حين ارسلت نص « البرنامج المرحلي » الذي اقرته « خلوة المبادرة الوطنية » التي انعقدت في ٢٧-١٠ -٢٠٢٠، في نقابة الصحافة، لبعض الاصدقاء الناشطين، الجدد والمخضرمين، توقعت معظم الردود. ذلك ان وثيقة « الخلوة » لم تأت من العدم، بل اتت كمحصلة لنقاشات وحوارات، جدلية وحامية احيانا، شارك فيها الاعضاء ومحيط متنوع من خلفيات فكرية وسياسية واجتماعية مختلفة، وتناولت القضايا الاساسية التي يعاني منها الوطن المقهور.
وقد جرى التعبير عن محطات النقاش المختلفة ببيانات ومقابلات ومقالات، طاولت القضية الكيانية، هوية وطبيعة واقتصادا ودورا، في اخطر مرحلة من مراحل الصراع الاقليمي والدولي الذي يجري على تخوم التحولات الاقتصادية والعلمية والثقافية والجيوسياسية الكبرى. والتي اضيف لها عامل وبائي نشأ في الصين وتمدد نحو الغرب وبقية العالم.
أحد الردود جاء من ناشط بارز جمعتني معه الزمالة في الجامعة اللبنانية/كلية العلوم، طالبا ورفيقا واستاذا، كما جمعتنا المشاركة في محطات مفصلية في تاريخ البلد، بينها انتفاضتي ١٤ آذار ٢٠٠٥و١٧ ت١ ٢٠١٩ .
قال زميلي:
“ليس في هذه المبادرة الا حنين ايهامي لاعادة احياء تحالف ١٤ اذار الذي سقط الى غير رجعه، بعد ان مارست احزابه، منفردة كل بدوره، ومجتمعة من خلال التسوية الرئاسية، خيانة قضية ناس ١٤ اذار وخضوعها لوصاية ايران واملاءات حزب الله. هذا اكل بايت ومسخّن وبغير اوانه وظروفه. لا تحتاج المبادرة لأي اضافة فستبقى منبرا من منابر المنظومة السلطوية ذاتها”.
ومع ان زميلي البقاعي هو من عتاة معارضي سلاح حزب الله ودوره الفئوي والتدميري، ونتقارب في الموقف الفكري والسياسي من الحزب منذ تأسيسه على يد الحرس الثوري الايراني، الا ان تركيزه على “المنظومة الفاسدة والاموال المنهوبة” يرخي ضبابا كثيفا على معظم التناقضات الثانوية والرئيسية بين اطراف السلطة، كما بين كافة القوى المجتمعية في بلد، تحولت نعمة موقعه الجيوسياسي وغنى نسيجه عند التأسيس الى لعنة. وهذا استجر نقاشا للقضايا المثارة واستحضر بعضا من الاسباب التي ادت للتراجع والانكفاء، ان لم نقل الاحباط والفشل في بعض المحطات.
وقد اطلعني زميل آخر متوسط العمر، من “ثوار ١٧ت١ الطرابلسيين”، على بعض من ردود وحوارات حصلت بين مجموعات متعددة وداخل بعض المجموعات حول لقاء نقابة الصحافة، حيث انها راوحت بين تقييم اجمالي ايجابي للنص وتقييم اجمالي سلبي لمشهدية اللقاء. خصوصا ان شعار “كلن يعني كلن” الذي رددته حناجر المنتفضين كان قد تمدد ليطال كل من شارك في السلطة على امتداد الفترة السابقة، وزيرا ام نائبا، اداريا ام حزبيا وطال عموم النخب العتيقة ملامسا صراع الأجيال. كما ان البعض من جيل « انتفاضة تشرين » اعتبر ان فريقي ١٤ و٨ اوصلا البلد للجحيم، غير عابئ بسردية ١٤ آذار الاستقلالية والتي صعدت على زلزال استشهاد رفيق الحريري، وعلى نضال عشرات الوف اللبنانيين بوجه النظام الامني السوري/اللبناني الذي مارس القمع والاحتواء ورفع منسوب الهدر والفساد والزبائنية لمرتبة الثقافة. كما على نضال آخرين قدموا دماء غالية بوجه وريث هذا النظام الامني الذي استجر بالنيابة عن رعاته عدوانا اسرائيليا على لبنان واستباح بيروت والبلد عموما، فارضا بقوة السلاح واقعا سياسيا واداريا وامنيا واقتصاديا جديدا.
