النقطة الخلافية الأولى تتمثل في الموقف من “حزب الله” ومن سلاحه. لا يختلف اثنان حول الموقف النظري والمبدئي من أي سلاح خارج الشرعية، وهو اليوم سلاح بيد “حزب الله”، بعد أن كان في ما مضى بيد سواه. لكن آليات العمل السياسي تختلف عن آليات التفكير النظري. السبيل إلى نزع أي سلاح ميليشيوي معروف، فإما حرب أهلية بين الميليشيات على غرار ما حصل في حرب عون والقوات أو حرب أمل و”حزب الله” أواخر الثمانينات، وإما تدخل خارجي على غرار ما حصل في الاجتياح الاسرائيلي، وكلاهما لا تقتصر مفاعيله على مواجهة السلاح الميليشيوي بل تتعداها إلى تدمير البلد، ولا أظن أن عاقلاً في الثورة أو خارجها يقول ما قاله الشاعر ساخراً: آه لو تسقط الشرفات على رأسي لتقتل فيه الأفكار الخاطئة.
من بديهيات العمل القيادي أن يكون لكل قرار موجباته وآلياته التنفيذية. ومن البديهيات أيضاً أن القرار الذي لا يكون صاحبه قادراً على تنفيذه هو قرار خاطئ، لأنه يستبطن الاستعانة بقوة أخرى لتنفيذه. ولا أظن المطالبين اليوم بنزع السلاح غير الشرعي يملكون القدرة على تنفيذ ذلك بقواهم الذاتية، ولا أظنهم أيضاً يرضون باستدراج الخارج من أجل تنفيذ رغباتهم. لأنهم، إن فعلوا ذلك، فهم يكررون خطيئة أهل النظام، سلطة ومعارضة، لحظة انفجار الحرب الأهلية.
لقد اكتوى لبنان كفاية بنار الاستدراج بما جعلنا نتعلم من هذه الخطيئة كيف نضع الوحدة الوطنية في موضع الأولوية على أي مشروع فئوي. من بديهيات هذا الدرس، إذاً، ألا ينزلق الحريصون على الوحدة الوطنية وعلى مسيرة الثورة إلى رفع شعار”عزل الشيعية السياسية”، فقد علمتنا الحرب أن شعار عزل “الكتائب” في بداية الحرب الأهلية عمّق هوة انقسام كانت قائمة لأسباب أخرى بين اللبنانيين بدل أن يعالجها.
الشيعية السياسية تكرر اليوم خطيئة الاستقواء بالخارج مع كل مخاطرها تهديداً للوحدة الوطنية وانتهاكاً لسيادة الدولة. إذاً على الثورة أن تكون هي أم الصبي وأن تواجه المعضلة بصون الوحدة الوطنية والدفاع عن سيادة الدولة، بحيث يبدو الصراع صراعاً بين حريصين على الدولة ومؤسساتها وبين مفرطين بالدستور والسيادة، لأن الصراع على السلاح يستفز الوعي الميليشيوي فيما الثورة تحتاج إلى تفكيك هذا الوعي واستبداله بوعي وطني وبحرص على المصلحة الوطنية، لا على المصالح الفئوية والحزبية والمناطقية والطائفية والمذهبية التي تستقوي بالسلاح ويستقوي بها. هذا يطلب من الثورة لا من أطراف قد ترى من المجدي طرح شعار مواجهة مع “حزب الله”، فيكون لها منفردة، دون الثورة، الحق في غنم المواجهة وعليها وحدها غرمها.
السلاح غير الشرعي كان في الماضي بيد المارونية السياسية والحركة الوطنية اللبنانية المتحالفة مع الإسلام السني. هو اليوم سلاح بيد الشيعية السياسية التي تزرع في وعي جمهورها الشيعي الفكرة الشائعة القائلة بأن التعرض له هو تعرض للطائفة وحقوقها المزعومة ولقوى الممانعة عموماً، مستندة في ذلك إلى دوره المهم في عملية تحرير الوطن من الاحتلال الاسرائيلي.
