عندما أعلن في 17 تشرين الثاني 2019 إنتخاب رئيس جمعية “فرح العطاء” ملحم خلف نقيباً للمحامين في بيروت، قرعت الثورة الأجراس فرحاً بانتخابه وأُطلق عليه لقب “نقيب الثورة” وبُنيت على هذه الخطوة آمال كبيرة.
من كان يقول نحن مع الثورة لكن أين قياداتها، كان الجواب: ملحم خلف أفضل نموذج، ومن كان يُعيّر الثورة بأنها عقيمة في فرز قيادات خارج الطقم القديم، أيضاً كان الجواب حاضراً: أنظروا إلى النقيب خلف، هل يوجد أفضل منه؟
ويوم إنتخابه باسم الثورة لم يُصدّق الثوّار، أو حاولوا نتيجة الفرحة العارمة، أن يتغاضوا على خبر وُزّع ويقول الآتي: فوز خلف بمركز نقيب المحامين المدعوم من حركة “أمل” و”حزب الله“، لكن بعد قليل ورد خبر مفاده أن خلف إتصل برئيس مجلس النواب نبيه برّي وشكره على دعمه، وعندما “قامت قيامة” الثوّار أوضح أنه كان في ساحة الثورة في بيروت، “والحقيقة أن برّي إتصل بي ولم أستطع الردّ على الهاتف فعدت واتصلت به”.
كل تلك الأمور لم تكن محط إهتمام الشارع، لكن الحقيقة أن الكرسي يغري، ومن يحظى بدعم شعبي أو يُصبح تحت الأضواء الإعلامية يشعر أنه يستطيع أن يفعل ما يشاء وأنه أصبح الآمر الناهي ولا يقبل النقد أو الإلتفات إلى مطالب الناس، ويصبح مثله مثل من يثور عليهم. وفي السياق، يتناقل أهالي القرى الكسروانية والجبلية أخباراً تقول إنه عندما قام طانيوس شاهين بثورته الشهيرة على إقطاع آل الخازن ونجح بالثورة عام 1859، كان يمثّل بارقة أمل عند الفلاحين والمظلومين، وفي أحد اللقاءات قال بصريح العبارة: لقد نجحت ثورتنا وطردنا مشايخ الخازن والآن أصبح بامكانكم أن تنادوني “يا شيخ”.
وكل ما كان يحصل سابقاً ينطبق على النقيب خلف، فالعاصمة المدمّرة بيروت تقوم من تحت الردم، وخلَف يتلّهى بمبادرات غير إنقاذية يُطلقها ولا تمت إلى أساس المشكلة بصلة، ويعتبر الثوّار أن خلَف أصبح الناطق باسم بري ومروّج أفكاره التي تساعد على تدمير بنية الدولة، مع علمه انه احد اعمدة المنظومة التي ثار الناس على فسادها.
ويُعرف عن برّي كيف دخل إدارات الدولة وساهم في دمارها، وآخر الأخبار عنه أنه شارك مع آخرين في المنظومة الحاكمة بتطيير شركة التدقيق الجنائي، التي كانت ستدقق في حسابات مصرف لبنان وأين سُرقت مدخرات الناس وأموال المغتربين والخزينة العامة، ومعروف أيضاً عن بري أنه يملك بعض الشخصيات السياسية من كل الإتجاهات والتي يستدعيها لتركيز الهجوم في المكان المحدد.
ويبدو أن خلف حوّل نقابة المحامين إلى مروّجة لأفكار بري وداعمة لها تحت غطاء مدني جميل، فالناس فقدت ثقتها بالقوى السياسية ويحتاج بري إلى أداة جديدة، وهل هناك أفضل من نقابة المحامين لتُطلق مبادرة تحت عنوان إنقاذي، لكن الكلام شيء والهدف شيء آخر.
وتشير المعلومات الى أن بري وعد خلف بوزارة العدل من أجل تبني طروحاته، وقد وافق الرئيس المكلّف سعد الحريري على إسمه، ما يُفسّر تركيز مبادرته الأخيرة على نقاط يريدها برّي وخصوصاً في مجال قانون الإنتخاب.
