« رحمة » عليها السلام في ذكراها (7)
**
في الساعة التاسعة من صباح التاسع من يناير 2015 قتلت شقيقتي « رحمة » برصاصة قناص حوثي – « مقذوف بي 10 »- حينما كانت تطعم بقرتها بجوار باب دارها، حيث اخترقت الرصاصة وجهها وخرجت من قفاها وسقطت صريعة، خامدة الأنفاس، مضرّجة بدمائها أمام بناتها الثلاث اللاتي انصعقنَ وانعقدت ألسنتهنّ من الذهول ومن هول ما حدث لأمهن أمامهن, قبل أن يملأ عويلهن السماء.
ومن يومها، انقلبت حياتهنّ رأسا على عقب وانقطعنَ عن الدراسة وأصبحن نازحات في الوطن الذي « كان صِرحا من خيال فهوى »، مع الاعتذار لسيدة الغناء العربي أم كلثوم.
بعد أسبوع، نفقت بقرة أختي كمداً ولحقت بها بقرة أمي المقدسة ودجاجاتها والديك، وانكسر ظهرها ولم تعد تحتمل المزيد من النكبات. ففي سنة سابقة فقدت ابنتها “مسك”، الموجهة التربوية في حادث سير، وها هي تفقد الثانية برصاصة قناص حوثي! وفقدت المسكينة ذاكرتها وقضت نحبها بعد أشهر، وصارت ديارنا خاوية على عروشها، مهجورة، مغلقة تنعق فوقها الغربان وتعربد داخلها الجرذان ولم يعد لأرضنا من يفلحها.
قبل الفاجعة بعام، وبعد انقضاء أكثر من نصف قرن من إقامتي على الأرض استحوذني وسواس أن أكون مستثمرا إلى حد ما. وتركز الوسواس حول فكرة اللجوء إلى القرية, وفي السياق، شجعت النجل الأصغر لشقيقتي” الشهيدة” والذي لم يكن يفارقها قط، على الالتحاق بدورة تدريبية في تربية النحل لدى صديق سبقنا في اللجوء إلى قريته وتفرغ لتربية النحل وبرع في ذلك في زمن لم تعد فيه شهادة الدكتوراه التي يحملها تنفع أو تشبع.
وقد نجح الفتى في الدورة وقرأ كثيرا عن تربية النحل، وكان سعيدا بإضافة هذا المشروع إلى جانب مشروعه في رعي وتربية الأغنام . وحصل على 70 خلية نحل هدية من صاحبي وكان يوافيني بمستجدات المنحل أولا بأول وأنا أتابع أخبار “المشروع” كاتماً سري وسروري حتى لا يفشل كما فشل”المشروع الوطني”! وذات يوم، بشرني بأن ثمار مشروعنا غدت دانية القطاف ووعدني بإرسال أول قطفة من العسل بعد أيام لأتذوّقه قبل غيري. ولكن سبقتنا الفاجعة، وتدمر المنحل وأُبيد عن بكرة أبيه على وقع القذائف والتفجيرات التي زلزلت قريتنا، وتشتّت النحل وباد وانتحر، وتسمّمت الأجواء بالبارود وغبار جحافل القبائل المسلحة التي تقافزت إلى تلك القرية وغيرها بسرعة لا تضاهيها سرعة حيوان الكنغر الاسترالي، وراحت تذبح الأغنام والبقر، وتزرع الألغام في الطرقات والمزارع والمراع، وتفجر البيوت وتقيم الحواجز وتكتم الأنفاس وتفتش الناس وتقتلهم وتنكل بهم من ديارهم.
اعرف واعلم تماما بأني « متعاقد »- من غير إعلان- مع الفقدان والخسران والنحس والدبور منذ وعيت نفسي,د. وقد أخفيت هذا الأمر على نجل شقيقتي خشية من أن يفزع ويتطيّر ويتراجع عن مشاركتي في أي مشروع من مشاريعه، وحينما وقع المحذور أكلني الندم وتعذبت بضغط شعوري المؤلم بوجود رابط خفي بين ما أضمرت من مشاريع وتلك النازلة التي حلت بعائلتنا.
تبعد قريتنا « ظبي » عن صنعاء 300 كم تقريبا، وهي ليست على الحدود مع السعودية، وليست ساحة مواجهة! وتقع دار أختي على قمة جبلية تشرف على مدينة « عدن » وهي- أختي- ليست من “داعش” ولا من”داحس والغبراء” ولا من ” الإخوان” ولا من ” القاعدة” ولا تملك أي رصيد نضالي او خلفية ثورية، بقدر ما تملك مهارات عالية في فلاحة الأرض ونحت الخبز، وشتل الحوش المحيط بدارها بالورود والرياحين والمشموم والليمون والفلفل والطماطم والنعناع. وتملك كنزا من المشاعر الإنسانية الزاخرة بمحبة الناس تجلى أثره ساطعاً في مواكب النساء الحزينات النائحات المتوافدات إلى بيتها من أماكن وقرى قصية ومنسية لوداعها وتقديم واجب العزاء. وما أكثر النساء الفقيرات، التائهات اللواتي كن يلجأن إليها ويستندن عليها في الملمات وفي أي وقت، ويتقاسمنَ معها الخبز والماء والملح وفنجان القهوة المرة، وهذا نزر مما تناهى إلينا بعد رحيلها الفاجع.
عليك السلام والرحمة يا اختي العالية « رحمة » في الذكرى السابعة لرحيلك.
