قراءة في مقال الأستاذ منصور هائل بعنوان (كعب أخيل المصالحة الخليجية). يتناول الكاتب منصور موعد انعقاد القمة المغلقة القادمة، ودور الكويت، وضغط « كوشنر » لحرمان إيران من عوائد مرور الطيران.
الصراع الخليجي مصدر قلق الأمريكان، ويفتت جهود ترامب لعزل إيران بحسب الرؤية الأمريكية، ويُتوقع التوقيع بالأحرف الأولى على مبادئ مصالحة بين مختلف الأطراف، والغائب الأكبر هو اليمن.
يرى منصور أن المتضرر الأكبر هو اليمن من تصدع وانقسام “تحالف دعم الشرعية”.
منصور هائل يمتلك قلماً جباراً رشيقاً وحاد الذكاء، وما يكتبه دائماً أدب سياسي رفيع؛ فالتعبير عنده عميق الرؤية، مدجج بالثقافة، وصدق القول.
كقارئ أتفق معه في التفاصيل وتفاصيل التفاصيل، وأود أن أتناقش معه حول فكرة ما إذا كان إجماع التحالف يخدم اليمن، وأن الانقسام قد أضر باليمن. فالقول بأن اليمن قد تضرر بهذا الانقسام يمكن الرد عليه من الفقرة التالية من المقال.
يضيف ابن هائل مباشرة: “ما تحقق على الأرض، وما تمخضت عنه الحرب هو تحطيم وتمزيق بقايا الدولة والكيان اليمني، وإعطاب تأثير وجدوى المعطيات والمزايا الجيواستراتيجية اللصيقة بهذا الكيان، وتعطيل إمكانية قيام أي نظام قادم قادر على القيام بدور مؤثر في المنطقة، ولم تعد الدولة موجودة في اليمن وفقاً لتقرير فريق الخبراء التابع للأمم المتحدة”.
وليسمح لي الزميل بالإضافة إلى نصه الرائع، وهو أيضاً الواقع على الأرض اليمنية، والمشاهد والمدرك في الكيانات المليشاوية في صنعاء، وتعز، وعدن، وتهامة، ومارب وشبوة؛ فالحرب هي أم الكوارث والتفكيك والتمزيق كما أشرتم، ولكنها -أي الحرب- لم يأت بها الانقسام، وإنما هي موجودة في توحد التحالف، وقد تكون خطورتها، وتعدد أطرافها قد ازدادت بسبب انقسام التحالف، ولكنها موجودة قبلاً، وقد يكون مخططاً لها منذ توزع التحالف؛ ففي حين ذهبت قطر إلى كسرى وقيصر، أو بالأحرى تلاقي الولي الفقيه بالمرشد العام كقراءتكم الصائبة؛ فإن الطرف الآخر ذهب إلى ترامب ونتن ياهو؛ فاتسعت الرقعة كما تفضلتم، وقبل ذلك الصراع المميت على السلطة في الداخل اليمني.
أود التذكير بأن الحروب ضد الربيع العربي في سوريا ومصر وليبيا واليمن قد تمت في أزمنة التوحد، وبتمويل أطراف التحالف لحروب عسكرة الثورة السلمية في غير بلد. والأمريكي القلق من الانقسام هو من لعب بالأمس القريب دور البطولة في صنع هذا الانقسام. والمأساة يا بن هائل أن الأطراف في المستويات الثلاثة: الأهلي، والإقليمي، والدولي ينقسمون ويتوحدون ويتحاربون، وتكون اليمن (الأضحية) في كل الحالات ميدان القتال، وأبناؤها أدوات الحرب.
رؤيتكم لتقويض الدولة الشرعية بالانقلاب الحوثي، وبفضل الحرب التي شنها التحالف، وحولت اليمن إلى فريسة وغنيمة حرب- مهمة وصائبة. غير أن تلطيفكم في السياق بقولكم: (بقصد أو بغير قصد) جملة لا تعني الكثير، أو بالأحرى جملة لا محل لها من الإعراب، ففي حرب كهذه لا يُبحث عن القصد من عدمه.
وتشير أن نقاط ومناطق الافتراق والتضارب كانت موجودة وصولاً إلى التصدع، وهو كلام دقيق. فمنذ البدء جرى اقتسام ميدان المعركة؛ فتولت السعودية الشمال حيث زبائنها من شيوخ القبائل وكبار المسئولين والضباط، وحيث علاقاتها التاريخية بالتجمع اليمني للإصلاح، بينما تولت الإمارات الساحة الجنوبية، حيث ورثت الحراك المسلح، والسلفيين والمتضررين من الوحدة، ولها قضية في ميناء عدن وفي الموانئ والجزر. وحقا بدأ الاختلاف على اقتسام الفوائد والعوائد مبكراً، ولكنه اتسع بعد الانقسام، وبرز تحالف قطر في إهاب الولي الفقيه والمرشد العام.