في اللحظات الحرجة إما أن يكون هناك رجال يقولون كلمة الحق أو أن هناك أشخاصاً يخافون ويحاولون الحفاظ على مكاسبهم و”يوطّون” رأسهم، والجدير ذكره ان نقابة المحامين تحوّلت خلال فترة الإحتلال السوري إلى مقاومة مدنية حقيقية وكانت ذات أبعاد سيادية، لكن يخشى ان تتحول مع خلف إلى نقابة ذات طابع مدني فقط وتبيع مواقف وفقاً لحاجة النقيب.
ويسأل كثر من الثوّار والمجتمع السيادي عن مهادنة خلَف لسلاح “حزب الله”، فهذا السلاح بات أساس المشكلة، ومعلوم أنه في عام 2008 إحتل بيروت وضرب الجبل في 7 أيار، وعندما كان النمو عام 2011 يلامس العشرة في المئة قام بانقلابه الشهير وأطاح بالحكومة آنذاك وفرض حكومة “القمصان السود”، من ثمّ عطّل البلد نحو سنتين ونصف السنة للإتيان بالعماد ميشال عون رئيساً للجمهورية، ويشارك في حروب المنطقة كما أنه ساهم في الإطاحة بالمبادرة الفرنسية عبر تمسكه بوزارة المال للطائفة الشيعية، فعن أي دولة مدنية يتحدث خلف ومعه نقابة المحامين في ظل وجود مثل هكذا سلاح؟
ولنسلم جدلاً أن مبادرة خلف تنقل لبنان من مكان إلى آخر، فمن يضمن أنها لو طبقت بحذافيرها وعاد البلد إلى سابق عهده من الإزدهار، لا يقوم السلاح غير الشرعي المتمثّل بـ”حزب الله” بإنقلاب أو حرب شبيهة بحرب تموز عام 2006 من دون أخذ رأي اللبنانيين؟
كل هذه الأسئلة مشروعة، في حين أن السؤال الذي يُطرح اليوم هل المشكلة في قانون إنتخابي على أساس لبنان دائرة إنتخابية واحدة وخارج القيد الطائفي؟ وإذا استند خلَف على دستور “الطائف” للخروج بهذا الطرح، فإن “الماء تكذّب الغطّاس”،
فلو قرأ خلف جيداً الدستور، لاكتشف بنداً أساسياً في “الطائف” وهو تسليم جميع الميليشيات سلاحها إلى الدولة، ومن هنا يبدأ الحل.
ويظهر جيداً أن الرئيس برّي أغرى النقيب خلف ليس بوزارة العدل فحسب بل بأمر أهم، فالنقيب هو أرثوذكسي، وتبني طرح بري الإنتخابي والمطالبة بمجلس شيوخ يفتح الباب أمام خلف ليصبح هو رئيس مجلس الشيوخ، لأن هناك مطالبة أرثوذكسية بأن تكون رئاسة هذا المجلس من حقّ الأرثوذكس بينما هناك مطالبة درزية بهذا الموقع، وبالتالي فان برّي يكون قد باع خلف سمكاً في الماء.
في مبادرته غير الإنقاذية، حوّل خلف نقابة المحامين من نقابة سيادية إلى جناح سياسي لحركة “امل” ومن خلفه لـ”حزب الله”، ويرى البعض أن خلف قصد توريط نقابة طرابلس بهذا المشروع واستقصد ان يقرأ نقيب المحامين في طرابلس محمد المراد بيان الخطة، ليقول إن كل المحامين في لبنان متفقون عليه، وإنّ السني قبل المسيحي موافق ولا توجد أياد شيعية وراءه.
لا شكّ ان بيروت هي “أم الشرائع” ونقابة المحامين هي في طليعة المدافعين عن إستقلال لبنان وسيادته مشروع الدولة، وعلى رغم تحوّل النقابة إلى ما يشبه جناحاً سياسياً تابعاً لمشاريع برّي وأحلام خلف السلطوية، إلا أن المحامين في أساسهم ثوّار وسيثورون على من يحب السلطة ويخيب آمالهم.