لم ينتظر الإيرانيون تمثال سليماني على خط الغبيري-المريجة-برج البراجنة للسخرية من المقبور: فقد تساءلوا عن سرّ هذا الملصق الذي يظهر فيه مون جنرال « محاطاً بثلاثة ملائكة « غلمان » بدلاً من الحوريات »! الإيراني « لئيم.. بس مهضوم »!
يروي لي صديق عزيز مغامراته يافعاً انتقل في أوائل الثمانينات من مدينة بغداد إلى مدينة بعلبك، مسقط رأس والدته من آل مرتضى وهي عائلة تنتمي الى السياد، مرموقة دينياً وعلمياً، ومؤتمنة على مقام الست زينب في ضواحي الشام.
من مغامراته الشيقة، مشاركته آنذاك في تظاهرة دعا اليها “الحرس الثوري” الإيراني في بعلبك ضد ثكنة الشيخ عبدالله التابعة للجيش اللبناني والتي احتلها “حزب الله” لاحقاً وحولها مقراً لعملياته.
احتلال “حزب الله” و”الحرس الثوري” الإيراني مدينة الشمس لم يكن عسكرياً فحسب، بل كان أيضاً عقائدياً وثقافياً. فقد حاول الحزب فرض نوع جديد من التشيع الغريب عن تقاليد المنطقة، وعمد إلى تفجير تمثال ابن مدينة بعلبك شاعر القطرين خليل مطران وإزالة تمثال الرئيس المصري الراحل جمال عبد الناصر بذريعة محاربة الأصنام والوثنية واستبدال صور للولي الفقيه “روح الله” الموسوي الخميني بها.
ذريعة لم تدم كثيراً… فبعد أكثر من أربعة عقود من إنشاء الثورة الإسلامية في لبنان، وهو الاسم الأولي الأصلي لـ”حزب الله”، عمد هذا التنظيم إلى تشييد تمثال نصفي في بلدية الغبيري التابعة لإقطاعه للقائد السابق لـ”فيلق القدس” قاسم سليماني في الذكرى الأولى لاغتياله في العراق، من دون أن يغفل إغراق طريق المطار بصور عملاقة لسليماني وأبو مهدي المهندس الذي سقط الى جانبه. وعبادة الأصنام التي كانت مرفوضة من حزب ولاية الفقيه في الثمانينات يبدو أنها أصبحت محببة الآن. فميليشيات إيران شيدت أيضاً تماثيل عدة في الأهواز والعراق استفزت الناس وأثارت سخريتهم لرداءة وقبح المنحوتة التي تفتقر، كشخيصة المنحوت، للجمال والحميمية.
وفي حين يعتقد البعض أن ما تفعله إيران هو خطوة أولى على طريق ترسيخ سيطرتها على الكيانات الضعيفة، فإن تلك التماثيل والصور العملاقة ليست – بحسب مفهوم فرويد – إلا انعكاساً لضعفٍ أو “عجز” ما بعد مقتل عدد كبير من القادة الإيرانيين في ساحات الوغى من دون أن يتمكن أنصارهم من القيام بأي ردٍّ انتقامي والاكتفاء بالتهديد والوعيد بتدمير الشيطان الأكبر والأصغر. فوضع “حزب الله” يشبه إلى حد كبير الشخص الذي يتعرض للتنمر من “قبضاي” الحي، وهذا بدل أن يواجه ويدافع عن نفسه يذهب الى منزله ويتعرض لزوجته وأولاده ويحطم أثاث البيت قبل أن يخلد الى النوم.
الخطر في تشييد الأصنام هو أنه توسعي على شكل إيران وسياستها، فـ”حزب الله” لن يكتفي بزرع صور وتماثيل في مناطق احتلاله المباشرة بل سيتمدد الى مناطق أخرى تحت ذريعة أن النظام اللبناني يسمح بتعددية الآراء ولو كانت تلك التماثيل والصور هي لقادة غير لبنانيين سقطوا في سبيل مشروع سياسي مذهبي عرّض لبنان وبلدان المنطقة لتدمير أنظمتها السياسية والاقتصادية.
بغض النظر عن مدة ومدى احتلال إيران وسيطرتها الثقافية والعسكرية بأذرعها المنوعة في المنطقة، فإن تلك المظاهر لن تتحول عضوية وتدخل في النسيج الطبيعي لبلد مثل لبنان، بخاصة أن تلك المظاهر التي تحتل الحيز العام تمول من “أموال نظيفة” وإن كانت ملوثة بتهمة تجارة المخدرات، وقد أُقْحمت في أنف اللبنانيين بقوة السلاح وليس بفعل آخر.
والأهم أن “حزب الله” ونهجه العسكري والعقائدي لا يختلفان كثيراً عن الفاشية الأسبارطية التي اختفت مع اختفاء أسيادها وتمويلهم. فمدينة أسبارطة الإغريقية اختفت من الوجود ولم يبقَ من أبطالها وشهدائها أي تمثال أو نصب تذكاري، بل أطلال تصلح لقصائد امرئ القيس او ربما منشدي “حزب الله” ذوي الكلمات والألحان المسروقة. فأسبارطة، كما هو حال النسخة التايوانية الإيرانية، لم تفلح في خلق نظام اقتصادي خاص بها كونها كانت مهووسة بالقتل، فركزت على الحصول على المال من المدن المجاورة من دون أن تصكّ النقود، بل اكتفت بالتداول بعملة جيرانها من المدن الإغريقية، وهو أمر غامض في دوائر علم المسكوكات.
قاسم سليماني وإخوانه من “المجاهدين” من الأصنام ليسوا بعمر الخيام أو خليل مطران أو علي الوردي أو الفردوسي أو فخر الدين، وأطلالهم إن بقي منها أثر ستكون ذكرى حقبة سوداء في تاريخ الإنسانية حلّ فيها السلاح والغباء محل الجمال والعقل والمنطق.
المصدر: النهار العربي والدولي