ويواصل ابن هائل مقاله السياسي الرفيع، وقطعته البيانية الرائعة في قراءته العميقة للنتائج الكارثية للحرب، وما فعلته سلطة الأمر الواقع في صنعاء، وما أنجزه الحلفاء من تدمير للكيان اليمني، واستلاب للموانئ والجزر والمحافظات ومساحات شاسعة من اليمن.
وفي حين يقول: “وأصبحت اليمن بلا جزر ولا موانئ ولا سواحل”، يعود ليقول:” لقد أفضى انقسام التحالف إلى حرف بوصلة المواجهات، كما حول الحرب إلى حروب داخل المناطق التي غدت تحت وصاية واحتلال من جاءوا لتحريرها، كما ساهم الانقسام في زيادة فساد الشرعية الفاسدة أصلاً، وفي استعار التكالب على مناصب ومغانم سلطة لا وجود لها، وتسابقت كل الكيانات والمؤسسات المتنافسة على النفوذ، وانفتح المجال لظهور دويلات القتل الجماعي، والقتل على الهوية، والتشكيلات العسكرية والعصابات الإجرامية”. وهو رأي واضح الدلالة، قوي الحجية والمنطق. والملاحظ أن الانقسام كشف الخبيء، وفضح أكثر فأكثر الغايات المقيتة والأهداف المدمرة للحرب، وهي حاضرة في هذه السيرة الإجرامية في مستوياتها الثلاث: الأهلية، والإقليمية، والدولية.
والقول بأن هيبة السعودية قد تراجعت، وانكمش حدود تحكمها حتى على دائرة المتحالفين في الداخل اليمني والإقليمي- صحيح. وهي أيضاً قراءة دقيقة وصائبة، ومرده إلى أن تحالفاتها مخلولة منذ البدء؛ فحلفاؤها (التجمع اليمني للإصلاح) علاقتهم بالأساس مع قطر، والمرشد العام داعية الخلافة الإسلامية في تركيا، ثم إن القابلية للوجود السعودي لم تعد قائمة كما هو الحال في حرب 62-70، والأهداف أصبحت مكشوفة، والإصلاح ومشايخ الإصلاح غير مرحّب بهم في مناطقهم.
وإشارة منصور إلى فشل أنموذج البناء والإعمار الذي حل محله الاستثمار في المليشيات والفصائل والقبائل والكيانات التي قامت على أنقاض مجتمع مبعثر- دقيق وعميق. وحقاً، فإن فشل حرب الشرعية مرده في جانب مهم إلى الارتهان للتدخل، وسوء الأنموذج الذي قدمه التحالف في مناطق وجودهم؛ فبشاعة أنموذج التحالف خير مقنع لليمنيين برفض التدخل، ومنابذة الشرعية.
وإشارة منصور- ومعه كل الحق- إلى حرب شرسة خاضتها دول الخليج باستثناء الكويت أوافقه الرأي، وأضيف: عُمان أيضاً. ويقول -ونعم القول- : “وتم التقاسم على جثة بلد طريح وذبيح، وانتساخ القماشة الملكية المتبعة، والتبرك بلباس أولياء النعمة”. ويضيف: “فقد توجهت خلال هذه الحرب نحو كيانات قبلية، ومناطق، وعائلات، ومجموعات، ودويلات صغيرة، وطوحت بمظاهر الحياة السياسية ورتوشها الحداثية بضربات قاضية”، وهو قول في غاية الدقة والعمق.
يشير أن المضحك المبكي أن أطراف الأزمة انخرطت في تقمص دور تأييد الثورة، ومع ذلك انبرت الإمارات لتقف مع الثورة المضادة. والواقع أن أطراف الأزمة الداخلية بما في ذلك جماعة صالح التي انقسمت على نفسها، وانضمام الإصلاح وعلي محسن إلى الثورة كانوا الأساس للثورة المضادة، وشكلوا مع أنصار الله الحوثيين قوة الثورة المضادة في الداخل، أما مجلس التعاون فقد ساند كله الثورة المضادة ونظام صالح أو بالأحرى ما تبقى منه بتقديم مبادرة التعاون الخليجي التي أعادت ترميم النظام وإنتاجه، ومنحه الحصانة والإعفاء من المساءلة، وانفراد الإمارات بتبني جماعة صالح جاء لاحقاً وإن كان الإعداد مسبقاً شأن الحرب المعد لها من قبل كل المعادين للثورة الشعبية السلمية وللحل السياسي.
