يلاحظ قارئ المطالعة القواتية التي نشرها « الشفاف » أنها خلت، وللعجب، من كلمات « إيران »، و« سلاح » (ما يسمّى « المقاومة »)، و« الدويلة » و« الإغتيالات »، أي كل بضاعة حزب الله الذي يرد ذكره مرة واحدة لا تخلو من « الإذعان »: « ان فرنجية لن يمر ولم يبلع حزب الله اتفاق فرنجية – حريري »!
بالمقابل، ترد كلمة « المسيحي » والمسيحيين » ٧ مرات على الأقل!
وهنا المشكلة! وهنا لب الخلاف!
ببساطة: هل ناقش د. سمير جعجع مع الجنرال عون كيفية « استعادة سيادة لبنان » و« تحرير ال١٠٤٥٢ كيلومتر مربع من الإحتلال الإيراني »، في حال انتخاب عون رئيساً؟
نعم، أم لا؟
*
مثّل انتخاب الجنرال الدكتور العماد ميشال عون رئيسا للجمهورية « نكبة » اخلاقية ووطنية تماثل، في تداعياتها المستمرّة منذ نيف واربع سنوات، تداعياتِ ما حصل في تفجير مرفأ بيروت من نتائج كارثية ومن تدمير ممنهج لكل البنى المؤسساتية في الدولة اللبنانية، وتلزيم الدولة للدويلة، ورهنها لإرادة الملالي في طهران.
غداة انتخاب عون، كان اكثر المتحمسين هو « حزب القوات اللبنانية »!
فتجند قادة الحزب المذكور، وفي مقدمهم رئيس الحزب، لتسويق ما وصفوه حينها بـ« الخيار المسيحي » الذي يجب على الاطراف الاخرى في البلاد احترامه. وخرج وقتها رئيس الحزب، الدكتور سمير جعجع، ليعلن بالفم الملآن، أن وصول عون الى سدة الرئاسة، يمثل « وللمرة الاولى، خيارا لبنانيا صرفا مئة في المئة »، ومكررا في اكثر من مقابلة انها المرة الاولى التي ينُتَخب فيها رئيس صنع في لبنان!
اما مسؤول الاعلام في حزب القوات « شارل جبور »، فانبرى يهدد يوميا المسلمين المعترضين على انتخاب عون، خصوصا « تيار المستقبل »، بالسلم الاهلي والعيش المشترك، لان « القوات » قررت تبني ترشيح عون للرئاسة وعلى كل الاطراف الاخرى احترام خيار « القوات »!
« ملحم رياشي » كان يتنقل مزهوا بين الرابيه ومعراب، وينظم قصائد الغزل بالاتفاق المشؤوم، الذي قبض ثمنه حقيبة وزارية عن « حزب القوات ». والصق على جدار غرفته صور “بشير وسمير وعون”، طالبا من القواتيين ان يحذوا حذوه، وان تعلو صور القادة الثلاث رؤوسهم في غرف نومهم.
اما « جورج عدوان »، نائب رئيس القوات، فكان يخرج يوميا على اللبنانيين، ليبشر بالخلاص على يد « القوات »، بعد انتخاب عون رئيسا. واستكمل عدوان عدوانه على اللبنانيين باقرار قانون الانتخابات المسخ، الذي اوصل الى الندوة البرلمانية غالبية نيابية موصوفة لـ »حزب الله” وحلفائه.
تزامنا كان التسويق على أشده، لما سمي ب “اتفاق معراب” حيث اعتبر حزب القوات انه استطاع انتزاع مواقف سياسية من الجنرال عون، ابرزها واهمها تنفيذ اتفاق الطائف، الذي اعتبر الطرفان ان ما نفذ منه خلال عهد الوصاية السورية تم بشكل “معتور” حسب ما جاء في اعلان النوايا بين الطرفين، الذي يعتبر جزءا لا يتجزأ من اعلان النوايا.
ولكن حزب القوات اغفل في سكرة الاتفاق، عن التطرق الى السلاح غير الشرعي المتمثل بسلاح حزب الله المنتشر على الاراضي اللبنانية كافة، ولم يستطع الزام التيار العوني باي بند يتعلق بحصرية السلاح بيد الشرعية اللبنانية.
واستكمالا لقلة الدراية القواتية، وللطمع والجشع المستتر في ملحق الاتفاق المشؤوم المسمى « اتفاق معراب »، بدأ التسويق لخوض القوات والتيار العوني للانتخابات النيابية معا، قبل اقرار قانون الانتخابات « العدواني ». وكانت التجربة الاولى في الانتخابات البلدية، حيث مني القواتيون بخيبة امل كبيرة من تحالفهم مع التيار العوني، فاستفاد التيار العوني من اصوات القواتيين حيث حصد ما امكنه من المجالس البلدية ورفض جبران باسيل اعطاء مرشحي القوات اي ميزة في المناطق ذات الاغلبية العونية. بل طالب بحصة للتيار في المناطق ذات الغالبية القواتية.