لذا لم يكن غريبا ان يقول احد المناقشين الشباب أنّ “هؤلاء سيأخذوننا من الدلفة لتحت المزراب”.
يقول زميلي ان حزب الله لا يختصر المشهد، غامزا من قناة تركيز وثيقة المبادرة على سلاح الحزب. ومع صحة ذلك، الا ان الصحيح ايضا ان الحزب اصبح حجر الرحى في تشكيل المشهد السياسي وحتى الاقتصادي. واحيل زميلي الى مرحلة الوصاية السورية والتي لم تختصر المشهد ايضا، اذ تعاون معها اتباع وانتهازيون وعمل معها جماعات واحزاب، بعضها مستقل الى حد كبير، ولم تختف التناقضات الداخلية والخارجية والمواجهات والتي ادت الى قرار ممانع بتفجير رفيق الحريري بطنين من المتفجرات، ونزول الملايين الغاضبين من كل الفئات والطوائف والمناطق الى ساحة الحرية بانتفاضة لبنانية صرفة سميت انتفاضة الاستقلال الثاني وصنعت معجزة اخراج قوات النظام السوري في ظروف دولية مؤاتية.
لا خلاف مع الزميل الثائر ولا مع كثير من الناشطين في الاهمية الاستراتيجية لما طرحه البرنامج المرحلي، ولا خلاف حول صوابه الاجمالي، سواء في تحديد خطر سلاح حزب الله ودوره الفئوي وفي حماية الفساد، كما في وضع البلد امام افواه التماسيح، سواء في التمسك بسلاح الدستور والمساواة امام القانون وفي الحياد الايجابي وفي غنى العيش المشترك المهدد بفائض القوة ومطارحات الاقليات، كما في الحفاظ على هوية لبنان العربية وعلى ميزاته الثقافية والاقتصادية والاكاديمية والاستشفائية والخدماتية والتي بدأت تنهار تباعا، ما يهدد الدور والكيان، خصوصا مع ارهاصات نشوء نظام مصالح عربية جديدة على مشارف مرحلة التسويات والمقايضات واقتسام المغانم.
اذن اين تكمن المشكلة؟
بالطبع، ليست انتفاضة ١٧ ت١ copy paste عن انتفاضة ١٤ آذار، فشعار الثانية كان واضحا لجهة خروج قوات الاحتلال السورية وتفكيك النظام الامني البغيض والتركيز على سيادة وهوية وخصوصية بلد الأرز الذي يتفيأ تحته وتحت دستوره، المدفوع ثمنه غاليا، جميع اللبنانيين المتعلقين بالحرية.
والواقع بانها حصلت على خلفية تراكم من الحراكات والنضالات والمواجهات التي انخرط فيها فئات واسعة ومتنوعة من اللبنانيين بمواجهة وصاية سورية تحولت لاحتلال، وانشأت نظاما امنيا وعبثت بالبلد وادارته على طريقة فرق تسد وبما يخدم مصالح العائلة والحزب الفئوي القابض على الحكم في دمشق والطامع دائما في لبنان.
اما انتفاضة تشرين فقد اشتعلت غضبا على خلفية حادثة « الواتس اب » وبعد ان طفح كيل اللبنانيين من الفساد والهدر والزبائنية، كما من الاستخفاف والعبث بمصالحهم الحيوية، بعد ان تحول بلدهم الجميل والنابض بالحياة الى بلد الظلام والنفايات والموت على الطرقات المظلمة والمحفرة وعلى ابواب المستشفيات، وتحول منظر الباحثين في القمامة الى مشهد يومي، وبعد ان اوصل العجز على انواعه وسوء الادارة والحوكمة البلد الى مشارف الانهيار الشامل.
لا ضرورة لاعادة توصيف اهمية وحيوية وفرادة وجماهيرية انتفاضة تشرين التي استفضنا جميعا بوصفها وتحليلها، وهي لم تأت من فراغ بل اتت على خلفية تراكم حراك النفايات السياسية والعضوية، كما على خلفية الحراكات المختلفة، في العاصمة وفي المناطق، خصوصا في طرابلس الاكثر تأثرا بالفالق السوري وتداعياته الامنية والاكثر تعطشا لمؤسسات الدولة والاكثر معاناة من المظلومية والكيل بمكيالين.
