متظاهرون يرفعون لافتة تقول “فرنسيون ومسلمون وفخورون بهوياتنا” في تظاهرة ضد الإسلاموفوبيا
*
أثارت تصريحات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون والتدابير التي يزمع اتخاذها الكثير من الضجة والجدل، خصوصا لجهة تعميمه أن الإسلام في أزمة. لا شك أن الإسلام السياسي، الذي يحاول مصادرة الإسلام والمسلمين مستخدما العنف والإرهاب، يخلق أزمة للمسلمين في العالم ومعه، وصار يجد معارضة متصاعدة بوجهه في البلاد العربية نفسها.
لكن عندما ندقق النظر في أزمة “المهاجرين المسلمين” في فرنسا، نجد أنها في الحقيقة مشكلة مع المهاجرين العرب تحديدا. فعندما تبحث على محرك غوغل عن أعداد المهاجرين العرب، تجدها شبه متطابقة مع أعداد المسلمين في فرنسا.
فرنسا لم تترك في لبنان ذكرى “مستعمِر” كما فعلت في الجزائر. وربما هذا ما يعطي خصوصية فرنسية لمهاجريها المسلمين، أي العرب والمغاربة خصوصا، مقارنة بالدول الأوروبية الأخرى التي لديها نسبة مهاجرين أعلى مما هي في فرنسا أحيانا. ولا شك أن لعلاقة المستعمِر بالمستعمَر آثارا وتبعات. فلم تظهر الجزائر في الذاكرة الفرنسية، عبر السينما مثلا، سوى في تسعينيات القرن الماضي، مع ظهور الإسلام السياسي في الجزائر، وأحداث الضواحي في فرنسا.
فما هي خصوصية وضع العرب والمسلمين في فرنسا؟
مضى زمن طويل على هجرة عمال شمال أفريقيا إلى فرنسا. قدم أوائل المهاجرين للانضمام إلى الجيوش الفرنسية المقاتلة في الحرب العالمية الأولى. لكن قدوم أعداد كبيرة منهم يرجع إلى النصف الثاني من القرن الماضي ومع مرحلة الوفرة والازدهار في الستينيات.
مع ذلك لم يكن هذا الوجود ظاهرا للعيان، ولم تكن مشكلة التكيف مع البيئة الاجتماعية مطروحة بالنسبة لمعظم المهاجرين.
الظاهرة الجديدة في النصف الثاني من سبعينيات القرن الماضي كانت ظهور أكثر من ألف مسجد ومكان للعبادة، وأكثر من 600 جمعية، في فترة قصيرة بحسب ما أحصاهم جيل كيبيل في كتابه “ضواحي الإسلام”. لم يكن يوجد في بداية السبعينيات أكثر من حوالي 10 مساجد وقاعات عبادة، مع أن فئة سكانية هامة من أصل إسلامي كانت تقيم في هذا البلد. لكنها كانت تعبر عن انتمائها الديني هامشيا وتمارس طقوسها الدينية دون ظهور علني. لأن المهاجرين والفرنسيين، كانوا ينظرون إلى هذه التجربة المشتركة على أنها تعايش لن يستمر طويلا. كانوا قوة عمل للاقتصاد الفرنسي، وخطّط المهاجرون للعودة إلى بلادهم بعد سنوات عمل شاقة من الجهد والتوفير، بما يسمح لهم العيش بمستوى أفضل في الوطن الأم.
لذا بدأ التزايد الكبير لأماكن العبادة في الثمانينيات مذهلا، وعبر عن عوارض ولادة الإسلام في فرنسا. وهو يعود إلى التغيرات العميقة، الاجتماعية والسياسية التي عاشتها هذه الفئات السكانية، كما ارتبطت بالحركات التي عبرت العالم الإسلامي ككل.