واشتهرت يومها، عبارة منسّق البترون عصام خوري، في مقابلة تلفزيونية، حين اخرج باسيل « القوات » من مجلس بلدية مدينة البترون، قائلا “بيمون الوزير باسيل”!
الخلاف يومها فكان على حصة التيار العوني في بلدية بشري، حيث طالب باسيل بتضمين لائحة القوات للمجلس البلدي في بشري مرشحين عونيين يمثلون ثلث المجلس البلدي، مقابل تضمين لائحة العونيين خمسة مرشحين من القوات! وازاء رفض القوات ترشيح عونين على لائحتها في بشري لضعف التمثيل العوني الى حد الانتفاء، اخرج باسيل القوات من مدينة البترون! علما ان مرشحا قواتيا خرج على ارادة الحزب بالتحالف مع التيار العوني، وفاز منفردا عن « القوات » في المجلس البلدي لمدينة البترون، ما يعكس حجم التمثيل القواتي في المدينة الذي ضحوا به كرمى لعيون الوزير باسيل.
قانون عدوان للانتخابات انقذ « القوات » من التحالف مع التيار العوني، قبل ان يلقوا بالملامة على « تيار المستقبل »، لعدم تحالفه معهم! وحين تم الكشف عن الملاحق غير المنشورة للاتفاق المشؤوم في معراب، اتضحت الاسباب التي حوّلت عون وصهره باسيل من شيطان رجيم، ولا يجوز “تجربة المجرَّب” حسب ما كان يقول رئيس القوات، الى حليف استراتيجي موثوق. حيث اوقع باسيل « حزب القوات » بما يطمع اليه رئيس الحزب، وهو تكبير حجم كتلته النيابية والوزارية وحصته في ادارات الدولة، مناصفةً مع التيار العوني. الامر الذي لو كان التزم به التيار العوني لكان عون وتياره ما زالا يمثلان بالنسبة للقوات خيارا استراتيجيا مسيحيا لا غبار عليه، ولكانت صور الثلاثي بشير وسمير وعون ما زالت معلقة على جدران غرف نوم القواتيين دون العونيين طبعا! فقد اتبتت التجارب والمعاينات اللبنانية ان « القواتي » قد يتحول « عونيا » اما العكس فغير صحيح.
وتزامنا مع الاتفاق المشؤوم، درج رئيس القوات على تكليف مؤسسات تقوم باجراء استطلاعات للراي، في المناطق المسيحية، وتسريب نتائج الاستطلاعات التي بموجبها كانت « القوات » تسوّق لتحالفها الانتخابي المقبل المزمع مع التيار العوني. وفيها ان القوات والتيار يمثلان 86 في المئة من المسيحيين! وتاليا سيتحكم الطرفان بلوائح الترشيح للانتخابات!
ودرجت مقولة “من أنت ومن تمثل”، خصوصا المسيحيين المستقلين الذين شكلوا رافعة للقوات قبل وبعد خروج رئيسها من السجن.
اما ابرز نتائج قانون عدوان فكانت، اضاقة الى تسليم المجلس النيابي لقوى 8 آذار بقيادة الحزب الايراني، اقصاء المسيحيين المستقلين عن الندوة البرلمانية، وكان هذا الامر هدفا قواتيا، تطابق مع الهدف العوني، قبل اقرار قانون انتخابات عدوان، ولم ينس اللبنانيون تصريح النائب جبران باسيل عقب فوزه بعد خسارتين مدويتين للمقعد الانتخابي في البترون، انه سيتوجه ليلا الى تنورين، مسقط رأس النائب السابق بطرس حرب، للاحتفال بالفوز، ولتصفية حساب قديم.
وتداركا للاحراج، فال رئيس القوات، إن انصاره صوتوا للسيادي الدكتور فارس سعيد في دورتين انتخابيتين متتاليتين، ولم يستطع تحقيق الفوز في دائرة جبيل، وتاليا هم سيصوتون لسواه، ولكن المنطق القواتي لم ينسحب على تيار المستقبل مثلا، حيث صوت التيار الازرق لرئيس القوات في اكثر من اربعين جلسة انتخاب رئاسية، ولم يستطع رئيس القوات الفوز بالمقعد الرئاسي، فلماذا يعيب حزب القوات على المستقبل اذا اراد التصويت لمرشح آخر؟
وبعد اربع سنوات على انتخاب الجنرال ميشال عون، وبعد ان خدع جبران باسيل « القوات »، فأخذ منهم الموافقة على ترشيح عمه للرئاسة، وهو البند الاول في اتفاق معراب، والذي لم يقرأ عون وصهره غيره من البنود، وتنصل من كل الالتزامات التي جاءت في الاتفاق، ادرك برئيس القوات الىن انه تعرض للخديعة! ونسي ان حزبه لم يتخطَ حجمه التمثيلي يوما اكثر من 6 في المئة مسيحيا حسب منطق باسيل، الذي عاملهم على قدر ما اعتبره هو حصتهم التمثيلية!