الثورة مطالبة بتفكيك هذا الوعي بدل استفزازه، وذلك بالتركيز على أن الحل بالدولة وأن السلاح هو قوة للبنانيين إذا كان بيد الدولة وتحت إشرافها، وهو إضعاف للدولة إذا ظل سلاحاً فئوياً. وتندرج في هذا السياق المطالبة لا بوضع سلاح المقاومة وحده تحت سلطة الدولة وإشرافها بل بضرورة وضع شرطة المجلس النيابي أيضاً تحت سلطة الدولة لمنعها من ممارسة دورها الميليشيوي، بديلاً عن معارك الكر والفر الباهظة الكلفة في محيط البرلمان، وإخضاع المجلس الإسلامي الشيعي الأعلى، وكذلك سائر المؤسسات الدينية المماثلة، لقوانين الدولة المالية والضريبية والقضائية، بما في ذلك قوانين الأحوال الشخصية.
النظام المصرفي
النقطة الخلافية الثانية هي النظام المصرفي. ثورة 17 تشرين قامت على مبدأين، الطابع السلمي والتغيير تحت سقف الدستور، ومن بين الشعارات التي رفعتها استعادة المال المنهوب ومحاسبة الناهبين الفاسدين. تأويل العبارة شكل مفترقاً بين أهل الثورة، إذ إن فريقاً منهم متحدراً من ثقافة اليسار والاقتصاد الماركسي أو من ثقافة الاقتصاد الإسلامي، وقف بحدة ضد القطاع المصرفي متهماً إياه بعملية النهب.
حين يذهب التأويل مذهب التحليل الماركسي لنهب القيمة الزائدة أو مذهب التفسير الإسلامي للربا والمال الحرام، فإن رأس المال المصرفي يكون مسؤولاً عن “نهب” أرباح، قد تكون مشروعة وقد لا تكون، لكنها أرباح شرعية أي مشرّعة بالقانون، وإذا كان لا بد من محاسبة لهذا النوع من النهب فالمحاسبة ينبغي أن تطال المسؤولين عن التشريع دون سواهم أو قبل سواهم.
وبناء على هذا التأويل ذاته، لا تكون المصارف مسؤولة عن هدر المال العام ولا عن الأموال المنهوبة. لذلك يبدو الهجوم على المصارف باسم الثورة بمثابة تغطية، من حيث يدري المهاجمون أو لا يدرون، على الناهب الحقيقي متمثلاً بالفساد السياسي. ففي حسابات القاصي والداني، الخبير والمبتدئ، المواطن اللبناني أو المؤسسات المالية الدولية، الثورة أو حكومات الدول الصديقة، بدا من المؤكد أن نصف المال المنهوب، أو نصف الدين العام المنهوب، يتحمله قطاع الكهرباء والمشرفون عليه منذ التسعينات حتى انفجار الثورة، وهو بالتالي تغطية على كل النهج السياسي لمعسكر الممانعة الذي ينتمي إليه المشرفون على هذا القطاع.
من ناحية ثالثة إذا كانت المصارف تتحمل جزءاً من المسؤولية، كبيراً كان أم صغيراً، فالثورة قررت من اللحظة الأولى أن يكون القضاء، وليس الثورة، هو الجهة الصالحة للمحاسبة. وبذلك يشكل الاعتداء على مقرات المصارف وواجهاتها وعلى البنك المركزي وفروعه خروجاً على الأسس والمبادئ التي قامت عليها الثورة، ولا سيما الطابع السلمي والتغيير تحت سقف الدستور. لكن ذلك لا يبرر لسلطة الفساد أن تتعامل مع الشعب الغاضب بوحشية غير مسبوقة.
النقطة الخلافية الثالثة تتعلق بهوية من نهضوا بالثورة بزنودهم وعقولهم ومبادراتهم الخلاقة. إنهم خيرة شباب لبنان وشاباته من جيل جديد مولود بعد الحرب الأهلية بدءاً من التسعينات أو من جيل مخضرم بعضه مولود قبل نهايتها، وبعضه متحدر منها وخاض معاركها وقرر أن يشارك الثوار في معركة الوحدة الوطنية وإعادة بناء الوطن والدولة.