عانت الإنتفاضة الآذارية من ازمة القيادة السياسية التي خضعت، لفائض قوة حزب الله ونظريات ام الصبي وربط النزاع، بانتظار تغير موازين القوى بعد التراجع الاميركي والأوروبي والارتباك العربي من الاتفاق النووي الذي عزز مخالب ايران في اكثر من مكان، وحفز احلام اردوغان العثمانية، خصوصا بعد سردية الانقلاب الفاشل وتداعياته القمعية، كما اطلق اياد بوتين وعملياته التدميرية في سوريا.
لم تكن مشكلة انتفاضة تشرين العفوية في التنظيم والقيادة بالدرجة الأولى، رغم محاولات التنسيق والتجميع بين المجموعات المدنية والنقابية والحزبية والتي لم يعد ممكنا احصاؤها.
بل عانت اساسا من الاشكالية التالية:
الانتفاضة رفعت مطالب اصلاحية، ولكنها تصرفت كثورة تغييرية شاملة دون ان تحدد عناصر الازمة السياسية التي اوصلت البلد لمشارف الانهيار، خصوصا انهيار سيادة الدولة وهيبتها تحت مطرقة فائض قوة حزب الله والحامية للفساد وللتسويات والحوكمة الرديئة.
وللمفارقة فإن المنتفضين عانوا من بطش وتسلط واختراق فائض قوة « الثنائي »، ومع ذلك ظل سقفهم السياسي منخفضا، الى ان وقعت جريمة المرفأ المروعة واسقطت ما تبقى من اقنعة النفاق، كما ادخلت البلد في مرحلة سياسية جديدة، احد عناوينها هو مهمة الانقاذ ومنع الانهيار والاندثار عبر المبادرة الفرنسية.
ما طرحته « خلوة المبادرة » وما يتقاطع معه كثر في المسرح السياسي والمدني في تحديد الخطر الاساسي اظهر انه نبت للمواجهة ضرس العقل، ولكنها ظلت بحاجة لأنياب وهو ما تمثله جماهير الانتفاضتين.
كيف ستستحضر هذه الانياب، وما هي العناوين والشعارات التي ستحفزها بعد ان استهلكت معظم الشعارات القديمة؟
ثم ما هي الوسائل والادوات التي يمكن ان تعيد الثقة والحشود إلى الساحات، خصوصا مع تصاعد الخطر الوبائي؟
ما هو الموقف من المشهد الاقليمي والدولي بعد نجاح بايدن وهيجان ترامب وترقب العرب وتربص إيران وتنمر إسرائيل، حيث تبدو المبادرة الفرنسية وكانها ترقص التانغو مع اشباح في الوقت الضائع؟هل نسكت عن فراغ حكومي عبثي وقاتل؟ هل نحن على مسافة واحدة من الراقصين الحكوميين؟ ام هل نحاول التأثير في موسيقى الرقص وتصليب او تحسين اداء بعض الراقصين؟
انها اسئلة برسم جميع المعارضين والمعترضين وعموم الناشطين والمواجهين،اذ يجب ان نزين مواقفنا واداءنا بميزان الذهب، قبل ان يطير الذهب والاحتياطي ويطير البلد، على ما يحذر البطرك الراعي والمطران عودة.
إذ رغم كل مظاهر الإنهيار وربما الإندثار، وبعد التراجع النسبي في وقاحة وعنجهية وازدراء قوى السلطة المسيطرة في أعقاب جريمة المرفأ وزيارات ماكرون ولقاءات قصر الصنوبر، فإن مقاربة موضوع تشكيل حكومة المهمة يظهر أن حليمة رجعت لعادتها القديمة وbusiness as usual.
وبالمناسبة انقل ما قاله احد العمداء الناشطين في حوار بيننا عالواتس اب حول ضرورة ابتداع سبل سلمية للمواجهة المصيرية، إذ أننا لا نبالغ بالقول بأننا أمام إحتلال إيراني بالواسطة.
“اتفق معك ولكن المشكلة أنّ جماعات التغيير غارقون في التنظير ولا يقبلون ان مسار الثورات لا يشبه اي مسار علمي آخر. يريدون ان يرسموا الثورة على الورق”
talalkhawaja8@gmail.com
طرابلس في 20-11-2020