وهذا ما كان صرح به غير مرة باسيل عن ان تيار عمه هو الاقوى مسيحيا وهو الاجدر بتسمية الحصة الاكبر من الوزراء المسيحيين وسواهم اذا قدر له. اما « القوات » فباسيل يملك حق الفيتو على تسمية وزرائها للحكومة، وكذلك حصتها الوزارية. اما إدارياً فقد اقصاهم باسيل عن كل المراكز الادارية الحساسة وغير الحساسة في الدولة.
هنا انقلب جعجع على عون، وطالب باستقالته، وهو يتوهم من جديد ان الانتخابات النيابية المبكرة وفق قانون « عدوان » سوف تعطيه ارجحية نيابية مسيحية، نتيجة التجربة العونية السيئة والكارثية في الحكم.
الا ان جعجع نسي ان العوني الممتعض من التيار يهاجر او يعتكف عن التصويت انتخابيا ولا يصوت لمرشح قواتي مهما كانت العواقب! اما المستقلين المسيحيين فتجربتهم مع جعجع تشبه تجربة جعجع مع باسيل، فهم ادركوا انهم تعرضوا للخديعة بعد ان تم استغلالهم لسنوات، وحين ازفت مصلحة القوات بالتحالف مع التيار العوني كانوا هم اول الضحايا واصبح مطلوبا منهم الوقوف على الميزان ليكشف القواتيون اوزانهم وحجمهم التمثيلي. وتاليا هم لن يصوتوا للقوات.
اما الشباب فبالنسبة لهم جعجع من ضمن منظومة “كلن يعني كلن”، وتاليا لا يمثل بالنسبة لهم الطموح والمرتجى ولا نبض ثورة 17 تشرين، مهما حاول ان يسوق نفسه متحدثا قريبا من منطق الثوار!
فمن اين، إذاً، سيضاعف جعجع كتلته النيابية التي سيطالب على اساسها بانتخابه رئيسا خلفا لعون قبل انتهاء ولايته الرئاسية ام مع انتهائها؟
وللموضوعية، فإن اقطاب قوى الرابع عشر من آذار، بعد ان واجهوا الحائط المسدود الذي رفعه امين عام الحزب الايراني، في وجه انتخاب رئيس للجمهورية، متوجها الى اللبنانيين بالقول:”اذا اردتم رئيسا للجمهورية انتخبوا الجنرال عون، وحين تقتنعون بانتخابه يصبح لدينا رئيس للجمهورية، في اليوم التالي”، ودأب مع نواب 8 آذار، على تعطيل جلسات انتخاب الرئيس لاكثر من سنتين ونصف السنة، الى حين اجبر قوى الرابع عشر من آاذر على الرضوخ وانتخاب عون.
ولكن ما فات اقطاب الرابع عشر من آذار، انهم ذهبوا الى التسوية منفردين، كل لوحده، ما سهل على باسيل، والحزب الايراني، التفرد بهم، فكانت التسويات المنفردة، التي خاضها حزب القوات من خلال اعلان النوايا، واتفاق معراب، والتيار الازرق، عبر نادر الحريري وجبران باسيل، واضطرار رئيس الحزب التقدمي الاشتراكي وليد جنبلاط الى الالتحاق بهما، كانت هذه التسويات المنفردة بمثابة ضمان مصلحة لكل فريق لوحده من القوى الايرانية، التي تعلو مصالحها كل المصالح، فدفع لبنان بكل مكوناته من التيار العوني الى القوات الى التيار الازرق الى سائر القوى السياسية ثمن التسويات التي اصبحوا اسراها، ما اوصل البلاد الى انتفاضة السابع عشر من تشرين، والانهيار التام الذي تعيشه البلاد.
حري بمن امتلك اجرأة ليعتذر عن ارتكابات جرت خلال الحرب الاهلية، ان يبدأ بمراجعة سياسية شاملة، لكل التجربة السياسية وصولا الى انتخاب الجنرال الدكتور عون رئيسا ويعتذر عن هذه الخطيئة المميتة في حق اللبنانيين عموما والمسيحيين خصوصا.
واذا كان ذنب من صوّتوا لعون وهم لا يعرفونه شخصيا، يعطيهم بعضا من الاسباب التخفيفية، فذنب القوات اكبر لانهم كانوا وما زالوا يعرفون الجنرال وقد خبروه منذ ثمانينات القرن الماضي، وما زالوا يستمرئون « تجربة المجرب » مع علمهم أن « عقله مخرّب »، فدفع كل لبنان الثمن وليس حزب القوات منفردا.