هذه الأجيال المتباعدة الممتدة في الزمن من أحداث 1958 والحرب الأهلية 1975 حتى ثورة 17 تشرين، توحدت تحت الراية الوطنية من أجل بناء لبنان جديد على أنقاض وطن هدمته الإدارة السياسية الفاسدة التي توزعت وتقاسمت ثروة الوطن البشرية والمالية حصصاً في ما بين أطرافها وتسببت بانهيار مالي ونقدي واقتصادي غير مسبوق في تاريخ البلاد.
ثورة 17 تشرين اختصرت الكلام وحملت الطبقة السياسية مسؤولية الانهيار ورفعت شعار “كلّن يعني كلّن” ورفضت العودة إلى الانقسام بين 8 و14 آذار الذي ظهر في انتفاضة الاستقلال بعد اغتيال رفيق الحريري. شاركت في الثورة شريحة واسعة متحدرة من الانقسام الآذاري، ليس اعتراضاً على نهج السلطة فحسب، بل خروجاً على ذلك الانقسام بالذات وعلى قيم الحرب.
صحيح أنها ليست المرة الأولى التي تغيب فيها الأعلام الحزبية، والصحيح أيضاً أن غيابها هذه المرة نبع من تجذر الوعي بأهمية الوحدة الوطنية ومن تبوؤ جيل جديد مقدمة صفوف الثورة. معنى ذلك أن تلك الشريحة المتحدرة من الانقسام الآذاري ارتضت لنفسها أن تشارك في الثورة بغياب قياداتها التقليدية، وربما بحضورها المستتر وموافقتها الضمنية، وارتضت أن تكون قياداتها الحزبية مشمولة بتهم التقصير والفساد، على أن يتولى القضاء أمر محاكمتهم ويملك وحده حق القرار بالإدانة أو بالبراءة.
تلك الشريحة الواسعة تنتمي إلى أحزاب وتيارات عدة. هنا مكمن المعضلة. كيف للثورة أن تعترض على القيادات الحزبية باعتبارها جزءاً من السلطات المتعاقبة وأن تتعاون في الوقت ذاته مع المحازبين؟ والحل بسيط. على الثورة ألا تحل محل القضاء، وأن تظل متمسكة باتهام جميع المسؤولين والمطالبة بمحاسبتهم أمام القضاء وتحت سقف الدستور لا أمام القضاء “الثوري”.
أكثر من مئة مجموعة، بحسب أحصاءات “معاً لإنقاذ الوطن”، تمشي بين النقاط الخلافية بحثاً عن إطار يمكن لقوى الثورة أن تجتمع تحت رايته وأن تتابع مسيرتها بقيادته. المهمة ليست مستحيلة. إذا توفر الشرط الديموقراطي في العلاقة بين مكونات الثورة يمكن أن يتشكل مجلس أعلى للتنسيق بين هذه المجموعات، وأن يتوزع هذا المجلس بين ثلاث دوائر. في الأولى تتمثل المجموعات التي تلتزم بمبدأي السلمية والتغيير تحت سقف الدستور والتي تتعامل مع النقاط الخلافية الثلاث بكل المرونة اللازمة والحزم اللازم. وفي الثانية ممثلون عن الساحات والمناطق والقطاعات، وفي الثالثة ممثلون عن أحزاب السلطة المؤيدة للثورة، وفي الرابعة سائر المجموعات التي لا تجد لها مكاناً في الدوائر الثلاث الأولى.
قد يقال إنها خطة خمسية للثورة. لم لا؟ فالثورة اللبنانية ابتكار في عالم الثورات السياسية ويحق لها أن تبتكر أشكالها التنظيمية بصبر وأناة ومن غير استعجال، لأن زهر الثورة لن يعقد ولن يصير ثمراً ناضجاً بين ليلة وضحاها.
moukaled47@gmail.com