ازدهار الحركة الحوثية بالحرب صحيح، وكون البنية التحتية لكل الأطراف واحدة صائب أيضاً، والقابلية اليمنية للتدخل شواهده التاريخية ماثلة وكاثرة، وضعف الجسم القابل للداء قياساً على ضعف المجتمعات القابلة للاستعمار حاضرة كرؤية المفكر الجزائري مالك بن نبي.
ورؤية منصور لازدهار الحرب مهمة؛ فالحرب الأهلية تنمو وتزدهر وتقوى وتتوالد حروباً وحروباً حقيقة خبرها الشاعر الجاهلي زهير بن أبي سلمى منذ قرون وقرون، وكل تجارب الحروب يدركون أن استطالة الحرب هي الرزق الذي لا انقطاع له إلا بوقف الحرب.
وقولك أخي إن التشابك بين الأزمة اليمنية والخليجية قوي وكبير للغاية مهم، وعلينا وعليهم أن يدركوا وأن ندرك أن خراب اليمن يعني خرابهم؛ فخراب اليمن يعني استنزاف ثرواتهم، وخلق عداوات تبدأ ولا تنتهي، فلا مصلحة لأحد في استمرار حرب لا غاية لها إلا تدمير الكيانات، واستنزاف الثروات.
ويرى، وهو محق، أن أي مصالحة بدون الملف اليمني تكون ناقصة، وتعني استمرار الصراع لأن الصراع الخليجي مشتبك، بل وضالع في الصراع اليمني.
ويرى أن التعويل على اتفاق الرياض لا معنى له؛ فهو اتفاق مفخخ؛ كونه لا يلامس المحنة اليمنية، ولا يحيط بجذور القضية الجنوبية، ويتوقع معاودة الحرب بلا هوادة؛ لإضفاء الشرعية على سلطة الأمر الواقع حسب رأي خبراء دوليين.
المحذور فعلاً- كقراءة منصور- تصفية الشرعية، ودعم الانتقالي كبديل تمهيداً لاقتسام الجنوب بين الحلفاء السعودية والإمارات، واستمرار الحرب في غير منطقة. والحال أنه لا يمكن الحل بإلغاء طرف لصالح طرف، كما لا يمكن الحل في الجنوب بعيداً عن الشمال، أو التهدئة في الجنوب مع استمرار الحرب في الشمال؛ فالمسألة اليمنية مترابطة حد التمازج، ومشتبكة أيضاً بالصراع الخليجي كما أشار منصور، وبالصراع الإقليمي؛ فالحلول التكتيكية المتلاعب بها تعني الاستمرار في التورط، ومزيداً من إهدار الدم والثروة.
قد يكون اتفاق الرياض خطوة بالاتجاه الإيجابي لو أريد له أن يكون لبنة لحل سياسي أوسع وأشمل؛ وهو ما وصلت إليه القراءة الذكية العميقة والواقعية. يقول في خاتمة المقال المفعم بالموضوعية والصدق ناصحاً دول الخليج عدم اللعب بالنار، ودعم جهود مصالحة وطنية، وتسوية شاملة محذراً من الملتاثين بالدماء وبالفساد.
يشدد منصور على نزع فتيل الحرب، وأن يترك لليمنيين حق تقرير مصيرهم على أن تتعهد دول الخليج وتلتزم بمشروع مارشال تجاه اليمن، وهو ليس بكثير على الدول الأغنى التي تعرضت خلال هذه الحرب لأكبر عملية ابتزاز ونهب من قبل ترامب وشركات الأسلحة في أمريكا والغرب.
الفقرة الأخيرة هي المطلب للشعب اليمني كله، وهو مطلب قومي ودولي.
ما يكتبه منصور هائل أدب سياسي رفيع وراقي نعجب به، ونتعلم منه، وكان أستاذنا الجليل المفكر الكبير أبو بكر السقاف شديد الإعجاب بقلم ابن هائل، وكثيراً ما أشاد به، ويبدو يا بن هائل إن كعب أخيل الرمز الإغريقي قد حول أخيل البطل الأسطورة إلى كعب أخيل للأمة العربية كلها.