فلقد ترافق “الطلب على الإسلام” في نهاية السبعينيات عند المهاجرين المسلمين مع وعيهم أنهم في طريقهم إلى الانخراط في سياق حتمي من الاستقرار في فرنسا. وكان هذا مستجدا عكس الجيل السابق وأسطورة العودة التي كان قد تبناها. فقبل صدور قانون 1974 الذي ينظم على نحو صارم هجرة العمال الأجانب، كانت حركة الانتقال دائمة بين بلاد المغرب وفرنسا. القانون حدّ من الهجرة ليحل محلّها الهجرات العائلية كما السرية.
تُعاش كل هجرة، لمن يقوم بها تحت الحاجة، في سياق من الضغط المؤلم غالبا. كما أن المجتمع “المستقبِل” لا يكون مرحبا بالقادمين الجدد في الغالب. حينها تمر أوليات استقرار واندماج هذه الفئات الاجتماعية بلحظات من النبذ من المجتمع المستقبِل، مما يدفعها نحو بنى دفاع وحماية مختلفة. وقد لعبت النقابات والحزب الشيوعي هذا الدور لفترة طويلة. وبما أن تعداد السكان لا يحتوي أي سؤال يتعلق بالدين أو الطائفة. لذا لا شيء يحتم اعتبار أي شخص كمسلم، ما لم يقدم نفسه كذلك.
دلّ التزايد المطرد في عدد المساجد وأماكن الصلاة على أن أعدادا متزايدة من المسلمين يريدون تأكيد انتمائهم الديني في إطار المجتمع الفرنسي أكثر مما دلّ على تزايد أعدادهم.
سجلت هذه الظاهرة ولادة الإسلام في فرنسا، لأن تعبيرها عن نفسها انتقل من الإطار الخاص إلى الإطار العام. حصل ذلك عندما بدأت هذه الفئات الاجتماعية في التحول نحو الاستقرار أو الإقامة الدائمة. لذا يجمع الدارسون على الفرضية التالية: إن تأكيد الانتماء إلى الإسلام، هو نوع من أنواع الاستقرار في المجتمع الفرنسي.
قد يبدو الأمر متناقضا، أي أن يستدعي الاستقرار إظهار التمايز. وهذا نتيجة مسار معقد، يوجز كالتالي: يمر المهاجر بتجارب تفقده الثقة بنفسه، فهو مغلوب على أمره، ويصطدم بالفارق الكبير بين البلد ـ الحلم، والبلد ـ الواقع، وقد يجهل اللغة أو قواعد السلوك والإجراءات الإدارية المعقدة… والأكثر إيلاما تصرف البعض المشوب بالتمييز أو العنصرية تجاهه، فيشعر أنه نكرة، ليصبح نكران الذات، أي الخصوصية الثقافية والحضارية، شرطا للاندماج.
ظلت هذه الوضعية محتملة ومعاشة كآنية إلى أن وضعت التدابير الحكومية وقوانين الهجرة حدا لها. وصار الخيار المتبقي مع تعذر العودة، لعدم انتفاء أسباب الهجرة، البقاء في بلد المهجر.
وهكذا بدأ الإسلام المجتث، المتعذر على الإمساك به إحصائيا، لكن المرئي اجتماعيا، يتحول إلى إسلام مستقر. يترتب على قرار البقاء هذا ضرورة إيجاد الوسائل التي تتيح لهذه الفئات ما يجعل بقاءها محتملا. من هنا انتظامها في جماعات دينية وثقافية ولغوية حسب أصولها الوطنية.
ظهور التعبير الاجتماعي للإسلام في بداية الثمانينيات الذي أثار الاستغراب، لم يكن الأول؛ كان قد ظهر سابقا في إضراب شركة بناء المساكن للعمال بين عامي 1975 ـ 1978، والذي كان معظم القائمين به من العمال المهاجرين. ولم تبد الصحافة حينها حساسية ما تجاه التأكيد الإسلامي، لأن الموضة لم تكن لآيات الله في ذلك الوقت.
وهذا يعني أن التأكيد الإسلامي الاجتماعي، لا يكون دائما متعلقا بكل مسلم، بل باللحظة التي يتخذ فيها هذا الشخص أو الجماعة القرار بإظهار هذا الانتماء.
