وبالتالي كنا نعتبر أن الإشادة بالعيش المشترك يحيلنا آليا إلى الدين والطائفة ويحصرنا في دائرتهما، كحاملين وحيدين للفروقات بين اللبنانيين. وأظن أن استخفاف الجيل الجديد بالعيش المشترك مشابه لموقفنا ذاك.
هم جيل « الميلينيوم » المعولَم الذي ينتمي للكرة الأرضية بأجمعها. وهم الأكثر اتصالاً، “connected” بعوالمها التكنو رقمية والافتراضية. إنهم ينتمون إلى ثقافة عالمية تحملها اللغة الإنكليزية حاليا، ونأتي نحن لنكلمهم عن عيش مشترك في مجتمع صغير يعج بالمشاكل والاخفاقات والتأخر؟ وهزؤهم غير نابع عن رفض الآخر القريب مهما كانت “غيريته”، دينية أو ثقافية أو لغوية أو جنسية، بل ينبع عن ضيق بالدائرة التي نسجنه فيها، فهم يريدون ليس فقط التعايش مع الآخر القريب، بل مع الآخر البعيد، على غرار التعايش مع الـAliens الذي تبرع بعض أفلام هوليوود في تقديمهم لنا كرفاق مستقبل. لكن قد يغيب هنا أن الانتماء المحلي هو شرط العالمية. وإلا سيحل الاغتراب محل الانفتاح.
لكن الخطر الداهم الآن أن وجود لبنان نفسه، بعيشه المشترك، مهددان جديا بسبب انهيار الدولة. فليس انهيار العيش المشترك سبب الأزمات التي نعيشها بل العكس، تكاثر الأزمات بسبب تحلل الدولة يهدد العيش المشترك.
يؤكد أنطوان مسرة في أحد مقالاته على متانة التبادلات ما بين الطوائف على الصعيد اليومي، والتي لم تتوقف خلال سني الحرب في لبنان بين عامي 75 – 90 ، ووقوفها ضد ترسيم الحدود بين الطوائف بهدف قطع العلاقات بينها. والدليل على ذلك ازدحام “المعابر”. لكن على الرغم من كل هذا التراث المدني- الدنيوي المتراكم الذي يعود تاريخه لقرون، يعيش لبنان بشكل دائم “وضعية حرب أهلية أو وقف إطلاق نار مسالم”! لماذا؟
لأن ضمانة العيش المشترك اللبناني، في ما يتعدى الواقع الاجتماعي والثقافي بالمعنى الانثروبولوجي الواسع، هو الدولة. لكننا بعد قرون من تعايش اللبنانيين، بحيث أنهم بلغوا درجة عالية من الاندماج على صعيد الحياة اليومية، نجد أن الانقسام يتم بواسطة التلاعب السياسي المستمر من قبل المسؤولين، وأن ما يزعزع العيش المشترك هو أداء السياسيين أنفسهم.
والتلاعب هذا انقلب على أسس النظام الديموقراطي كما وصفه شارل حلو في خطاب القسم: “أؤمن بأن النظام الديمقراطي ضرورة جوهرية لبلادنا. فهو بالإضافة إلى ما يكرس من حريات ويؤمّن من توازن بين السلطات، إنما يتيح عندنا مجال اللقاء المثمر بين الأسر الروحية اللبنانية فيتفاعل نشاطها ضمن المؤسسات الديمقراطية، وتتقابل حاجاتها وآراؤها في إطار من التعاون الأخوي. وإذا كان الحكم شورى فإن نظام الشورى هو في لبنان أحد شروط الحياة المشتركة والاستقرار. وأؤمن بأن السياسة الخارجية أُرسِيَت، منذ الاستقلال، على قواعد متينة تتوازى مع إرادة شعبنا في العيش المشترك، ووحدة شعورنا وموقعنا”.
فكيف نلتمس العيش المشترك اليومي الذي يشكل الحبكة التي تربط النسيج اللبناني برباط متين؟ والذي يعتبر ميزة لبنان التفاضلية!
تثبت التجربة أن عيش اللبنانيين معاً بسلام وتعاون هو نتاج تجارب مئات السنين من العيش سويا، وربما لمواجهتهم تاريخا طويلا من المعاناة المشتركة، حروبا وصراعات ونزاعات، جعلتهم يتبنون تصرفات وسلوكيات متعددة لاحتواء كل ما يمكن أن يعكر هذا الإرث الثمين. ولشدة ما أصبح هذا العيش جزءا من سلوكياتنا، بتنا لا ننتبه للآليات التي يتجسد فيها في ممارستنا اليومية.
