليب موقف الحريري ورفع سقفه السياسي بالاصرار على “حكومة المهمة” وعلى عدم تقديم تنازلات حتى لماكرون، خصوصا انه يترافق مع شد عصب مسيحي خطر وفظ، وممارسات من جانب الرئاسة والتيار العوني والمغطى من حزب الله تعادل الانقلاب على الطائف.
ثالثا: كيف نساعد في وقف انهيار القطاعات التي ميزت لبنان وحث المعنيين بها في الدفاع عنها، خصوصا المصرف المركزي والقطاعات المصرفية والاستشفائية والتربوية والاكاديمية والاعلامية والثقافية والفنية والسياحية وغيرها.
رابعا: كيف سنواجه مظاهر النظام الامني المتزايدة، مع ما يرافقها من تسخير القضاء في معارك كيدية وفئوية لا تمت لمحاربة الفساد بصلة. ولنا في التعاطي مع جريمة المرفأ المروعة وملابساتها، كما في الاستدعاءات واخراج الملفات غب الطلب وحجز التشكيلات القضائية خير دليل.
خامسا : ان اي انتخابات، مبكرة او متأخرة لن تكون المؤشر الفعلي للتمثيل الشعبي، بسبب فائض القوة المسلحة اولا، وبسبب من قانون الانتخابات المذهبي البائس ثانيا، وبسبب من هوس الانتخابات الرئاسية ثالثا. وفي مطلق الاحوال، فإن اعادة تكوين السلطة ضمن الواقع الحالي ستظل محجوزة فعليا للاحزاب الطائفية والتي سيظل يتسيدها حزب الله ويجيرها لرعاته الايرانيين كما لفرض تعديلات دستورية تعكس ميزان قوى فئوي.
سادسا: ما هي وسائل تحفيز بعض الجبهات والمجموعات واللقاءات المنبثقة من الانتفاضة وغيرها من القوى على التركيز على اولوية مواجهة الاحتلال الحزب اللاهي للبلد والعبث العوني بالدستور. وعلى اهمية محاربة الفساد والهدر والزبائنية ، الا انها تبقى عناوين فرعية من عنوان اصلي يتعلق بسيادة الدولة على الارض والمؤسسات والمقدرات الوطنية.
تلك هي بعض الاسئلة التي علينا الجواب عليها، في وقت تشتد فيه مظاهر الانهيار السياسي والاقتصاد والمالي والنقدي والاجتماعي والصحي، وتطل علينا نذر الاهتزاز الأمني. ويخطئ من يظن ان ما حصل في طرابلس من احباط وغضب واختراق وتخلي وتخريب، لن يكون بلا تمدد وبلا تداعيات. فالوحوش ما تزال تسرح في الوقت الضائع، وعسى ان لا يطول ونصبح لقمة سائغة على مائدة اللئام.