تفسيراتٌ كثيرةٌ أُعطيتْ لضيقِ صدْر حسن نصر الله بالإعلام، وخصوصاً قنوات “العربية” و”الحدث” و”سكاي” وغيرها من صحف ووسائل تَواصُلٍ اجتماعي، بينها أنها بدأتْ تؤثّر في قاعدة الحزب، أو أنها نَجَحَتْ في فرْض وُجْهَةِ نَظَرٍ مُغايِرَةٍ لِما حاولتْ الممانعةُ تكريسَه بالقوة والسيطرة، أو أنها تلعب دوراً تحريضياً، أو تساهم في تكوين رأي عام أوْسع ضدّ إيران وأدواتها.
كلّه قد يكون صحيحاً، لكن الأساسَ في الموضوع ان أمين “حزب الله” أمينٌ أيضاً على منظومةِ الفكر التي ظلّلتْ الأسلوبَ والممارسات، وهي منظومةٌ شبيهةٌ إلى حدٍّ ما بما حَصَلَ في الأنظمة الشمولية التي رفعتْ الايديولوجيةَ إلى درجةِ القداسة والعبادة فأصبح الخضوعُ التام لها “إيماناً” والخروج عليها “كُفرا”. بهذا المعنى يتساوى الأسلوبُ (وإن من الزاوية النقيض مثلاً) مع “مَدارس الإلحاد” التي حاول ستالين فَرْضَها في المدن والقرى لخلق جيلٍ معجونٍ بالماركسية نصاً وروحاً، (وهي للمناسبة فشلتْ رغم انتفاء الإعلام) أو مع تجربة كوريا الشمالية، أو مع تجربة البعث ومن ثم الثورة في إيران، أو مع مدارس الإسلام السياسي (قاعدة، نصرة، جهاد، داعش وغيرها) التي قسمت العالم إلى فسطاطيْن.
هذه المدارس يصبح الإعلامُ عدوَّها اللدود. فعندما كان يُقال أيام حافظ الأسد: “ما في شي بحماه“، كان يمكن ضَبْطُ المشهدِ ما خلا بضعة صورٍ عن مبنى واحد محترق، ووحدها شهاداتٌ متحرِّرةٌ من المجزرة كان يمكن أن تخرقَ حاجزَ الخوف. أما عندما يقول اليوم نصر الله: “ما في شي بحمص” ثم تخرج آلاف الصور قبل انتهاء خطابه موثِّقةً مجزرةَ بابا عمرو ومواكَبة ببثٍّ حي لما يحصل… فهنا المفارقةُ المُخِلَّةُ بالتوازن بين موروثٍ وممارسةٍ وتوجيهٍ وبين الحقيقة كما هي.
هي مدرسةٌ واحدة. عندما أعيد محمود أحمدي نجاد بالتزوير رئيساً لإيران سيطرتْ الاحتجاجاتُ على الشوارع، لكن قسوةَ النظام كانت مُضاعَفة لأن نظام “تويتر” عَبَرَ أسوارَ المنْعِ والقمْعِ ولم يَجِدْ “الباسيج” غضاضةً في قتْل الناس بدمٍ باردٍ وعلى الهواء رداً على “التغريد” من الوريد الى الوريد.
وعندما اندلعتْ الثورةُ السورية واستقبل بشار الأسد وفداً من أهالي منطقة جوبر (وهو لقاء نُشر محضره في ذلك الوقت) قال لهم: “أنا لا أنزعج ممن يتظاهر. أنا أنزعج ممّن يصوّر“، مُبَرِّراً ذلك بأن الصورَ تحرّض وتَسْتَدْرِج تَدَخّلاتٍ خارجيةً وجهاتٍ متطرّفة.
وإذا كان ستالين أو كيم ايل سونغ أو صدام حسين أو حافظ الأسد أو بشار برّروا ربْطَهم بين حرية الإعلام والخيانة بطابع مهمّتهم المقدّسة تاريخياً وأممياً وقومياً، فقد برّر النظامُ الايراني والميليشياتُ المنبثقةُ منه وأمراءُ الإسلام السياسي بكل تلويناته، من أفغانستان إلى الجزائر ،الربْطَ نفسه بالمهمةِ المقدَّسة دينيا. ومراجعةٌ سريعةٌ لأدبياتِ هذا المحور في مجال الإعلام تُظْهِرُ قوةَ الربْط… وآخِرها خطابُ نصر الله الذي لخّص المشهدَ بتركيزه على أن “حزب الله” على حق دائماً وأن الله معه ونَصَرَهُ وسينْصره دائماً، أما الآخَرون من وسائل إعلام ومُعارِضين لنهْجِ الحزبِ عربياً وعالمياً، فهم في الفسطاط الآخَر.
مع بداية الثورة السورية، وبعد رصْدٍ لمواقف بشار ومسؤولين سوريين من أجهزة الهاتف النقّال والإعلام، كتبتُ مقالاً بعنوان “أمك يا ستيف” يخاطب فيه بشار روحَ ستيف جوبز. يقول: “إنه الموبايل وتحديداً الآيفون. هنا كل المؤامرة. ابحَثوا في كل ما سمعتموه عن اغتيالاتٍ حصلتْ عندنا أو قصفٍ لمواقع في بلدنا، ولن تجدوا سوى ما نريد أن نَعْرِضَه. ضَبَطْنا الأرضَ والناسَ بشكلٍ لا نظير له في العالم. أما الآن فرجلُ الأمن عندما يرْفس قتيلاً بقدمه ويقدّم له التحليل السياسي بقالب عسكري قائلاً: بدك حرية يا ابن (…) يجد صورتَه وصوتَه في كل التلفزيونات.
انه « الآيفون ». يسجّل ويُرْسِل. لا مشكلة في تأديب الناس وقتْلهم واعتقالهم وتعذيبهم… بل متى كانت هذه مشكلة أساساً؟ المشكلةُ في مَن ينشر غسيلَنا ويرْسله الى الخارج عبر المحمول. والأدهى في الأمر أن مَن اخترع الآيفون، ستيف جوبز، والدُه من عندنا وأمه أميركية، لكنه حصل على الجَزاء المُناسِب.
أمك يا ستيف لم تكن لتفخر بك لو علمتْ أن اختراعَك يُستخدم في مؤامرةِ ضرْب النظام المُمانِع المُقاوِم. أمك يا ستيف، لو شعرتْ بأن فيك خيْراً لَما كانت هَجَرَتْكَ وأنت صغير ورَمَتْكَ لعائلةٍ أخرى كي تتبنّاك. أمك يا ستيف لم تَسِرْ في جنازتك لأنها أدْركت أنك مسؤولٌ عن اختراعٍ غير مسؤول. أمك يا ستيف … أمك يا ستيف … أمك يا ستيف … لماذا أَنْجَبَتْكَ؟”.
هكذا يمكن فَهْمُ مضمونِ خطاب نصر الله عن التلفزيونات والصحف والإعلام المُعارِض لمحوره عموما.
alirooz@hotmail.com