لحظتان مؤثرتان في سياق تأكيد ظهور الإسلام الاجتماعي: حرب أكتوبر عام 1973 والقفزة الهائلة في أسعار البترول نتج عنها زيادة كبيرة في ثروات البلدان المصدرة التي استخدمت جزءا منها في المساعدة على انتشار الإسلام في أوروبا. كما شكل تأسيس الجمهورية الإسلامية الإيرانية اللحظة الثانية في إعلان تسجيل الإسلام في قلب السياسي مجددا.
الآخر المختلف ـ المشابه
هناك تمثلات مختلفة للإسلام، بعدد المسلمين. وهذا ينطبق على المسيحية واليهودية. فهناك تمثل لإسلام ـ ثقافة، وإسلام ـ ملجأ، وإسلام ـ احتجاج، وإسلام ـ هوية…
يظهر الإسلام في أحد مستوياته، على شكل منظومة من الأوامر والنواهي التي تساعد على الاضطلاع بالاختلاف وبتحمل مسؤوليته بشكل إرادي واختياري، وإلا فإن الاختلاف الذي يميزهم سيُدرك كتمييز عنصري وعرقي يخضعون له، هم المختلفون الممنوعون من إظهار اختلافهم. يقوم الإسلام في هذا السياق، بنوع من التحول على مستوى القيم والوضعيات، بغسل العار ويستبدله بعزة النفس. إن مواجهة الضغط الذي تسببه الموانع والنواهي والأوامر هو الامتحان الذي يختار الخضوع له أولئك الذين يتبعونها. ذلك يعطيهم الشعور بالخضوع لأخلاق ولعلم أخلاقي أرفع مما هو وضعي لأنه يقود إلى عتبة الجنة.
يتخذ الإسلام هنا مظهر قلعة داخلية تسمح بالمقاومة ضد الهجومات الخارجية المتعددة، والتي تتخذ وجوها مختلفة.
كما أن التأكيد على الهوية الإسلامية في الإطار الفرنسي، يجعل التطبيع والحصول على الجنسية الفرنسية أمرا محتملا، وإلا عاش المسلم الأمر على أنه خيانة وردّة.
إن أحد أوجه الرد على شعور المهاجر بأنه محتقر من قبل الفرنسيين وعلى إحساسه بالعدائية والدونية، يتمثل بإظهار هذا الاختلاف. هكذا عندما ترتدي امرأة شابة الملابس الإسلامية أو عندما يطلق شاب لحيته، قد يكون ذلك نوعا من البحث عن الهوية قبل أي شيء آخر. ولتأكيد ذلك يلجأ إلى وسم الآخر، بواسطة الاعتداء على حقل نظره. إن نشاطات التحريض تعطي معنى للمثاقفة انطلاقا من رموز المجتمع الدامج أو من رموز من يمانع. وهذه ليست المرة الأولى التي يظهر فيها اشتقاق لإشارات أو علامات مشابهة في مجتمع مأزوم.
هكذا يعبّر ارتداء كف فاطمة ـ أو نجمة داوود أو الصليب ـ عن شكل من التفاخر والاعتداء الرمزي كإجابة على وسم.
يسود الاعتقاد بأن الإنسان يخاف من الاختلاف. تظهر الممارسة بأن هذا غير صحيح. إن ما يخاف منه الإنسان هو اللاتمايز، الذي ينتج التفتيت الاجتماعي. لماذا؟ لأن وحدة الكل تفترض تمايزه، أي وضعه بشكل تراتبي (شرط عدم الخلط بين التراتبية واللامساواة).
إن المساواة النافية لمبدأ الاختلاف، هي سبب الخوف المتبادل. الإنسان يخاف من “الـ هو نفسه” (Le même) . وهذا هو منبع العرقية؛ لأن الآخر يشبهني أولا، تسبب غَيريته فضيحة لي.
monafayad@hotmail.com
الحرة