لنسأل: رغم حديث الفدرلة المتجدد، هل تتخيل طائفة أو فئة لبنانية فعلاً العيش في لبنان من دون المكون الآخر؟ ألا يبرهن اللبنانيون، كأفراد، عن درجة اندماج عالية في حياتهم اليومية وفي معرفة بعضهم البعض، عند مقارنتهم بغيرهم من الأوطان الشبيهة؟
سبق أن أشرت إلى الأسئلة التي نوجهها للبناني الآخر الذي نلتقي به لأول مرة، فنسأله عن اسمه ومنطقته وأقربائه كي نتمكن من موضعته ومعرفة انتمائه الديني، كي لا نقع في خطيئة إهانته إذا ما لفظنا بعفوية ما يسيء لمعتقده. قد يُظنّ أن هذا دليل تباعد، لكنه من ضمن آليات “مسايرة الآخر” وحفظ التواصل معه لأننا نعرف تعدد المكونات الوطنية. قد يرد مساجل ويقول: لم قد أورد ما يزعجه ما دمنا نزعم متانة العيش المشترك؟ لأن التمايز والاختلاف والاستغابة هي من سمات مجتمعاتنا. أفراد الأسرة الواحدة يتمايزون ويغتاب أحدهم الآخر، كما أهل الحي والعشيرة أو المدينة. ونحن قد ننتقد صفات سلبية (أو نستغيب) لدى زوج أو أخ او نسيب. وبالتالي طوّر اللبنانيون آليات رقابة ذاتية لمراعاة الآخر المختلف حفظاً للعيش معاً.
يتجلى قبول الآخر المختلف في عدد من المظاهر البسيطة التي لا تلفت الانتباه. أسماؤنا تدل علينا عادة، خصوصاً التي تحمل صفة دينية، كأسماء الأنبياء او القديسين. ومن الملفت في لبنان أن كل من يدعى نقولا يلقب بالحاج. كما أننا نلتقي بمسلمين يحملون أسماء مسيحية كالياس مثلاً. ذلك أن الأسر اللبنانية المسلمة اعتادت، عندما تتوالى وفيات الرضع فيها، تسمية الأخير باسم مسيحي لحفظ حياته. أيضاً النذور تتبادلها الطوائف، كالمشي حفاة لزيارة مار شربل من سيدة مسلمة، او زيارة للسيدة زينب في دمشق من أخرى مسيحية، وهكذا..
الأمر الملفت الآخر أن ألقاب العائلات اللبنانية منتشرة عند جميع الطوائف والأديان، ونجد مثلاً عائلة “حسيني” عند أسر مسيحية، وعائلة نصرالله مشتركة بين الجميع وهكذا. كما أن هذه العائلات تتمتع بروابط متينة وتتبادل بينها واجبات العزاء من مختلف المناطق. وتظهر في متانة العلاقات بين المهن أيضاً والتي أشار إليها فارس سعيد في مقال له عام 2012، عندما أدهشه تجمع رعيان لبنان من أقصاه إلى أقصاه، بجميع طوائفهم، في جناز الراعي الذي توفي في قريته قرطبا.
أما الأعياد وشجرة الميلاد المشتركة وتبادل التهاني وأعداد الوجبات والحلويات المشتركة لتبادلها مع الجيران من دين مختلف، فحدث ولا حرج. كما أن لبنان معروف بالزيجات المشتركة الشائعة بين جميع أطيافه الدينية.
وفي لبنان يمكننا أن نجد نفس الماركة العالمية تصنع إعلانات متمايزة، للمحجبات ولغير المحجبات.
يتجلى العيش المشترك أيضا عندما يمتنع المسيحي عن تقديم الكحول عندما يستضيف مسلماً. بينما قد يقبل هذا الأخير أن يوجد المشروب على مائدة صديقه المسيحي. هذا هو جوهر العيش المشترك الذي يعترف بالآخر المختلف من ضمن قبوله كما هو وليس كما نريده أن يكون.
العيش المشترك في لبنان هو نتيجة رغبة المسيحيين في العيش مع المسلمين والعكس. واختلاطهم يؤكد استحالة أن ينظموا حياتهم كلا على حدة. والمثال على ذلك أن الموظف المسلم يخدم المواطن المسيحي أفضل من نظيره المسلم، ليبرهن له عن قبوله واحترامه، والعكس صحيح. وعلى حد قول رينيه جيرار نحن نخاف من المتشابه، ونحتاج إلى التمايز عن الآخر بخصوصيتنا واختلافنا. ولنسأل شيعة حزب الله أنفسهم، هل يفضلون العيش في الغيتو الذي يبنيه لهم حزب الله، أم في لبنان كما عرفوه سابقاً؟
لقد أوجد اللبنانيون عيد سيدة البشارة المشترك بين المسلمين والمسيحيين.
“وعلى حد قول البطريرك صفير: « التمسك بالعيش المشترك بين المسيحيين والمسلمين في لبنان، هو ما يميز لبنان عن سواه من الدول. لبنان هو البلد الوحيد في المنطقة الذي يتساوى فيه المسلم والمسيحي في الحقوق والواجبات”.
إن ضمانة العقد الاجتماعي هو القانون الذي يعتبر وسيلة تنظيم للمجتمع وللنزاعات. والقانون هو الذي يضمن العيش المشترك بثبات رغم التباينات الثقافية حتى ولو كانت عميقة. ولا خلاص للبنان الا باستعادة دولة القانون.
إن ما يؤسف له حقاً أن إفشال الدولة اللبنانية يحصل في الوقت الذي كان يمكن أن تشكل فيه النموذج للدولة الديموقراطية التعددية التي تحفظ حقوق جميع مواطنيها المتعايشين بسلام في عالم يتجه نحو الانفتاح والعولمة.
monafayad@hotmail.com