إن لم يتمكن الرئيس بايدن وفريقه من الاستجابة لهذا التحدي ستتأكد هشاشة الديمقراطية الأميركية ونموذجها وتسقط طموحاتها في تعزيز الأفكار الليبرالية حول العالم ولن تعد نموذجا يقتدي به الآخرون.
لم تشهد المؤسسات الأميركية، طوال تاريخها الممتد قرابة قرنين ونصف القرن، مشهدا مماثلا لعملية اقتحام أنصار الرئيس الأميركي المنتهية ولايته دونالد ترامب مبنى الكونغرس. ومما لا شك فيه اهتزت صورة الولايات المتحدة وسمعتها. لكن بالرغم من الضربة التي أصابت الديمقراطية الأميركية في الصميم، دللت أحداث الأربعاء 6 يناير على مناعة النموذج الأميركي الذي كانت مصداقيته على المحك خلال سنوات الولاية الرئاسية الترامبية.
ستحدث الهزة التي حركتها جموع الغاضبين في “الكابيتول هيل” ارتدادات على مجمل المشهد السياسي الأميركي وكذلك على انقسامات المجتمع الأميركي وتحولات الحزب الجمهوري ومصير ترامب السياسي والشخصي.
لن تنسى العاصمة الفدرالية بسهولة “يوم العار” كما وصفه كثيرون أو “التجاوز الأخير” لترامب حسب وصف فرنسيس فوكوياما، وسيطبع ذلك بدايات ولاية جو بايدن ومهمته الصعبة في لملمة الجراح وتوحيد الأميركيين وإرجاع الولايات المتحدة إلى قيادة العالم.
وأثار الهجوم العنيف الذي تعرض له الكابيتول ردود أفعال عالمية من أبرزها قلق الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون على “إحدى أقدم الديمقراطيات في العالم”، ووقوف رئيس الوزراء البريطاني بوريس جونسون ضد نهج صديقه ترامب مطالبا باحترام الانتقال السلمي للسلطة.
لكن اللافت كان الكلام الصادر عن رئيس لجنة الشؤون الخارجية في مجلس الاتحاد الروسي قسطنطين كوساتشيف الذي صرح قائلا “انتهى عيد الديمقراطية.. لا يحق للولايات المتحدة، بعد اليوم، أن تقوم بتلقين الدول الأخرى دروسا في الديمقراطية”.
وأبدت الصين شماتتها مقارِنة الوضع في واشنطن بالتظاهرات المطالبة بالديمقراطية. وبشكل أكثر جدية حذرت وزارة الخارجية الصينية من “تورط واشنطن في الشؤون الداخلية الصينية” ملمحة إلى إمكانيات الرد الصيني مما يعني أن الشكل الجديد للحرب الباردة بين الجانين ستكون له انعكاساته على داخل البلدين.
يتبين جليا أن الهجوم العنيف على الكونغرس الأميركي والذي قادته ميليشيات اليمين المتطرف والعنصريين البيض، فضلا عن جهود بعض أعضاء الكونغرس لإلغاء نتائج الانتخابات في نوفمبر، لم يكن ليحدث لولا عدم رغبة الرئيس ترامب في التنازل عن خسارته أمام الرئيس المنتخب بايدن، الأمر الذي يكسر تقليد الانتقال السلمي للسلطة الذي كان السمة المميزة للديمقراطية الأميركية لأكثر من قرنين من الزمان. ولهذا فإن المواقف الدستورية المسؤولة لنائب الرئيس مايك بنس وزعيم الجمهوريين في مجلس الشيوخ ميتشيل ماكونيل وغالبية الشيوخ الجمهوريين تدحض مزاعم وجود “مؤامرة” لإسقاط ترامب. والأكثر دلالة كان فوز المرشحين الديمقراطيين وارنوك وأوسوف في انتخابات مجلس الشيوخ الفرعية في ولاية جورجيا، في 5 يناير، أكد أن تصويت ولاية جورجيا لبايدن في نوفمبر كان صحيحا، وأن كل التشكيك بنتائج الولايات المتأرجحة دحضته المحاكم والوقائع. ولذا بعد فضيحة الاقتحام ومجرياته وبعد نتائج جورجيا والعزلة التي أخذ يتعرض لها، أدان ترامب الذين اقتحموا الكابيتول متوعدا إياهم بالعقاب متناسيا أنه هو الذي قام بتحريكهم ويحاول على الأرجح تفادي العزل والمحاسبة وحفظ ماء الوجه.
وبالفعل فوت ترامب الفرصة الأخيرة لإثبات أنه سياسي، أو حتى رجل دولة مستغلا الموقف بالاعتراف بخسارته في الانتخابات، رغم تحفظاته، أو حتى “التهنئة” دون كلمة “خسارة” لمنافسه الديمقراطي بايدن، بوصفه “الرئيس المنتخب”. لكنه لم يفعل، بل واصل نرجسيته وديماغوجيته. لكنه اضطر إلى الاعتراف بفشله والتسليم بأن إدارة جديدة ستتولى البيت الأبيض في 20 يناير، مغلفا هذا التراجع بقوله إن اعتراضاته القضائية للتشكيك في الانتخابات كانت دفاعا عن الديمقراطية ووصلت الغرابة معه للقول إن “رحلتنا التي لا تصدق قد بدأت للتو”، وهذا يعني أنه لا يريد ترك المسرح السياسي وهذا ما يفسر الانقسام في الحزب الجمهوري الذي سيشهد تجاذبا بين أنصار ترامب ومن يسعى لتجديده أو إعادته إلى خطه التاريخي.
يعتبر أكثر من مراقب للشأن الأميركي أن العديد من سبعين مليون أميركي أو أكثر صوتوا لترامب لم يفعلوا ذلك كثيرا لأنهم أعجبوا بترامب الشخص، ولكن لأنهم شعروا أنه يدعم سياسات أو مواقف ثقافية كانت أكثر انسجاما مع قيمهم من تلك الخاصة بالديمقراطيين. وبدا أن الجمهوريين العاديين كانوا على استعداد للتغاضي عنها لأنهم اعتقدوا أنه سينفذ أجندتهم. والآن بعد الذي حصل في الكابيتول سيكون الحزب الجمهوري مدعوا للمراجعة من أجل استعادة الثقة بالمؤسسات والالتزام بالدستور.
لكن هذا الجهد لا يكفي من دون إصلاحات تتيح منع الشرخ الأميركي وتحصين شرعية الديمقراطية الليبرالية عبر دراسة تغيير نظام الحزبين وإصلاح النظام الانتخابي وتقليص الفوارق الاجتماعية الصارخة. ولذا يتعين على بايدن إعادة بناء ديمقراطية أميركية هزتها أحداث الكابيتول والانحراف الشعبوي في السنوات الأخيرة، خاصة أنه يملك الأكثرية في مجلسي النواب والشيوخ بعد انتخابات جورجيا، ولا تنقصه الخبرة ولا الحزم والحكمة كما بدا من خلال ردة فعله على فضيحة الكابيتول.
ومن هنا إذا لم يتمكن الرئيس بايدن وفريقه من الاستجابة لهذا التحدي، ستتأكد هشاشة الديمقراطية الأميركية ونموذجها، وتسقط طموحاتها في تعزيز الأفكار الديمقراطية الليبرالية حول العالم. ولم تعد تقدم نموذجا يقتدي به الآخرون، خاصة في حال استسلام مؤسساتها للخلل الوظيفي، ويكون “شحوب النور” فوق الكابيتول إنذارا لإطفاء المنارة الأميركية وبدء نهاية “الإمبراطورية الأميركية”.
khattarwahid@yahoo.fr