اليمن منكوبة بنخبها المعطوبة، ورئيس متسرنم في المنفى، وحكومة”شرعية” محكومة بغيبوبة وشعور من نجا من غير أن ينجو، ومنكوبة بجائحة المليشيات المتكاثرة والمتآزرة مع الكورونا والكوليرا وأوبئة ما قبل التاريخ، ومنكوبة بجيرانها الأثرياء الضالعين في تمزيق أوصالها مباشرة وعبر الوكلاء والمرتزقة المحليين، وبالمنظمات الأممية الفاسدة والمتورطة في تمويل المليشيات والحرب، ومنكوبة، أخيرا وكثيرا، بطامة كبرى اسمها: المبعوث الخاص بالأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن.
« بنعمر » عميلا مسجلا” لقطر…؟
بقطع النظر عن المعلومات التي تداولتها بعض الصحافة والمؤسسات الأمريكية حول ارتباط المبعوث الخاص للأمين العام للأمم المتحدة إلى اليمن « جمال بنعمر » بدوائر إقليمية وتقول انه كان”عميلا مسجلا” مع دولة قطر حين كان يشغل ذلك المنصب، والمعلومات التي تفيد بأنه صار ولا زال يعمل ضمن طاقم « مجموعة أغادير » الإعلامية القطرية علاوة على ارتباطه بشبكة من الشخصيات وبعض رموز اللوبي اليهودي في واشنطن ذات الصلة بالدوحة، يمكن القول والجزم بأن إخفاقات بنعمر، خاصة في الفصل الأخير من مشواره كانت كارثية بامتياز وقد ساهمت في التغطية والتوقيع على انقلاب الحوثيين في 21 سبتمبر 2014.
لقد انقلب الرجل على مخرجات الحوار الوطني الذي قدم إلى اليمن بقصد الإشراف والمساعدة على إنجازها عندما انزلق في مسار الرحلات المكوكية إلى معقل” السيد” عبد الملك الحوثي في محافظة « صعدة » الحدودية مع السعودية. وكانت الزيارة الأخيرة التي استغرقت بضعة أيام في كهف ظلمات « السيّد » هي القاصمة.
وحين كان اليمنيون يحبسون انفاسهم في انتظار ما ستتمخض عنه حوارات الغرف المغلقة بين بنعمر والحوثيين ومن يقف خلفهم, كانت المليشيات الحوثية تتقدم بخطى متسارعة وتسقط المعسكرات ومقر الحكومة والبرلمان والإذاعة والمطار وكل الوزارات والمؤسسات الحساسة إلى أن أحكمت سيطرتها على العاصمة صنعاء.
وبعد ساعات وأيام طويلة من الانتظار، ومع غروب شمس يوم 21 سبتمبر2014، وصلت مروحية الأمم المتحدة التي حملت وفد الجماعة الحوثية و« بنعمر » للتوقيع على ” إتفاق السلم والشراكة” وبالأحرى على بيان الانقلاب الذي قام الرجل بتلاوته بجهامة منبرية فصيحة بإشراف أممي على وضع الحوثيين في كفة والحكومة وكافة القوى السياسية اليمنية في كفة أخرى، وبذلك أطلق « بنعمر » رصاصة الرحمة على” الحوار الوطني” الذي كان مفوضا برعايته والإشراف عليه وصرفت من اجل إنجازه ملايين الدولارات.
كانت ترتيبات « بنعمر » مع وفد “الجماعة” واضحة للعيان. فقد وصل الوفد وهو يعرف أين سيضع توقيعه ويعرف أن كل الأطراف صارت تحت فوهات مدافعه، وعلى ذلك فقد كانت سحناتهم تنضح غطرسة وعنجهيه فيما بدا الآخرون “مُذلون ومُهانون” بحسب ديستويفسكي.
انطوى الانقلاب على ” المبادرة الخليجية” والحوار الوطني على انقلابٍ آخر بعيد المدى استهدف السعودية في الصميم. فهي كانت تتابع وترعى مجريات العملية السياسية أولا بأول وصولا إلى التوقيع النهائي على وثيقة” مخرجات الحوار الوطني اليمني” والى مشارف التوقيع على مسودة الدستور الجديد. وكاد الإنجاز أن يُحسب انتصارا سياسيا ودبلوماسيا كبيرا للمملكة التي لم تتحسب كثيرا الى تغلغل دور وتأثير بعض الأطراف التي وقفت لها بالمرصاد من أول وهلة، وتحيّنت كل الفرص لإحباط مسعاها في الدقائق الأخيرة.
المعلوم أن دولة قطر كانت قد أعلنت انسحابها من ” المبادرة الخليجية” قبل التوقيع عليها حين قامت الخارجية القطرية بإبلاغ الأمين العام لمجلس التعاون الخليجي عبد اللطيف الزياني أنها قررت الانسحاب من « المبادرة ” »في 15 يونيه 2011، « بسبب المماطلة في التوقيع عليها ». ولم يخفَ على احد انها لم تكن ترغب، أصلاً، في الانضواء تحت مظلة من نسيج السعودية. ومن الراجح أنها كانت تتطلع وتسعى من وراء ستار، وبظلال دخانية كثيفة من”قناة الجزيرة”، إلى تعطيل المسعى السعودي، وقد كان لها ولغيرها ذلك, بمساهمة مثابرة ونشطة من « بنعمر ».
