ألمحنا في مقالة سبقت إلى تحالف يضم أميركيين وعرباً وإسرائيليين، وزعمنا أنه يمثل تهديداً، لسلامة العالم وسلامه، بما هو أبعد بكثير من “الضم” ومصير الفلسطينيين، وإن يكن في هذا وذاك ما يقرع جرساً، ويصلح وسيلة إيضاح. على أي حال، هذه ضربة بعيدة المدى (a long shot) كما يُقال بالإنكليزية. فالفوائد، كما المجازفات، كثيرة.
لذا، ثمة ضرورة لمقاربة هذا الأمر من جوانب مختلفة. وطالما تكلمّنا عن خصوصيات إسرائيلية في معالجتين سابقتين، ربما حان الوقت للانتقال إلى خصوصيات أميركية، فما كان “للضم” أن ينتقل من حيّز الإمكان إلى عتبة التطبيق بهذه الطريقة، وحتى بلغة الصفقات والعقارات، دون وجود شخص من فصيلة ترامب في البيت الأبيض.
نعرفُ، طبعاً، مدرسة الحتميات التاريخية، والإكراهات الاقتصادية، والسياسية، والاستراتيجيات التي تتجاوز دور هذا الفرد أو ذلك في ترتيب الأولويات القومية خاصة إذا كان الكلام عن قوّة إمبراطورية كالولايات المتحدة. وما يمكن أن يُستمد من خلاصات في هذا الشأن صحيح، ولكن إلى حد ما فقط. فانتقال مركز الثقل في الاستراتيجية الأميركية من الشرق الأوسط إلى بحر الصين الجنوبي، أي على جبهة تبلغ مساحتها ثلاثة ملايين ونصف المليون كلم مربع، حقيقة سبقت ترامب وستبقى بعده، وضمان وجود وأمن وتفوّق إسرائيل، حقائق سبقت ترامب وستبقى بعده.
ومع ذلك، ما دون هذه الخطوط العريضة، وما يدخل في حكمها، يبقى مرشحاً للتأويل بطرق مختلفة، ويخضع لاجتهادات لا تتطابق، بالضرورة، بين هذه الإدارة أو تلك، وكذلك بين الجمهوريين والديمقراطيين. والأمثلة، في هذا الصدد، كثيرة، من الحرب على الإرهاب، إلى أسلمة العالم العربي، والعلاقة مع السعوديين، إلى الموقف من إيران والطريقة المُثلى للتعامل معها.
ومع هذا كله في الذهن، نقترح قراءات ومقاربات جديدة، ونكتفي بالتفكير، هنا، في موقف الأميركيين من المسألة الفلسطينية على مدار العقود الثلاثة الماضية، ما بين مأساة نهاية الحرب الباردة في الشرق الأوسط، وكوميديا المقاولين وتجّار العقارات في “صفقة القرن“. وبقدر ما أرى فإن التفكير في هذا الأمر يقودني إلى خلاصات لا تبدو متداولة على نطاق واسع في الأدبيات ذات الصلة.
فمن الخلاصات، مثلاً، أن الولايات المتحدة، ومنذ بدء “عملية السلام” في مؤتمر مدريد، كانت وسيطاً بين الفلسطينيين والإسرائيليين، وقد اتُهمت مراراً من جانب العرب والفلسطينيين بالتحيز والانحياز إلى الطرف الإسرائيلي. المرافعات ذات الصلة، في هذا الشأن، للتدليل عليه، أو نفيه، في بلدان مختلفة، تشبه الحركة الخاطفة للكرة بين اللاعبين على جانبي طاولة التنس.
ولكن، يمكن (وبالنظر إلى التاريخ الواقعي لانخراط ومبادرات الولايات المتحدة في “عملية السلام“) الاستغناء عن الفكرة السابقة برمتها لأنها غير مجدية وفائضة عن الحاجة. ومما هو أكثر جدوى، بالتأكيد، ثمة ما يبرر التفكير في دور الولايات المتحدة كوسيط بين “اليمين” و“العماليين” في إسرائيل، ومحاولة جسر الهوّة بينهما، وتحويل الحل الوسط بين الطرفين، إلى وساطة أميركية بين الإسرائيليين والفلسطينيين.
وبهذا المعنى، من المفيد إعادة النظر في “الوساطات” الأميركية، في مفاوضات مباشرة، ومن تحت الطاولة، وتفسيرها كخلاصة لميزان القوى السياسي والأيديولوجي بين المعسكرين الأساسيين في إسرائيل. وبناء عليه تفسير الانحياز الأميركي كتجسيد لميزان قوى في إسرائيل لا في أميركا، ولا في العلاقات العربية والفلسطينية ـ الإسرائيلية.
وفي السياق نفسه، أيضاً، يمكن التفكير في أن المعسكرين الكبيرين في إسرائيل (ونتيجة إدراك مسبق لحقيقة الموقف الأميركي كحل وسط بينهما) احتاجا لنقل معركتها إلى الولايات المتحدة، وإلى تجنيد الأنصار هناك. وبهذا نفسّر الانقسام بين اليهود الأميركيين على خلفية الانقسام في إسرائيل، وكانعكاس له، لا نتيجة عوامل وخصوصيات أميركية داخلية.
وبهذا المعنى، وإذا جاز القول إن العلاقة بين إسرائيل واليهود الأميركيين مفتوحة للتأثير المتبادل في الاتجاهين، يصح القول، أيضاً، إن التأثير القادم من جهة إسرائيل، وبقدر ما يتعلّق الأمر بدور أو أدوار محتملة للولايات المتحدة في الموضوع الفلسطيني، والشرق الأوسط، عموماً، هو الأكثر نفوذاً وفاعلية في الانقسامات والتحيزات المعروفة والمألوفة بين اليهود الأميركيين، وأصدقاء إسرائيل في نخبة السياسة والتجارة والمال والأعمال، والمجتمع الأميركي بشكل عام (الإنجيليين، مثلاً) في الولايات المتحدة. (لا يتسع المجال هنا، سنعود إلى هذه النقطة، وهي فائقة الأهمية، في معالجة لاحقة).
وإذا بقينا في السياق نفسه، يمكن تفسير التخلي عن قناع الوسيط، حتى نصف أو ربع النزيه، في زمن أميركا الترامبية، وتبني موقف اليمين القومي ـ الديني الإسرائيلي بالكامل، وبلا أدنى قدر من الحياء، بحقيقة حسم الصراع بين المعسكرين الكبيرين في إسرائيل، ونجاح اليمين في دحر “العماليين“، و“اليساريين“، ودعاة “السلام“، والهيمنة على الحقل السياسي الإسرائيلي. فحزب العمل، وريث مباي، الذي أنشأ الدولة، وقادها، وخاض كل حروبها، حتى العام 1977، لم يحصل على أكثر من ثلاثة مقاعد في انتخابات الكنيست الأخيرة، ويتصرّف كذيل لليمين.
وبهذا المعنى، لم تعد أميركا قادرة على صياغة موقفها كحل وسط بين طرفين إسرائيليين، طالما أن طرفاً انتصر على الآخر، ودحره إلى الهامش. وفي هذا السياق، يتجلى تبني أميركا الترامبية لموقف اليمين القومي ـ الديني في إسرائيل كترجمة موضوعية لموازين القوى في الحقل السياسي الإسرائيلي نفسه. ومع هذا كله في الذهن، فإن الشيطان في التفاصيل، كما يُقال، فثمة صورة أكبر، وما لا ينبغي أن يغيب. وهذا شغلنا في معالجات لاحقة.
khaderhas1@hotmail.com