لقد فقدنا الكثير من الأهل والأصدقاء في هذه الحرب، ويمكنني القول بأننا تعرضنا لأكبر عملية تجريف واقتلاع لم نلمح هاويتها السحيقة حتى في أسوأ كوابيسنا السوداء.
مليشيات إبادية
إن اقتحام القرى والمناطق المسالمة والبعيدة عن مسرح المواجهات العسكرية ليس له من مبرّر غير إرهاب السكان وترويعهم بإشاعة مناخات العسكرة في إطار سياسة منهجية اعتمدتها المليشيات منذ نشأتها.
وتستفيد الجماعة الحوثية من ارتباك الموقف الدولي الذي لم يحسم أمره في تصنيفها كجماعة إرهابية، فاشية دينية بدائية، كما تستفيد من ممالأة بعض “المحللين” و”المحللات” واليساريين والاشتراكيين المتسللين المتهافتين على أداء واجب التعمية على الطبيعة الإرهابية للجماعة الحوثية وارتباطها الهيكلي بالحرس الثوري الإيراني والجيو- عقائدي بالولي الفقيه وملالي طهران.
لقد تحولت المدن المكتظة بالسكان الواقعة تحت قبضة النسخة اليمنية من “حزب الله” إلى دروع بشرية ورهائن، وتعرضت للحصار وصارت عمليات قصف الأحياء وقتل الأبرياء رياضة يومية لهذه المليشيات! ومع اقتراب الحرب من الدخول في عامها السابع، تكشّف وتأكّد أن جل المنظمات الأممية الفاسدة والتابعة للأمم المتحدة تساهم في تمويل الحرب والجماعة الحوثية عبر وضع معظم المساعدات المالية والعينية في يدها وتحويل تلك المساعدات إلى رؤوس أموال حربية، وتحويل معظم القيادات الحوثية البارزة إلى امراء وتجار حرب كبار وعابرين للحدود- سنتطرق لذلك في موضوع قادم.
المؤسف إن بعض الجماعات السياسية اليمنية التي لم تعترف بعد أنها ماتت، تعمل بكل ما أوتيت من قصور ذاتي وتاريخي على تسويق المليشيات الحوثية كطرف سياسي. وترتكب جرما فادحا وجسيما في مساعدة العصابات الإجرامية على الإفلات من العقاب، والتهوين من ممارساتها لعمليات القتل والاعتقال والاحتلال لأراضي السكان وبيوتهم وإجبارهم على العيش في دوائر حلزونية جحيمية.
وفيما تقول أفعال المليشيات الميدانية أنها لا تريد أن تكون طرفا سياسيا يقبل بالتشارك مع الأطراف الأخرى في صناعة القرار والمصير المشترك، يكفّ عن الإدعاء بالحق الإلهي في الحكم والوصاية على الآخرين والاستحواذ على السلطة بقوة السلاح، والتعالي بنزعة طائفية إبادية للآخر في المعتقد والمذهب والرأي والجهة، هناك نفر من اليساريين و” الوطنيين”يتسوّلون رضاها ويطالبونها بما لا تملك ولا تستطيع التنازل عنه! فهي مستفيدة ومنتفعة من الإقامة فيما قبل السياسة و”هؤلاء الأوغاد”يريدونها أن تكون على الضد من طبيعتها وطابعها، وان تقبل باشتراطات واستحقاقات السياسة من حوارٍ وتفاوض ومدنية وقبول بشراكة ووجع دماغ لأي مليشيا تعرف نفسها…؟
إن للمليشيات « جينات » البراغيث والفئران والقوارض التي تنمو وتتكاثر وسط الخرائب والأطلال وعلى أنقاض الدولة، وهنالك من يريد لها أن تكون شريكة في بناء دولة، ويساعدها على تنويع سبل البلطجة والسلب والنهب لموارد البلاد والسكان، وتثبيت سلطة جماعة سلالية مافيوية، ووضع مقدرات البلاد في خدمتها، مثل هذا الصنف من الكائنات المستحيلة.
وفي حين تعلن هذه المليشيات عزمها على الانتقام لقائد فيلق القدس في الحرس الثوري الإيراني الإرهابي قاسم سليماني وترفع صوره مع صور الخميني وخامئني في شوارع صنعاء، فإن هناك من يريد التمويه على هذه الحقائق الأكيدة والعنيدة وإقناع الناس بأن المليشيا “قوى وطنية” حتى وهي تجاهر بمبايعة المرشد الأعلى والولي الفقيه في طهران، وبأن حدودها هي القرآن وليست الرقعة الجغرافية، وأنها ستنتقم لقاسم سليماني الذي قتلته الإدارة الأمريكية في بغداد بقصف مطار عدن وقصف الأحياء السكنية بمدينة « تعز » وقصف المؤسسات والأعيان المدنية في السعودية.
لقد تمكنت المليشيات الحوثية من بناء اقتصادات متكاملة قائمة على سلوك العصابات والتنظيمات الإرهابية المتطرفة، وعاثت فسادا وإرهابا وهنالك من يبرر لها ذلك، ويستنكف حتى عن مجرد العرض للمأساة بأسلوب مأساوي.
ويبقى أن جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية التي ارتكبتها المليشيات الحوثية الإرهابية وأودت بحياة عشرات الآلآف وشرّدت الملايين لن تسقط بالتقادم، وينبغي على ذوي الضحايا والهيئات المعنية بحقوق الإنسان أن تنهض بواجبها في ملاحقة ومحاكمة القتلة المجرمين داخل البلاد وفي المحاكم الأوروبية والمحافل الدولية كلها.