ولئن كان « اتفاق السلم والشراكة » قد نص على تشكيل « حكومة كفاءات »، فقد تم ذلك بعد أن أحكمت « اللجان الثورية » التابعة للمليشيات الحوثية سيطرتها غير المعلنة على كل الوزارات لتجعل من الوزراء ورئيس الوزراء ومعهم رئيس الجمهورية أقنعةً ودمى تحركها كيفما تشاء وبحسب ما تمليه طهران، وبالذهاب إلى ما يتجاوز الاستفادة والاستلهام من تجربة حزب الله في لبنان الذي اكتفى بأن يكون دولة داخل الدولة نظرا لاختلافه قليلا عن السلالة الحوثية المتحورة عن الإمامة الزيدية بسبب من تلاقحها مع إمامة « الولي الفقيه » في إيران وهو التلاقح الذي افرزها كمليشيا تحمل جوع التاريخ كله، وشهية شرهة لابتلاع دولة كاملة، وابتزاز الجيران وابتلاعهم إن أمكن.
في 22 يناير 2015، استقال رئيس الجمهورية واستقالت الحكومة ودخلت البلاد برمتها في حالة استقالة سياسية, لكن « بنعمر » لم يستقِل بقدر ما انحشر في زاوية البحث عن مخرج للحوثيين، وليس لليمن واليمنيين. وراح يبحث معهم عن رئيس بديل او صيغة بديلة وواصل مشوار مفاوضات الساعة الـ25 مع مستحاثات مشيخية وحزبية في أروقة فندق « موفنبيك » بصنعاء.
في 15 مارس 2015 نفّذت المليشيات الحوثية مناورات عسكرية كبرى على الحدود مع السعودية وأعلنت انها « لن تسمح بنجاح أي مؤامرات تهدد مصالح البلاد وتجرها إلى مربع العنف ».
في الأثناء انعقد الاجتماع الطارئ لوزراء خارجية دول مجلس التعاون الخليجي وشارك فيه وزير خارجية قطر خالد العطيه، وخرج بعد الاجتماع ليؤكد على اهمية عقد مؤتمر يمني موجها « دعوة للجميع »، ومشددا على أن « الحوثيين معنيون بهذه الدعوة، فهم مكوّن من مكوّنات الشعب اليمني ».
أصبح الموضوع في الملعب الخليجي وتهاوت « المبادرة الخليجية »، وواصل « بنعمر » المهمة. وكان لافتا بإطلالته في مطلع نوفمبر 2018 وخروجه عن صمته لـ “يفجر قنبلة” في وجه السعودية والإمارات حيث نشرت له صحيفة “رأي اليوم”، لصاحبها عبد الباري عطوان، الذي باع ” القدس العربي”، الصحيفة، لقطر، التصريح « القنبلة » الذي اتهم فيه السعودية والإمارات بتقويض الحل السياسي في اليمن. وأشارت الصحيفة إلى أن ذلك ورد ضمن تصريح مكتوب قدّمه « بنعمر » أمام محكمة المقاطعة الجنوبية لولاية نيويورك وثمة التباس حول أمر مثوله أمام تلك المحكمة.
الخلاصة انه قال في التصريح الذي نشرته ” رأي اليوم “، في 5 نوفمبر 2018، بأن المفاوضات كان على وشك التوصل إلى حل سياسي بين جميع الأطراف اليمنية. وانتقد في تصريحه ما اسماها بالحملة المنظمة التي شنتها السعودية والإمارات لتشويه سمعته بشكل خاطئ على انه منحاز لأحد الأطراف.
على هذا النحو يتأكد بأن « بنعمر » ظل يعاند نواميس السياسة والتاريخ والطبيعة، ويقامر بلا أي رصيد عندما انغمس في مفاوضات مع الحوثيين الذين كانوا طرفا من أطراف الحوار وصاروا سلطة أمر واقع انقلابية وكابر الرجل وتمسك بإرادة عدم الفهم.
لقد كاد، في مطلع مشواره ان يكون علماً ولكنه ختم سيرته بالخيبة، وهي سيرة بائسة تصلح بالكاد لأن تكون توطئة لطامة أخرى « عظمى » اسمها: « مارتن جريفيت » الذي عبر في صفحته على “الفيس” مطلع ديسمبر الماضي عن معاناته من « التباعد الجسدي » عن الحوثيين وبقية الأطراف اليمنية، وقال أنه “يؤمن بأن اللقاءات المباشرة وكيمياء لغة الجسد يحدثان نتائج اكبر من تلك التي تعقد عبر الاتصال المرئي”.
” الخواجة” جريفيت كائن ظريفاً و”فتوة” حسب تعبير بعض الذين تابعوه وهو يعلن قبل أيام رفضه لقرار الخارجية الأمريكية بتصنيف الحوثيين « جماعة إرهابية » ويؤكد إصراره على المضي قي المفاوضات مع الجماعة ولو كانت « إرهابية » لأنه جاهز من يوليو العام الماضي باتفاق « إعلان السلام المشترك ».
يا الهي كم يتشابهون!
سنتطرق إلى بعض من سيرة ومحطات جريفيت وصلته بملامح المشهد اليمن الراهن في الحلقة القادمة.